1 - في بلاد الكرج
2 - في بلاد الروم
3 - جاه العبيد!
4 - قنصوه الغوري
5 - أحلام جارية
6 - عودة الماضي
7 - أطماع المماليك
8 - سلطان الشهوات
9 - شهددار
10 - آخرة ملك
11 - شعب يلهو
12 - خضاب العروس
13 - خطوات الزمن
14 - أنباء من الغيب
15 - دسائس القصور
16 - نداء القلب
17 - لفتات الذكرى
18 - أرقم الرمال
19 - حديث المدينة
20 - تحت ظل العرش
21 - بأي أرض تموت!
22 - شعب وحكومة
23 - وراء الأكمة
24 - حمامة السلام
25 - أدراج الرياح
26 - لغز الحياة
27 - نذير العاصفة
28 - أول الطريق
29 - شعاع من النور
30 - بوادر المعركة
31 - الثأر
32 - أب وأم!
33 - في زحام المعركة
34 - غبار الحرب
35 - الحرب سجال
36 - السهم الأخير
37 - آخر الطريق
1 - في بلاد الكرج
2 - في بلاد الروم
3 - جاه العبيد!
4 - قنصوه الغوري
5 - أحلام جارية
6 - عودة الماضي
7 - أطماع المماليك
8 - سلطان الشهوات
9 - شهددار
10 - آخرة ملك
11 - شعب يلهو
12 - خضاب العروس
13 - خطوات الزمن
14 - أنباء من الغيب
15 - دسائس القصور
16 - نداء القلب
17 - لفتات الذكرى
18 - أرقم الرمال
19 - حديث المدينة
20 - تحت ظل العرش
21 - بأي أرض تموت!
22 - شعب وحكومة
23 - وراء الأكمة
24 - حمامة السلام
25 - أدراج الرياح
26 - لغز الحياة
27 - نذير العاصفة
28 - أول الطريق
29 - شعاع من النور
30 - بوادر المعركة
31 - الثأر
32 - أب وأم!
33 - في زحام المعركة
34 - غبار الحرب
35 - الحرب سجال
36 - السهم الأخير
37 - آخر الطريق
على باب زويلة
على باب زويلة
تأليف
محمد سعيد العريان
تعريف1
بقلم طه حسين
كتاب رائع بأدق معاني هذه الكلمة وأوسعها وأصدقها في وقت واحد، كتاب من هذه الكتب النادرة التي تظهر بين حين وحين، فتحيي في النفوس أملا، وترد إلى القلوب ثقة واطمئنانا؛ لأننا نشعر حين نقرؤه بأن الحياة الأدبية في مصر ما زالت خصبة قوية قادرة على الإنتاج، وعلى الإنتاج القيم الممتع الذي لا تتردد مصر في أن تفاخر به، وفي أن تعرضه إذا عرضت الأمم الحية كتبها الممتعة وأدبها الرفيع.
كتاب لم يخرجه صاحبه إلا بعد جهد أي جهد، واستقصاء أي استقصاء، وعناء عنيف لا يحب أن يحتمل بعضه كثير من كتابنا الذين يحبون الطرق المطروقة والسبل المألوفة، ويكرهون أن يشقوا على أنفسهم بالقراءة المضنية والبحث المتصل، ثم بالتفكير فيما قرءوا والاستنباط مما بحثوا عنه، ثم بالعرض المتقن لما استنبطوا، وبالإبانة الرائعة عما أرادوا أن يقولوا لقرائهم، وكل هذا قد فعله الأستاذ محمد سعيد العريان، دون أن يظهر أحد على ما كلف نفسه من مشقة، وما حمل عليها من جهد، وما أخذها به من شدة في القراءة والبحث والاستقصاء، ثم بالفقه الجاد الحازم الذي لا يعرف ضعفا، ولا تخاذلا، ولا إيثارا للعافية، ولا كلفا بالنجح اليسير.
وقد أراد الأستاذ العريان أن يعرض طرفا من تاريخ مصر، من تاريخها العسير المؤلم الذي تكثر فيه الحوادث، وتلتوي بالمؤرخين وبقراء التاريخ جميعا، وهذا الطرف الذي يمثل انقضاء سلطان المماليك في مصر، وزوال الاستقلال المصري بأيدي الفاتحين من الترك العثمانيين، ويكفي أن أذكر هذا الموضوع ليشعر القارئ بعسره ومشقته، وما يفرض على من يريد تحصيله وتمثله من جهد وعناء. ثم لم يرد الأستاذ العريان أن يضع كتابا في تاريخ هذا العصر من عصور مصر، يعرض فيه الحوادث عرضا دقيقا مستوفيا للشروط التي يحرص المؤرخون على استيفائها، ولم يرد أن يتحدث إلى المؤرخين وحدهم، وإنما أراد أن يتحدث إلى المثقفين جميعا، فآثر مذهب القاص على مذهب المؤرخ، وأعمل خياله في الوقت الذي أعمل فيه عقله، فأضاف بذلك جهدا إلى جهد وعناء إلى عناء، ووفق في الأمرين جميعا توفيقا أعترف بأني لم أشهد مثله في الأعوام الأخيرة، التي خيل إلينا فيها أن الإنتاج الأدبي في مصر قد أفسده حب السهولة، وكاد يرده إلى العقم وكسل الكتاب والقراء جميعا.
أما من الناحية التاريخية فقد بدأ المؤلف حديثه بتلك السنين المضطربة التي انتهى فيها ملك السلطان قايتباي بين طمع الطامعين من الأمراء والولاة، ورؤساء الجند من المماليك، ومضى في طريقه حتى صور أبرع تصوير، وأقواه ما كان من اختصام هؤلاء الأمراء والولاة والرؤساء حول العرش أولا، وحول المنافع القريبة والبعيدة بعد ذلك، وما كان من تولية وعزل، ومن تتويج وخلع، ومن أسر وقتل، وما كان من كيد في القصر وخارج القصر، وما كان يجري على ألسنة الشعب من حديث، وما كان يضطرب في قلوبه من أمل، وما كان يخامر نفسه من يأس، حتى ارتقى السلطان الغوري إلى عرش مصر، فرد إلى الملك أمنه وإلى السلطان استقراره، ولكنه روع النفوس وملأ القلوب هلعا وفزعا ولوعة وحسرة؛ لإسرافه على الناس في الظلم، وإسرافه على نفسه في البخل، وتهالكه على جمع المال، يأخذه بحقه ويأخذه بغير حقه، ويطلق أيدي أعوانه في أموال الرعية، حتى يعم الفساد، وينتشر الخوف، وتظلم الحياة.
ثم يستأنف الكيد حول هذا السلطان الشيخ في القصر وخارج القصر، وفي مصر وخارج مصر، ثم ينتهي الأمر إلى الكارثة حين تنشب الحرب بينه وبين العثمانيين، وحين تنهزم الجيوش المصرية، لا عن ضعف ولا عن جهل، ولكن عن خيانة السادة والقادة والرؤساء، ثم تكون المقاومة الأخيرة الرائعة التي يبذلها شعب قد لقي من ظلم المماليك شرا عظيما، ولكنه على ذلك مؤثر لاستقلاله حريص عليه، يفضل أن يظلمه ملوكه وسلاطينه على أن يتحكم فيه الأجنبي، ولا تطيب نفسه عن هذه الإمبراطورية العظيمة ذات الأطراف المترامية في الشمال والجنوب وفي الشرق والغرب، وذات الألوية المنتشرة على البحرين جميعا، ولكن المقاومة لا تجدي على هذا الشعب البائس شيئا؛ لأن المماليك قد نحوه عن الأمر، فلم يعتمدوا عليه في تدبير الملك، ولم يقيموا سلطانهم على إرادته ورضاه، ولم يلتمسوا عنده الجنود المدربين، وإنما استغلوه استغلالا، ولم يحكموه لمصلحته هو، وإنما حكموه لمصلحتهم.
هذا كله يصوره المؤلف تصويرا رائعا، يروع بصدقه وقوته ودقته، وقرب مأخذه وبعده عن العسر والالتواء.
وأما الناحية الخيالية، فليست أقل من هذه الناحية التاريخية روعة وجمالا، ولعلها أن تكون أسحر منها للقلوب وأخلب منها للعقول، وأي غرابة في ذلك وطبيعة الخيال البعيد القوي أن يسحر القلوب، ويخلب العقول، ويشغل القارئ عن نفسه أثناء القراءة وبعد انتهاء القراءة.
والكاتب يبدأ قصته في ذلك الغور الذي كان مستودعا، يجد فيه المماليك مادتهم من الرقيق الذين يختطفون أو يختلسون أو يؤخذون عنوة، ثم يجلبون إلى القاهرة؛ ليتعلموا فيها فنون الحرب والحكم، ثم ليصبحوا جندا وقادة وأمراء وملوكا وسلاطين، وليدبروا أمر هذه الإمبراطورية الواسعة البعيدة الأرجاء.
نحن إذن في هذا الغور نشهد أما تعطف على ابنها الصبي بقلب يملؤه الحنان والحسرة، فهذا الصبي وحيدها، وهو عزاؤها عن أبيه الذي ذهب يطلب ثأر والده، فلم يعد إلى امرأته منذ عشر سنين حتى يئست من عودته، ووقفت حبها وأملها على هذا الصبي، فهي ترعاه يقظان، وتحرسه نائما، وهي كذلك ذات ليلة إذ تحس نبأة، فتخرج من خيمتها مستقصية ثم تعود فلا تجد ابنها؛ لأنه قد خطف كما يخطف غيره من أبناء الغور، وقد أقسمت أمه لتسعين في طلبه حتى تدركه أو يدركها الموت.
من هنا تبدأ القصة، ومن هنا يسلك بنا الكاتب طريقين متوازيتين؛ إحداهما: طريق الصبي طومان الذي يذهب به خاطفه إلى بلاد الروم، ثم إلى الإمبراطورية المصرية، حيث يباع لأمير القلعة في حلب، ثم يمضي مع سيده الذي يصبح عمه ذات يوم - وما أحب أن أفصل ذلك للقراء، فقد ينبغي أن يلتمسوا تفصيله في الكتاب - وما يزال الصبي طومان يمضي في طريقه إلى المجد، متحملا للخطوب، مصابرا للأحداث، مذللا للعقاب، حتى يرقى عمه عرش مصر، وحتى يصبح هو مستشاره وذراعه اليمنى في تدبير الملك، ثم خليفته على مصر حين يذهب للقاء العثمانيين، ثم خليفته على العرش بعد أن يقتل في الموقعة، ثم زعيم المقاومة المصرية حتى يتفرق عنه الجند منهزمين، ثم طريدا يغدره أعرابي فيسلمه إلى سلطان العثمانيين، ثم أسيرا يطاف به في القاهرة، ثم قتيلا قد علقت جثته على باب زويلة.
أما الطريق الثانية فهي طريق الأم التي خرجت من الغور تطلب ابنها، فهي تمر ببلاد الروم، ثم بالإمبراطورية المصرية، وهي تلقى في هذه الطريق أهوالا وأهوالا، وهي لا تعرف مكان ابنها إلا بعد أن يقتل الغوري ويصبح ابنها سلطانا، وهي تسعى لتلقاه، وتبلغ مصر مع المنهزمين، ولا تتيح لها الحرب لقاء ابنها على كثرة ما تحاول من ذلك، ولكنها تراه ذات يوم وفي آخر طريقها وفي آخر طريقه: جثة معلقة على باب زويلة!
وهاتان الطريقان لا تخلصان لطومان وحده ولا لأمه وحدها، وإنما هما ممتلئتان بضروب مختلفة من الناس، وبألوان متباينة من الأحداث والخطوب ، وبفنون متمايزة من الشخصيات: شخصيات الرجال الطامحين الطامعين، والضعفاء الأذلاء، والذين يترددون بين العزة والذلة، والذين يكيدون في سبيل المال، والذين يكيدون في سبيل الحب، والذين يكيدون في سبيل السلطان، والذين يعيشون للذاتهم، والذين يعيشون لعبادة الله والتخلص من أوزار الحياة الدنيا، وشخصيات النساء اللاتي يكدن ليدخلن القصر، ثم يكدن ليبلغن العرش، ثم تخرجهن الثورات من القصر فيكدن للعودة إليه، وتنزلهن الفتن عن العرش، فيمكرن ليرقين إليه مرة أخرى، كل هؤلاء وغير هؤلاء تكتظ بهم الطريقان.
والأشخاص في هذه القصة كثيرون، قد تفرقت بهم الطرق والتوت بهم المذاهب، واختلفت بهم وعليهم الأهواء، وهم مع ذلك لا يصرفون القارئ عن قراءته ولا يردونه عن غايته، وإنما يدفعونه إلى هذه الغاية دفعا، ليس منهم إلا من يثير في القارئ عاطفة حب أو بغض، أو رغبة في الاستطلاع، أو تذكرا لشخصيات أخرى من شخصيات التاريخ، أو تفكرا في بعض الأحداث والخطوب التي يشهدها هنا وهناك في حياة العصر الحديث.
قلت لك إنه كتاب رائع بأدق معاني الكلمة وأوسعها، وأصدقها في وقت واحد.
وإذا كان الناقد مستشارا للقراء، وإذا كان المستشار مؤتمنا كما يقال، فإني أشير على القراء أن يقرءوا هذا الكتاب، فسيجدون فيه أدبا رفيعا وتاريخا صحيحا، وتحليلا دقيقا وأسلوبا رصينا، لولا هذه الإنات التي يسرف بها الكاتب على نفسه وعلى الناس، لا في هذا الكتاب وحده، بل في كل ما يكتب، وأكاد أملي: في كل ما يقول!
بدأت حوادث هذه القصة منذ خمسمائة سنة في بلاد الكرج «جورجيا: موطن ستالين»، وانتهت بالقاهرة في قصور السلاطين.
الفصل الأول
في بلاد الكرج
على امتداد الطرف في أرجاء الغور المنبسط بين جبال القبج (القوقاز)، كانت تقيم قبيلة من أشد قبائل الجركس بأسا، وأعزهم نفسا، وأقواهم شكيمة في الحرب والسلم، وأحرصهم على الغلبة وإدراك الثأر ...
على أن هذه القبيلة على ما تهيأ لها من أسباب المنعة في أرضها هذه التي تكتنفها رءوس الجبال، منتصبة في كل ناحية كأنها أنياب الأسد، ومن قوة بأس أبطالها المغاوير ذوي الحفاظ والنخوة، لم يتعود أهلها الهدوء يوما على حال من الطمأنينة والسلام، فلم يزالوا - منذ كانوا - هدفا لغارات التتار، وغزوات التركمان، وبغتات تجار الرقيق؛ فقد اشتهر فتيان هذه القبيلة وفتياتها بصباحة الوجوه، ورقة الطباع، ولين الخلق، وجمال القوة؛ فإن كل ذي مطمح من أصحاب الجاه ليرنو بعينيه من وراء هذه الجبال المنيعة إلى فتى من فتيان هذه القبيلة، يتخذه ولدا أو يصطنعه بطانة وحاشية، أو إلى فتاة من فتياتها يؤاخيها على السراء فيتخذها حليلة أو جارية ... من أجل ذلك لم تنم هذه القبيلة ليلة من لياليها إلا على وتر، ولم تصبح إلا على غارة!
وفي ليلة من ليالي الربيع رقراقة النسيم معطارة الأرج، أوى أهل العشيرة إلى مضاربهم هادئين وادعين، وانسرحت أحلامهم إلى ما وراء هذه الجبال الشم، تطوف في الآفاق وراء بعض من فارقهم من الفتيان والفتيات منذ قريب أو من بعيد، راضين أو كارهين، إلى حيث يلقون الجاه والغنى والسعادة، أو حيث يحتملون الهوان والمذلة، وضيق العيش وأنكاد الحياة!
وكانت خيام العشيرة متناثرة على غير نظام، يقترب بعضها من بعض حينا، ويتباعد بعضها عن بعض أحيانا، وقد أسبغ الليل رداءه على الغور كله فلا بصيص من نور، وضرب الصمت على آذان الأيقاظ والنائمين من أهل الحي، فلا حس ولا حركة، إلا عواء كلب، أو ثغاء عنز، أو ضغاء طفل رضيع، وإلا زفيف الريح تضرب في مسالكها بين الخيام المتناثرة، فتضطرب الأطناب في أوتادها، وتهز البيوت هزة خفيفة كما تهدهد الأم وليدها في مهده لينام!
في تلك الليلة كانت نوركلدي ساهرة إلى جانب فراش ولدها طومان، لا يكاد يغمض لها جفن أو ترقأ لها دمعة ...
ذلك الصبي هو كل أسرتها التي تعتز بها حين يعتز الناس بأهليهم وذوي قرابتهم. لقد ذهب الجميع فلم يبق لها إلا هذا الصبي. طفل في العاشرة، ولكنها مع ذلك سعيدة به؛ لأن لها به أسرة ذات عدد!
لقد ذهب زوجها أركماس آخر من مضى، وخلفها وليس لها من الأهل وذوي الصهر والنسب إلا جنين يرتكض في أحشائها، فكانت هي وذلك الجنين كل الأسرة، لا تجد من تتحدث إليه أو يستمع إليها إلا حين تخلو إلى نفسها في تلك الوحدة الموحشة، فتمر براحتها على بطنها، وتتحدث إلى ذلك الجنين كأنه منها بمرأى ومسمع، وكأنه إنسان حي له عقل وأذنان ... وتتنبه أحيانا إلى نفسها فتسخر من تلك الأوهام التي تخيل إليها أن معها أحدا تتحدث إليه فيسمع منها، وأنه يحدثها فتسمع منه ... ولا شيء ثمة ولا أحد، إلا هي وبطنها ... هي وذاك الجنين، أو تلك الجنينة!
تلك كانت حالها منذ عشر سنين: امرأة بائسة منقطعة تعيش من الوهم في أسرة ذات عدد، فيها خيال الزوج الذي رحل إلى غير معاد، وخيال الطفل الذي أجنته في بطنها إلى ميعاد. ومضت بضعة أشهر منذ غاب زوجها، ثم انهتك حجاب الوهم عن حقيقة صريحة تراها بعينيها وتلمسها بيديها، وصار لها ولد ... هذا طفلها طومان بن أركماس: إنسان حي تستطيع أن تتحدث إليه وتسمع منه، وتقص عليه من خبر أبيه، ولكن أين أبوه الساعة؟
لقد كانت ليلة مشئومة تلك التي رحل فيها أركماس لأمر من أمره فلم يعد، لقد حدثها قلبها ليلتئذ أنه لن يعود، فتعلقت به - وقد هم أن يمضي - تتوسل إليه بعينين ضارعتين أن يبقى، فألقى يدها عن كتفه وضمها إليه برفق وهو يقول: سأعود إليك يا نوركلدي!
وارتكض الجنين ساعتئذ في أحشائها، كأن له عند أبيه أمنية كأمنية أمه ... ولكن أركماس لم يستمع إليه، فمضى ولم يعد منذ تلك الليلة، ولم يعرف أحد أين ذهب، وعاشت نوركلدي منذ تلك الليلة وحيدة هي وجنينها، ثم هي وابنها، ولكنها لم تقطع الأمل من لقياه، لقد وعدها، ولا بد أن يفي بما وعد، ولا بد أن تلقاه ...
وها هي ذي الليلة تعاودها الذكرى، فهي في خيمتها مع وليدها النائم، ولكن إلى جانبها خيال شخص ثالث ... «أركماس! أركماس! أين أنت الساعة يا زوجي الحبيب؟ أفلا يشوقك أن ترى ولدك إن كانت رؤية زوجتك الحبيبة لا تشوقك؟»
وأرسلت عينيها، ورفعت يد ولدها النائم إلى فمها برفق، فقبلتها قبلة وبللتها بدمعة!
لقد كان أركماس فتى عزيز الجانب، جريء القلب، عارم الخلق، لا يصبر على دنية ولا ينام على ثأر، وكذلك كان أبوه، ولكن أباه قد مات منذ سنين: كان في بعض المعارك فأصابته طعنة في ظهره فأردته قتيلا، وفر قاتله بدمه تحت الليل في ركاب قافلة من تجار الرقيق، وكان أركماس وقتئذ صبيا لم يبلغ الحلم، ولكنه أقسم أن يثأر لأبيه من قاتله أينما كان، وأن يناله ولو كان سلطانا على العرش ... وترادفت السنون ولم يزل أركماس يتربص لقاتل أبيه ويتقصى أخباره، حتى عرف أين يجده، فودع زوجته وخرج لوجهه فلم يعد ...
ترى أين هو الساعة؟ أفي الأحياء هو أم في الموتى؟ وماذا رد زوجته الليلة إلى ذكراه بعد تلك السنين؟
وتململ الغلام في فراشه، وفتح عينيه وتثاءب، والتقت عيناه بعيني أمه، وبادلها ابتسامة بابتسامة، ثم نهض إليها وطوقها بذراعيه، وطبع على خدها قبلة، وطبعت على جبينه مثلها.
وسمعت الأم في سكون الليل نباح كلب، فنهضت في خفة وأزاحت ستر الخيمة، وخرجت إلى الخلاء تتفقد غنماتها الجاثمة على مقربة تجتر. وعاد طومان فأوى إلى فراشه ثم أغفى ...
وكان نسيم السحر عطرا نديا، وقد عم الظلام وانتشر، فلا ضوء إلا ما ترسله هذه النجوم المرصعة في السماء، كأنها عيون تنظر من فروج الخباء!
وغابت نوركلدي قليلا عن ولدها ثم عادت، ولكنها لم تجد فتاها حيث كان، وكان فراشه لم يزل دافئا، فهتفت في قلق: «طومان!» ولكن طومان لم يجب أمه، وكررت النداء فلم يجبها إلا الصدى، وصرخت ...
واستيقظ رجال ونساء في الخيام القريبة، وتراكضت الأقدام في الطرق الملتوية بين مضارب العشيرة. وكان يتردد في الجانب الآخر من الحي صراخ واستغاثة أخرى، وذهبت طائفة من الناس هنا وطائفة هناك، وقال بعضهم لبعض في قلق وغيظ: نخاس!
وضمت كل أم وليدها إلى صدرها، فلو أطاقت لردته إلى بطنها جنينا، وانبث الرجال بين المضارب يتحسسون مواضع خطاهم، ويتعارفون بكلمة السر، يرجون أن يعثروا بذلك الغريب الذي اقتحم عليهم مضاربهم في هدوء الليل ليسترق أطفالهم ... ولكن ذلك الطارق الغريب قد اختفى أثره فلم يقف له أحد على خبر، وكأنما أعجلته صرخات الاستغاثة فلم يظفر من غارته تلك إلا برأسين اثنين: طومان ابن نوركلدي، ومصرباي بنت جركس، أما مصرباي فطفلة يتيمة لا أم لها ولا أب، وإنما تعيش في كنف سيدة عجوز من ذوي قرابتها، فليس يشق غيابها على أحد، وإنها لذات جمال وحيلة، فما أحرى ذلك أن يكفل لها من أسباب السعادة ما يهيئها لأن تعيش هانئة في قصر سلطان من سلاطين الروم، أو من سلاطين مصر. وأما طومان فوا حزنا! إنه كل شيء في حياة أمه المسكينة، وهي كل شيء في حياته ... يا للمسكين ويا للمسكينة!
اقتحم عليهم مضاربهم في هدوء الليل ليسترق أطفالهم.
وأصبح الناس وليس لهم حديث إلا أخبار أولئك النخاسين الغلاظ، الذين يطرقونهم حينا بعد حين، فيسترقون بنيهم وبناتهم، ويمضون بهم موفورين لا يعترض سبيلهم أحد؛ ليبيعوهم في أسواق حلب أو دمشق أو القاهرة!
وأصبحت نوركلدي باكية قد ذهب بها الحزن كل مذهب، تنادي فتاها، وتنادي زوجها، ولا مجيب، ومن حولها نساء يحاولن أن يجرعنها الصبر والسلوان ...
قالت واحدة منهن: الصبر يا نوركلدي! إن الأمر لأهون مما تقدرين، فماذا تظنين أن يصيب ولدك؟ إنه لذو عقل وجمال، وإن فيه مخايل من أبيه، فماذا تكون عاقبة أمره إلا أن يصير أميرا من أمراء السلطان في مصر أو في بلاد الروم، ينعم بالغنى والمجد والسعادة!
قالت نوركلدي: خلي عنك يا صديقتي! لقد كنت في غنى عن كل ذلك به، وكان في غنى بي، ومن لي غيره وقد ذهب أركماس!
قالت صاحبتها: يا أخية! إنك لتنظرين إلى حظ نفسك، فكيف لو رأيته غدا فارسا على سرجه يقود فرقة من المماليك، والعيون ترمقه من حيث اتجه؟ فما أرى النخاس الذي خطفه وخطف معه مصرباي إلا ذاهبا بهما إلى مصر، تلك البلاد التي تصنع السلاطين، ولعلهما غدا أن يصيرا سلطانا وسلطانة على عرش فرعون!
فتأوهت نوركلدي وقالت: يا ليت كل ذلك لم يكن ... لقد كنت أدخر طومان ليقفو آثار أبيه حتى يلقاه حيا أو يدرك ثأره!
ثم أطبقت راحتيها على وجهها واسترسلت في البكاء!
قالت عجوز في المجلس: هوني على نفسك يا ابنتي، أفلست تعلمين أن طومان اليوم أدنى إلى إدراك الثأر، وقد وضع قدمه على أولى درجات المجد؟ سيثأر لك ولأبيه من هذه العيشة الضنك التي تعيشين؛ فليس الثأر هو إدراك الدم، ولكنه إدراك المجد. أم لم يبلغك نبأ جاهنشاه التي باعت ولدها جانبلاط راضية لنخاس خوارزمي، ولم تقبض منه الثمن مالا تنفقه، ولكنها قبضت وعدا منه بألا يبيعه إلا لسلطان مصر؟ وقد بر النخاس بما وعد؛ فإن جانبلاط ابن جاهنشاه هو اليوم أمير ألف من مماليك السلطان قايتباي ملك مصر والشام وسيد البحرين، ومن يدري! فقد يكون جانبلاط غدا هو سلطان مصر والشام وسيد البحرين؟
كانت العجوز تتحدث وقد أرهف النساء آذانهن يستمعن إلى ما تقول في لهفة وشوق، والأحلام تحلق بهن في أودية بعيدة، وقد غفلن عن نوركلدي وأحزانها، فما كادت العجوز تنتهي من حديثها حتى ابتدرتها فتاة من عرض المجلس تسألها في لهفة: ماذا قلت يا أماه؟ جانبلاط ابن جاهنشاه أمير ألف ...؟
وغصت الفتاة بريقها فلم تتم، وتعاقبت على وجهها ألوان شتى، وعرف النساء ما بها؛ فرفت ابتسامة على كل شفة، لقد كن جميعا يعرفن ما كان بينها وبين جانبلاط، ذلك الذي كان يطمع أن يتخذها زوجة له، فصعرت خدها وردت يده كبرياء وأنفة، فأين هو اليوم منها وأين هي!
ثم استردت الفتاة أنفاسها وأردفت كأنما تعزي نفسها: ومن أين لك هذه الأخبار وأنت هنا وهو هنالك يا أماه؟
فاعتدلت العجوز في مجلسها وقالت باسمة: حدثني بها النخاس الذي ذهب به، لقد طرق هذه الحلة مساء أمس يسأل عن أمه ليقص عليها خبره، ولعله كان يطمع أن تدفع إليه الحلوان حين يزف إليها البشرى، ولم يكن يعرف أنها قد ماتت منذ عام! ولقيته أنا فحدثني ...
قالت الفتاة منكرة: حدثك أن جانبلاط قد صار أمير ألف ؟!
قالت العجوز ساخرة: نعم، وأنه قد تزوج واحدة من بنات السلاطين ... عرفت ذلك من نخاس خوارزم نفسه!
وكانت نوركلدي في شغل بنفسها عما يتحدث به النساء حولها، لا تكاد تسمع شيئا منه، فما كاد يطرق أذنها آخر حديث العجوز، حتى اتجهت إليها تسألها في اهتمام: نخاس خوارزم كان هنا أمس؟! - نعم!
قالت نوركلدي وقد عاد صوتها أكثر اطمئنانا وأمنا: الآن عرفت أين ذهب ولدي طومان ومن ذهب به ... آه من ذلك الوحش الغليظ الذي خطف ولدي فأثكلني بعد ترمل، وتركني وحيدة في أحزاني!
ثم هتفت في عزم: لا، لن أتركه يذهب به بعيدا، سأدركه، لا بد أن يعود إلي طومان العزيز! سألقاه ... سألقاه ... سأراه ثانية ولو لفظت آخر أنفاسي على الطريق إليه!
الفصل الثاني
في بلاد الروم
كان خان يونس الرومي في ظاهر مدينة قيسارية من بلاد الروم ملتقى لكثير من تجار المشرق؛ فقد كان على طريق الغادي والرائح - من هؤلاء التجار - إلى حلب ودمشق والقاهرة، أو إلى أرمينية وبلاد الكرج وما وراء الجبال، يأوون إليه في ذهابهم، وفي معادهم، يلتمسون الغذاء والدفء والمأوى، وكان يونس الرومي - صاحب ذلك الخان - مستودع أسرار هؤلاء النزلاء جميعا؛ فإنه ليعرفهم ويعرفونه منذ سنين بعيدة، وكثيرا ما كان واسطة تعارف بين بعضهم وبعض، وكثيرا ما ربط بينهم روابط تجارية وعقد صفقات رابحة ...
وكان أبو الريحان الخوارزمي من رواد ذلك الخان، يأوي إليه بغلمانه ذاهبا وآيبا، ويفضل على الخان وصاحبه من معروفه وبذله؛ فقد كان من أغنى تجار الرقيق في شرق بلاد الروم وغربها، وكانت تجارته هذه تكفل له من الربح ما لا يحسب معه حسابا لنفقاته ... على أن يونس الرومي لم يكن يستريح إلى الخوارزمي أو يطمئن إلى رؤيته؛ فقد كان إلى بذله ومعروفه فظا غليظ القلب فيه قساوة وجفاء، ولم يكن أحد غير يونس الرومي يعرف أنه ليس تاجرا من تجار الرقيق بالمعنى الذي يفهمه عملاؤه، ولكنه نخاس يسرق أبناء الحرائر وبناتهم من أحضان آبائهم وأمهاتهم؛ ليبيعهم في أسواق الرقيق، ويزعم أنه يشتريهم من عملائه في أران، وكرمان، وخوارزم ...
ففي ليلة من ليالي الربيع، بينما كان يونس يتهيأ للنوم بعد أن أدى ما عليه للنزلاء من حق، وأغلق باب الخان، سمع طرقا على الباب، فأزاح الغطاء عن جسده، وحمل شمعة موقدة في يده، وقصد إلى الباب ليرى من ذلك الطارق بليل ... وكان الطارق أبا الريحان الخوارزمي، وفي يديه فتى وفتاة يجرهما جرا في قسوة وغلظة، فما كاد ينفتح له باب الخان حتى دفع أمامه الفتى والفتاة ودخل وراءهما، ثم جلس وجلسا بين يديه صامتين، يتبادلان نظرات حزينة فيها انكسار وخوف، على حين ارتفع صوت أبي الريحان خشنا جافيا يقول ليونس: ما لك واقفا كذلك كأنما أصابك المسخ؟ اذهب فهيئ لنا عشاء طيبا وفراشا وطيئا، إنني وهذين الخبيثين لم نذق طعم الغمض منذ ثلاث، ولم نطعم شيئا منذ أمس!
ورفت على شفتي الفتاة ابتسامة خابية وهمت أن تقول شيئا ثم أمسكت، وقال الفتى متحديا وفي عينيه بريق العزم والفتوة: أما أنا فلن أطعم شيئا من الزاد حتى تنبئني أين تذهب بنا!
فصرت أسنان الخوارزمي في غيظ، ثم اصطنع الهدوء والرفق وقال في صوت ناعم: ويحك يا غلام! انظر إلى مصرباي الجميلة الهادئة، لقد كنت أحسبك أعقل منها وأكثر إدراكا لحقيقة الحال، أفلم أنبئك ...؟
قال الفتى معاندا: نعم، ولست أريد إلا أن أرجع إلى أمي ...
فربت أبو الريحان على كتفه حانيا وهو يقول: حسبك يا طومان ولا تذكر أمك، فما أظنك تراها بعد. إنك منذ اليوم لست ابن نوركلدي، ولا أبوك هو أركماس ... انس ذلك كله كأن لم يكن، فما وراء التذكر إلا الألم والندم ... وليس إلى ما فات من سبيل، فهيئ نفسك لغدك، يوم تصير مملوكا في حاشية السلطان قايتباي، أو أميرا من أمراء جنده! ...
قالت الفتاة باسمة: يا عم ...
قال الخوارزمي غاضبا: ماذا؟ حسبتك قد فهمت كل ما هنالك فلن تعودي إلى ذلك الحديث، أفلا يرضيك أن تكوني غدا سلطانة على عرش مصر؟!
وعاد يونس الرومي يحمل إلى نزلائه طعام العشاء، فكفت الفتاة عن الحديث، وكف الفتى، وأقبل أبو الريحان على طعامه لا يعنيه من أمر أحد شيء، فلما أوشك أن يفرغ ما بين يديه من الطعام، وقد امتلأ بطنه حتى اكتظ، أقبل على الغلامين قائلا: أفلا تتبلغان بشيء، أم تريدان أن تموتا جوعا؟
ونظر إلى الفتى نظرة، ثم عاد ينظر إلى الفتاة مثلها وهو يقول: كلي أنت يا بنية، إن أخاك قد أجمع أمره على أن يموت أو يعود إلى أمه، وهيهات أن يبلغ من ذلك شيئا!
ثم مد يده إلى الفتاة بفلذة من اللحم، فأخذتها من يده وراحت تأكل في نهم، حتى أتت على كل ما أفضل لها سيدها من الطعام، والفتى ينظر إليهما محزونا لا يكاد ينبس ببنت شفة ...
ثم عاد يونس الرومي ينبئ السيد وغلاميه أنه قد هيأ لهم الفراش للنوم.
ومضى الثلاثة في أثر يونس إلى غرفتهم فأغلق عليهم بابها، وعاد إلى غرفته وهو يهمس لنفسه: ويل له! ترى من أين اختطفهما، وماذا خلف وراءه من حسرات!
كان جقمق الأشرفي تاجر الرقيق من نزلاء خان يونس في تلك الليلة، وكان رجلا كثير الرحلة بين مصر والشام وبلاد الروم؛ ليتسوق المماليك، وكان له مكان ملحوظ في بلاد السلطان الأشرف قايتباي صاحب مصر لذلك العهد، فقد كان الأشرف حريصا على أن يزيد عدد مماليكه؛ ليكون له منهم جيش قوي يرد به عادية الأمراء الذين ينافسونه على العرش في داخل بلاده، ويدفع به عن مملكته عدوان المغيرين من أمراء البلاد المجاورة، وكان ملك قايتباي يمتد من صحراء ليبيا إلى حدود بلاد الروم شرقا وغربا، ومن بحر الروم إلى حدود اليمن وما وراءها جنوبا وشمالا، على أنه لم يكن يخشى أحدا من أمراء البلاد المجاورة خشيته ابن عثمان ملك الروم، من أجل ذلك كان دائما على الأهبة، فلم يكن له هم إلا زيادة جيشه بما يجلب له التجار من المماليك الذين يتسوقونهم من بلاد المشرق، أو يظفرون بهم من سبي الروم والفرنجة. وكانت وظيفة «تاجر المماليك» في ذلك العهد وظيفة رسمية من وظائف الدولة، لها إقطاع يساوي إقطاع بعض أمراء البلاط! وكان جقمق هذا واحدا من أولئك التجار الذين يركن إليهم قايتباي فيما يريد من هذا السبيل، وكثيرا ما باعه من جلبانه غلمانا رقي بهم السعد حتى بلغوا مرتبة الإمارة في البلاط ...
على أن جقمق في هذه الرحلة لم يكن قد وفق إلى شيء يطمع أن يحوز به رضا السلطان، فلم يقع له في رحلته إلا غلام رومي اسمه خشقدم. وهو فتى فيه مخايل من ذكاء وفطنة، وفيه خبث وتدبير وكيد، وله إرادة وعزم ... ولكنه غلام واحد ...
فلما أشرق الصبح، التقى في بهو الخان أبو الريحان الخوارزمي وجقمق الأشرفي، ووقعت عين التاجر على الفتى والفتاة فرأى صيدا سمينا ... فما كانت إلا صفقة يد، حتى انتقل طومان ومصرباي من يد نخاس خوارزم إلى ملك جقمق الأشرفي ... ومضى كل من الرجلين في سبيله!
لم تكن الأمور في ذلك الوقت بين بايزيد العثماني والأشرف قايتباي سائرة على نهج الصفاء والمودة؛ فإن كلا منهما ليتربص بصاحبه غرة يناله بها أو ينال منه، ولم يكن خافيا على ابن عثمان أن عدوه قايتباي إنما يتكثر بهؤلاء المماليك المجلوبين ليتهيأ لحرب الروم بالعدد الجم، فمنع تجار الرقيق المصريين أن يمروا ببلاده، ورسم لجنده أن يقبضوا على كل تاجر منهم يظفرون به في بلد من بلاد الروم، وكان أولئك التجار يعرفون ما ينتظرهم لو دخلوا بلاد الروم، ولكن ذلك لم يصدهم عما أرادوا، ومن أين لهم أن يظفروا بمثل المماليك الذين يجتمعون لهم من طريق بلاد الروم، من أبناء الروم أنفسهم، أو من الجركس والتركمان؟ من أجل ذلك لم يكن لينقطع وفود هؤلاء التجار إلى بلاد ابن عثمان ملك الروم، فمنهم من يعود ظافرا، ومنهم من تقع عليه عين السلطان فيساق إلى الاعتقال، فما كاد جقمق الأشرفي يخرج بغلمانه من خان يونس، حتى بصر به جند السلطان بايزيد، فسيق إلى الأسر، وسيق معه جلبانه الثلاثة: طومان، ومصرباي، وخشقدم. وارتد إلى العبودية السيد وعبيده!
الفصل الثالث
جاه العبيد!
جلس الأشرف قايتباي على عرش مصر بضعا وعشرين سنة، وبلغ الشيخوخة ولم يزل ولده محمد صبيا لا يصلح لولاية العهد كما يأمل أبوه. على أن وراثة العرش لم تكن أمرا مألوفا في مصر لذلك العهد، وما كانت ولاية قايتباي نفسه عرش مصر وراثة عن أب أو جد، فما هو إلا مملوك اشتراه سيده بخمسين دينارا، فلم يزل يرقى به السعد درجة بعد درجة حتى بلغ أسمى مناصب الدولة، ورفعته مواهبه للعرش حين خلا العرش من سلطانه، فتولاه كما تولاه كثير ممن سبقه من سلاطين المماليك: كلهم أرقاء لا يعرف لأكثرهم آباء ولا أمهات، قذفتهم المقادير إلى تلك البلاد التي تصنع السلاطين فصنعتهم سلاطين، ومنهم من فكر في أن يجعل العرش وراثة في ولده، ولكن التاريخ لم يكتب لواحد من أولئك الذين تولوا العرش وراثة عن آبائهم النجاح الذي يجعل توريث العرش فكرة ذات قرار ...
فلما بلغ السلطان قايتباي ما بلغ من العمر وعرقته الشيخوخة، راح كل واحد من أمراء المماليك يفكر في العرش، ويهيئ أسبابه للوثوب إليه. وقد اجتمع في عصر قايتباي طائفة من أمراء المماليك لم يجتمع مثلهم لسلطان من سلاطينهم، فكان اجتماعهم قوة لقايتباي في أيام قوته وعنفوانه، وضعفا في أيام ضعفه وهوانه!
كان هناك الأمير تمراز، والأمير أزبك، وأقبردي الدوادار، وقنصوه الخمسمئي، وكان هناك الصبي محمد بن قايتباي، وكان هناك قنصوه الغوري ...
كل أولئك كانوا يطمعون في عرش قايتباي من بعده، ويتربصون به ... ولكن اثنين منهما كانا يتعجلان النهاية ليبلغا العرش قبل الأوان، هما أقبردي الدوادار، وقنصوه الخمسمئي.
أميران يملكان المال والعتاد، ولكل منهما جيش من المماليك والأتباع، وله في قلوب الشعب مكان. وكانت المنافسة بينهما سافرة حينا، ومنتقبة أحيانا، والسلطان الشيخ يرى ويسمع ولا يكاد يصنع شيئا.
وكانت نذر الحرب بين قايتباي وجيرانه تترادف عليه مع البريد يوما بعد يوم؛ فهناك ابن عثمان صاحب بلاد الروم، وإسماعيل الصفوي سلطان العجم، وجند سوار صاحب مرعش وديار بكر، وقراصنة البحر من الفرنجة ... وولده الذي يريد أن يورثه العرش لم يزل صبيا لم يبلغ حد التمييز ...
لا بد من مماليك جدد يتكثر بهم من قلة ويتقوى من ضعف، ولا بد لذلك من مسالمة ابن عثمان ملك الروم!
وخرج جاني بك حبيب - سفير الأشرف قايتباي - إلى ملك الروم في هدية حافلة، ساعيا في الصلح بينه وبين سلطان مصر والشام والحرمين: الأشرف قايتباي.
ونجحت السفارة، وأطلق ابن عثمان من في حبسه من تجار الرقيق المصريين، وخرج جقمق الأشرفي من بلاد الروم ومعه غلمانه الثلاثة: طومان، ومصرباي، وخشقدم الرومي. وانتهى إلى حلب، فحط رحاله يستريح أياما، ويستروح نسيم الحرية في أرض مصرية، بعد أن لبث سنتين أو يزيد معتقلا في بلاد الروم! وكان قنصوه الغوري وقتئذ نائب قلعة حلب!
هذه مدينة حلب ... أولى مدائن الشام مما يلي بلاد الروم، حيث يلتقي كل يوم مئات من الغرباء على غير ميعاد، ويفترقون إلى غير معاد ...
وهذا جقمق الأشرفي يسوق غلمانه إلى خان مسعود، حيث يأمل أن يجد مأوى مريحا وطعاما شهيا، ومن ذا يقصد مدينة حلب من الغرباء ولا يلتمس الراحة في خان مسعود؟!
ولكن خان مسعود كان في ذلك اليوم غاصا بنزلائه، فليس فيه غرفة واحدة خالية من النزلاء ليأوي إليها جقمق وغلمانه، فبينما هو يهم بالرجوع ليلتمس ضيافة عند بعض أصحابه في المدينة، إذ دعاه صاحب الخان وعرض عليه أن يشارك بعض النزلاء في غرفته ريثما تخلو له غرفة أخرى، فأجابه جقمق وحط رحاله، وكان شركاؤه في الغرفة الكبيرة التي تطل شرفاتها على الدرب الواسع هم ملباي الجركسي وأولاده.
وكان ملباي هذا رجلا من أهل صمصوم، بالقرب من بلاد الكرج، قد استهواه المجد فخرج بأولاده الأربعة إلى مصر، يريد أن يهبهم للسلطان الأشرف قايتباي ليكونوا جندا من جنده ...
أربعة في سن الشباب، لم يدخلوا تحت رق قط، ولم ينتزعهم من أحضان أمهاتهم نخاس، يسعون مختارين، أو يسعى بهم أبوهم ليقدم أعناقهم للرق؛ طمعا في الإمارة والسلطان ...
أربعة أحرار، يحسدون الأرقاء على بعض ما أولاهم الله من نعمته، فيبيعون حريتهم طائعين ... يا عجبا! ولكن لماذا العجب ؟! أليس الرق هو الذي صنع كل أولئك السلاطين الذين يتوارثون عرش فرعون منذ أكثر من مائتي عام؟! فماذا يعيبهم أن يسلموا أعناقهم للرق؛ ليرتقي بهم الرق إلى العرش؟! ليس يعنيهم ماذا تكون الوسيلة ما دامت الغاية هي الإمارة والجاه والسلطان!
ولقي جقمق الأشرفي تاجر المماليك شركاءه في الغرفة، وعرف من أمرهم ما عرف، فابتسم مغتاظا وهو يقول لملباي: ولكنك يا سيدي تقامر بأولادك، فمن أين لك أن يصيروا كلهم أو بعضهم أمراء؟ أفلست تخشى أن يبقوا مماليك ويخلدوا في الرق، لا تفك رقابهم ولا يملكون أن يعودوا إلى الحرية؟ أم تحسب أن كل مملوك في «الطبقة» أهل للإمارة فلا بد أن يترقى حتى يبلغ العرش؟
وهم ملباي أن يجيب، ولكن ولده خاير ابتدر الحديث قائلا: يا سيدي، هذا كلام يقال، فهل تراني أو ترى أحدا من إخوتي هؤلاء أقل أهلية للإمارة من مثل غلامك هذا، الذي لا يعرف له أبا غير النخاس الذي أدمى أذنيه، يقوده منهما على طول الطريق كما يقاد الحمار!
وكان طومان الصغير جالسا يستمع إلى حديث أستاذه وجواب خاير بن ملباي، فما كاد يرى إشارته إليه ويسمع حديثه عنه حتى غلى دمه وثارت كبرياؤه، كأن لطمة أليمة قد نالته، فصاح مغضبا: صه يا فتى، إنني لأرفع نفسا منك ومن أبيك هذا الذي يدفعك إلى الرق مختارا؛ ليزهو بأن ولده عبد من عبيد السلطان!
ثم اندفع نحوه وعيناه تقدحان الشرر، فلولا أن قبض أستاذه على ذراعه لوثب إلى خاير بن ملباي فمزق وجهه وأدماه؛ ليثأر منه لتلك الإهانة البالغة!
وغرق الجميع في الصمت مذهولين، فما كان ليدور بخاطر واحد منهم أن يجرؤ ذلك الصبي القابع في هدوء خلف أستاذه، على أن يرفع صوته ويده في وقت معا في وجه شاب أيد مثل خاير بن ملباي، ونالت المفاجأة من خاير بن ملباي نفسه، فلم يتحرك ولم تنبس شفتاه بصوت، وأحس - على صلابته وقوة ساعده - أنه ضئيل صغير، لا يكاد يملك دفاعا عن نفسه، فتمتم في صوت خافت : ماذا قلت؟
أجاب جقمق: لا شيء! لا شيء!
قال طومان وهو يحاول أن يفلت من قبضة أستاذه، ولم يزل في سورة غضبه: سيدي! دعني أنبئ هذا الفتى بما يريد أن يعرف ...
قال جقمق ولم تخف قبضته على ذراع طومان: اسكت يا غلام، إن خاير لم يحاول إهانتك، ثم إن له عليك حق الأخ الكبير، وقد كانت بادرة ...
قال طومان: إنه ليس أخي، وليس يعرف مثله مثلي، ولا أبوه أبي!
ثم تخلص من قبضة أستاذه برفق، وخطا خطوة إلى الشرفة يتلهى بالنظر إلى المدينة التي تموج بالغرباء، ويتبع عينيه خطا الغادين والرائحين في الدرب الواسع!
فلولا أن خاير بن ملباي فر من بين يديه معجلا لسال بينهما دم.
ومضى يومان قبل أن تخلو غرفة أخرى في خان مسعود فينتقل إليها جقمق وغلمانه؛ لتخلو الغرفة الأولى لملباي وأولاده. ولكن عوامل الاحتكاك مع ذلك لم تزل بين طومان وخاير بن ملباي، فلم تكن تلك المشادة الحامية هي كل ما نشب بينهما من معارك في الأيام القليلة التي قضياها معا نزلاء في خان مسعود؛ بل إن المعارك التالية كانت أعنف وأشد، فقد صعد طومان ذات صباح إلى سطح الخان لأمر من أمره، ثم هبط سريعا خفيف الخطا، فإذا خاير ومصرباي في خلوة يتحدثان حديثا رأى لونه في خديها وشفتيها، فثار لعرضه ثورة بدوي وتناول السكين، فلولا أن خاير بن ملباي فر من بين يديه معجلا لسال بينهما دم! ولم لا؟! أليست مصرباي صديقته وأخته، وعليه أن يحميها ويدفع عنها؟ والتفت طومان إلى الفتاة التي آخاها عامين على السراء والضراء، منذ فر بهما نخاس خوارزم من مضارب الغور، ولكن الفتاة أولته ظهرها معرضة كأنما لا يعنيها شيء من ذلك الأمر.
لقد فتنها خاير بن ملباي بشبابه وصباحة وجهه، ورقة حاشيته، وعذوبة منطقه، فمالت إليه وأعرضت عن صديقها الصغير ...
وظن طومان أنه مستطيع أن يستعدي زميله خشقدم على خاير؛ دفاعا عن صاحبتهما مصرباي، فراح يحدثه ويطلب معونته، واستمع إليه خشقدم حتى فرغ من جملة حديثه، ثم ذهب إلى خاير بن ملباي فأفضى إليه بسر المحالفة؛ استجلابا لمودته!
وساء ما بين طومان وبين أصحابه جميعا، فانطوى على نفسه حزينا يائسا، وعرف منذ اليوم في أي جو من الكيد والغدر والنفاق يعيش الأرقاء، لقد عرف مصرباي، وخشقدم، وخاير بن ملباي، فهل هم إلا صورة من آلاف الأرقاء الذين يعيشون في دور الأمراء وفي قصور السلاطين!
فكيف يعيش منذ اليوم طومان ابن نوركلدي وأركماس!
الفصل الرابع
قنصوه الغوري
كانت الفتنة ناشبة في القاهرة بين أقبردي وقنصوه الخمسمئي؛ تنافسا على العرش، على حين كان سائر الأمراء العظام يتربصون منتظرين، وكان قنصوه الغوري وحده في حلب، يدبر لأمر ما في هدوء وصمت، كأنما لا يعنيه من أمر تلك الفتنة شيء ...
لم يكن الغوري يومئذ بالمنزلة التي تسمح له أن ينافس على عرش مصر أقبردي الدوادار وقنصوه الخمسمئي، نعم إنه من أقدم مماليك الأشرف قايتباي وأدناهم إليه منزلة، ولكن أين هو من أقبردي وقنصوه الخمسمئي؟ وأين وسائله للكفاح؟ إنه لا يملك المال الذي يصطنع به الأشياع، ولا الجاه الذي يتكثر به من الأتباع، وليس له كغيره من الأمراء جيش من المماليك يعده للهجوم والدفاع، فمن أين له أن يبلغ ما يأمله؟ ولكنه إلى ذلك يملك الصبر والحيلة، أفليس يسعه الانتظار حتى يتفانى هؤلاء الأمراء العظام ويأكل بعضهم بعضا، فينفرد في الميدان؟ بلى، وإنه ليستطيع إلى ذلك أن يتعجل آخرتهم بما يزين لهم من الأماني، فإذا وثب بعضهم على بعض سقط الضعيف وانتهى أمره، وانحلت عروة القوي فزال خطره، ومن ذا يبقى في طريقه إلى العرش بعد تمراز الشمسي، والأمير أزبك، وأقبردي الدوادار، وقنصوه الخمسمئي؟ من ذا يبقى في طريقه إلى العرش بعد هؤلاء؟ محمد بن قايتباي، ذلك الصبي الذي لم يبلغ حد التمييز؟! نعم، وإنه لأقواهم جميعا، أفليس هو ابن الأشرف قايتباي سيده ومولاه، فحسبه بذلك قوة! ولكن من ذا يزعم أن هذا الطفل سيبقى فلا تطؤه أقدام أولئك العماليق، وهم يتصارعون بين يدي العرش؟
أفيمكن هذا؟ أفيكون عرش مصر لقنصوه الغوري يوما ؟ أفيبلغ هذا الأمل بالصبر والحيلة، حين لا مال معه، ولا جاه، ولا جند؟ لقد جاوز الخمسين ولم يزل أميرا، نائبا لقلعة حلب، وهناك مماليك أحدث منه عهدا في «المملوكية» قد بلغوا عرش السلطنة ولم يبلغوا الأربعين!
يا ليت ذلك الحلم يتحقق! وماذا يمنع؟ إن الأقدار لتمده بما لم يكن يتوقع من المعونة: لقد غادر بلاده منذ ثلاثين سنة - مطلوبا بثأر - في ركاب قافلة من تجارة الرقيق، لا يدري أين تسعى به قدمه، حتى انتهت به المقادير إلى مصر رقيقا يساوم عليه بالمال، ثم لم تمض إلا سنوات حتى كان مملوكا من مماليك «الخاصة» في حاشية السلطان قايتباي، ومضى يترقى في درجات المملوكية درجة بعد درجة، حتى بلغ أن يكون نائب قلعة حلب، وصار أميرا من أمراء السلطان يشار إليه بالبنان، فهل كان يأمل أن يبلغ هذه المنزلة يوما؟ فماذا يمنع أن يبلغ أرفع منها فيصير سلطانا؟ أيكون ما بينه وبين بلوغ رتبة السلطنة أبعد مما كان بين ماضيه وحاضره؟
إنه لموقن يقينا لا شبهة فيه أن الأقدار تعينه وتمهد له الطريق، وتهيئ له من الأسباب ما لا يخطر له على بال، فقد تعقبه أركماس من بلاد الكرج إلى القاهرة ليأخذ منه ثأر أبيه، ولقيه وجها لوجه، وأمكنته الفرصة منه، وجرد أركماس سيفه وهم أن يضربه الضربة القاضية، ولمع على رأسه السيف فلم يكن بينه وبين الموت إلا أن يهوي على رأسه فيقده قدا، وفجأة حدثت المعجزة، وتدخلت الأقدار في اللحظة الأخيرة، فبرز في الطريق جمل هائج، فألقى أركماس على الأرض وداسه تحت أخفافه، ونجا الغوري، فمضى في طريقه لم يتلفت ولم ينظر وراءه، وانمحى الثأر والثائر، أفليس ذلك تدبير الله؟ أليس فيه الدليل على أن الأقدار تدخره لأمر عظيم، تهيئ له أسبابه وتمهد طريقه؟ بلى، فماذا يمنع أن يبلغ رتبة السلطنة، وأن يجلس على عرش مصر، وأن يذهب تمراز، وأزبك، وأقبردي، وقنصوه الخمسمئي، يذهبون جميعا ويأكل بعضهم بعضا، فلا يجلس واحد منهم على عرش مصر، ويجلس عليه قنصوه الغوري ... بالصبر والحيلة!
هكذا كان يحدث الغوري نفسه وهو وحيد في مجلسه من قلعة حلب، حين جاءته الأنباء من القاهرة بما ثار من الفتنة بين أقبردي الدوادار وقنصوه الخمسمئي في سبيل المنافسة على العرش، وقال لنفسه مبتسما: الصبر حتى يأكل بعضهم بعضا ويتفانوا؛ حينئذ يخلص لك الطريق إلى عرش مصر، أيها ... أيها الأفاق المطلوب بالثأر من أقصى بلاد الأرض!
وقهقه قهقهة عميقة تردد صداها بين جدران المجلس، ثم نهض فلبس ثيابه، وأخذ زينته وخرج إلى الطريق لا يتبعه أحد من غلمانه. وما حاجته إلى غلام يتبعه وليس في حلب كلها إلا صديق يحبه ويفتديه بدمه!
فإنه ليمشي في طريقه بأحد دروب حلب، إذ لقيه صديقه جقمق الأشرفي تاجر المماليك، وكان زميله في «الطبقة» منذ بضع وعشرين سنة، حين كانا مملوكين يتلقيان أصول العلم في مدرسة المماليك بالقلعة، ويتدربان على أساليب الحرب والفروسية، وكان كل أملهما في ذلك الزمان البعيد أن يترقيا درجة فيخرجا من مماليك «الطبقة» ويصيرا من المماليك «الخاصة»، الذين يركبون في مواكب السلطان ويختصون بصحبته!
وإنهما اليوم لأميران من أمراء السلطان!
قال جقمق ضاحكا: ومع ذلك فها أنا ذا أراك تمشي وحيدا في المدينة لا يتبعك غلام، كأنك لا غلام لك، وأنت نائب قلعة حلب!
قال الغوري: وهل عندك غلام تخص به صديقك نائب قلعة حلب؟
فبرز في الطريق جمل هائج فألقى أركماس على الأرض، وداسه تحت أخفافه.
قال تاجر المماليك: غلامان وجارية إذا أردت، إلا أن يبدو لك أن تستغني بالغلامين عن الجارية، وإن فيهما لغناء ومتعة!
فوضع الغوري كفه على فم صديقه وهو يقول: صه! إنك لا تزال مهذارا كعهدي بك منذ كنت، فاذكر أنك اليوم تتحدث إلى نائب قلعة حلب!
وكانا قد بلغا في مسيرهما خان مسعود، فودع جقمق صاحبه الغوري، ودخل الخان يتفقد شئون غلمانه.
ولقي جقمق جاره ملباي في بهو الخان، فقال له ملباي: الآن أستودعك الله يا صديقي؛ فقد
قال جقمق آسفا: أكذلك تفارقنا سريعا! لقد كنت أحسبك مقيما معنا في حلب أياما أخرى، حتى يتهيأ لي أن أجمع بعض الغلمان فنصطحب في الرحلة!
قال صاحب الخان مشاركا في الحديث: فإن بين نزلائنا الليلة جاني باي الخشن تاجر المماليك، وأحسبه سيبدأ رحلته غدا إلى القاهرة، ومعه عصبة من أقارب السلطان عاد بهم من بلاد الجركس ... فإن شاء ملباي رافقه في الرحلة.
قال جقمق: جاني باي هنا؟ فإني أريد أن ألقاه ...
وحضر جاني باي، فما كاد يراه صديقه جقمق حتى أسرع إليه فاعتنقه بشوق، ثم استدار بهم المجلس يتبادلون فنونا من الأحاديث حتى تقدم الليل، فافترقوا وذهب كل منهم إلى مضجعه لينام.
فلما كان الصباح، بصر طومان بخاير بن ملباي يتمشى ثقيل الخطو عند باب الغرفة، حيث كانت مصرباي جالسة بين يدي مولاها وفي وجهها أمارات القلق واللهفة، فأدرك طومان ما بين جنبيها من السر، وهمس لنفسه قائلا: يا للمسكينة! لقد غلبها الفتى على أمرها، ولكن لا بأس، فسيذهب من وجهها بعد ساعات فلن تراه بعد، وتنجو الشاة من سكين الجزار!
ولكن صوت سيده لم يلبث أن رده إلى فكر جديد حين سمعه يقول: اسمعي يا مصرباي! ستكونين يا ابنتي منذ اليوم تحت يد صديقي جاني باي، وستصحبينه في رحلته غدا إلى القاهرة، حيث أرجو لك أيتها العروس الصغيرة حظا سعيدا ...
ثم صمت برهة ونظر إلى طومان وخشقدم، فإذا في أعينهما سؤال حائر، فأردف قائلا: أما أنتما يا طومان وخشقدم فستبقيان هنا في حلب ... ولعل القدر يهيئ لكما فرصة سعيدة في صحبة قنصوه الغوري نائب قلعة حلب. إنه في حاجة إلى رجل صغير مثلك يا طومان، يعتمد عليه في مهماته، وإنك في حاجة إلى أمير قوي مثل الغوري يهيئ لك السبيل إلى الإمارة ... وستجد صديقا لطيف المعشر في زميلك خشقدم ...
عبس خشقدم حين رأى منزلته في حديث مولاه دون منزلة صاحبه، أما طومان فلم يفكر وقتئذ إلا في أمر واحد، هو أمر صديقته الصغيرة مصرباي التي حيل بينه وبين حمايتها من ذلك الذئب، فصاح محتجا: سيدي ...
قال جقمق غاضبا: صه! لقد عقدت الصفقة ولا سبيل إلى الرجوع بعد!
وكان خاير بن ملباي لا يزال يتمشى ثقيل الخطو عند باب الغرفة التي يتحدث فيها جقمق إلى غلمانه، ولكن أمارات القلق واللهفة كانت قد زالت عن وجه مصرباي، ورفت على شفتيها ابتسامة رضا واطمئنان ...
ونهض طومان إلى باب الغرفة ففتحه، فإذا هو وجها لوجه أمام خاير بن ملباي، أما خاير فطأطأ رأسه خجلا وأوفض في السير، وأما طومان فتمتم في غيظ: اذهب حيث شئت، فلا بد أن نلتقي يوما ...
ثم أغلق باب الغرفة وعاد إلى مجلسه بين يدي أستاذه جقمق!
ومضى الركب لوجهه وفيه ملباي الجركسي وأولاده الأربعة، وفيه جاني باي وصحابته من أقارب السلطان، ومعهم مصرباي.
وتبع طومان وخشقدم مولاهما في الطريق إلى قلعة حلب، حيث كان نائبها قنصوه الغوري ينتظر ... ومثل طومان وصاحبه بين يدي نائب القلعة، وأحنى طومان رأسه تأدبا وفي عينيه ذبول وانكسار!
وقال الغوري وعلى شفتيه ابتسامة رقيقة: ادن يا غلام!
وربت على خده بيد ناعمة بضة، ثم دعاه إلى الجلوس بين يديه وعيناه تسرحان في محاسن وجهه الدقيق الفاتن ...
قال جقمق: إن في إهاب هذا الفتى يا قنصوه فارسا لا يغالب، وإن بين جنبيه قلب رجل كبير وفي أنفه حمية، فلا يشغلك منه منظر عن مخبر! أما هذا الفتى الرومي ...
قال قنصوه ضاحكا: حسبك يا جقمق، فقد فهمت كل ما تعنيه، ولكن أين الجارية؟
قال جقمق: وما حاجتك أنت إلى الجارية؟ لقد ذهب بها صديقي جاني باي إلى القاهرة، حيث يجد من يغالي بثمنها أضعاف ما يجد في حلب أو دمشق.
قال الغوري: لقد أذكرتني ...
ثم مد إليه يده بصرة فيها دنانير، فتناولها من يده وهو يصطنع الإباء، ودسها في جيبه.
ودخل حاجبه يؤذنه بمقدم صاحب البريد من القاهرة، فنهض جقمق يتهيأ للانصراف، وصحب الحاجب الغلامين إلى الطبقة، وخلا المجلس للغوري.
وفض غلاف الرسالة التي جاء بها البريد وراح يقرؤها باهتمام، ثم رفع عنها عينيه وهو يقول وعلى شفتيه ابتسامته: الصبر يا قنصوه حتى يتفانى أعداؤك ويأكل بعضهم بعضا، وحينئذ يخلو لك الميدان.
الفصل الخامس
أحلام جارية
مضى ركب جاني باي وملباي، يغذ السير حتى بلغ دمشق، فأقام أياما ثم استأنف سيره إلى القاهرة، وكانت الفتنة ثمة قائمة بين أنصار أقبردي الدوادار، وأنصار قنصوه الخمسمئي. أما قنصوه الخمسمئي فيعتز بما له من الأتباع والجند، وبما يملك من محبة الشعب، وبصهره إلى الأمير أزبك صاحب المال والجاه والإمارة ... وسيد الأزبكية ...
وأما أقبردي فإنه قريب السلطان وعديله ودواداره الكبير؛ فإن له سببا في البلاط ووجاهة عند المماليك والأمراء ...
وبلغ ركب ملباي وجاني باي القاهرة، أما ملباي فمثل بين يدي الأشرف قايتباي ليدفع إليه رقاب بنيه الأربعة هدية؛ ليكونوا جندا من جنده كسائر مماليكه، فقبل قايتباي هديته وشكر له، ثم أمر بخاير بن ملباي وإخوته الثلاثة فصعد بهم الأغا إلى الطبقة؛ لينتظموا مع سائر المماليك في مدرسة القلعة، حيث يتلقون علوم السلم وفنون الحرب وأساليب الفروسية على خير المعلمين وأبرع القواد في مصر لذلك العهد.
وأما جاني باي فأدى رسالته إلى السلطان ودفع إليه من جاء بهم من أقاربه الذين عاد بهم من بلاد الجركس، ثم انصرف معجلا إلى حيث ترك جاريته مصرباي الجركسية تنتظر مقدمه.
وكانت الفتاة قد بلغ منها الضجر والهم مبلغا بعيدا، فقد كانت تأمل أن يصعد بها تاجر المماليك إلى القلعة، فيعرضها على السلطان فيمن معه من أقاربه، ولكنه لم يفعل. وأحست خيبة آمالها المريرة حين فارقها خاير وإخوته وتقطعت بينها وبينهم الأسباب، لا حبا له، بل حبا للجاه والإمارة. لقد سمعت كثيرا عن حياة أمثالها من الجواري الحسان في بيوت السلاطين فتمنت الأماني.
لم تكن مصرباي تحب خاير حين آثرته على جارها وصديقها طومان، ولكنها رأت في صحبته وسيلة إلى بعض ما كانت تأمل. أليس ينتظر أن يكون خاير من حاشية السلطان؟! هكذا فهمت من حديثه إليها ومن حديث أستاذها، إذن فستجد به الوسيلة إلى أن تعيش في قصر السلطان. ومن يدري؛ فقد تجد بعد ذلك أسبابا تدنيها إلى العرش؟ وإن لها من جمالها وذكائها وسيلة لعلها تبلغ بها أن تصير يوما ما سلطانة أو أم سلطان!
تلك كانت أحلامها التي تتراءى لها في المنام، وتتخايل لعينيها في اليقظة، منذ سمعت تلك الأقاصيص التي يتحاكاها الناس عن تقلبات الأقدار بحظوظ الجواري في قصور القاهرة، وقد كبرت في نفسها هذه الأماني شيئا بعد شيء، حتى أوشكت أن تكون حقيقة مرتقبة يوم عرفت خاير، فعرفت أول أسبابها إلى تحقيق أمنيتها وتعبير رؤياها ... وكانت أحلاما لم يكد يشرق عليها الصبح حتى محاها شعاع النهار، فإذا هي وحدها وقد ذهب خاير، كما ذهب من قبله صديقها وجارها العزيز طومان.
وأحست لأول مرة منذ فارقت بلاد الجركس أنها جارية ... جارية يساوم عليها الرجال بمالهم في سوق الرقيق، ليس لها في أمرها خيرة ... وانحدرت دموعها على خديها لأول مرة، وشعرت شعور الوحيد الغريب، قد تقطعت الأسباب بينه وبين الناس جميعا، فليس بينه وبين أحد منهم آصرة من حب أو من رحمة ... وهتفت من أعماقها في صوت يختلج: ليتني بقيت إلى جانبك يا طومان!
وعاد جاني باي من قصر السلطان، فصحب جاريته إلى سوق الرقيق في خان الخليلي، وصعد بها الدلال إلى الدكة في ثوب يشف ويصف، وقد حسرت عن وجهها وذراعيها تتناهبها عيون الناس ويسومها المفلس والمليء، وقد وقف الدلال يهتف بمحاسنها ويفتن في الوصف والإغراء ...
وقف الدلال يهتف بمحاسنها، ويفتن في الوصف والإغراء.
على أن هذا الموقف الذليل لم يستمر طويلا؛ فقد تقدم إلى الدكة واحد من خاصة الأمير أقبردي الدوادار، فدفع ثمنها وصحبها إلى بيت مولاه تتعثر في خطاها من الانكسار والمذلة.
وقفل جاني باي تاجر المماليك من السوق إلى داره سعيدا بما ناله من عطف السلطان، وبما ظفر من الربح في صفقة الجارية.
وتوزعت الأقدار حظوظ المماليك الثلاثة: طومان، ومصرباي، وخاير بن ملباي، وانشعبت بهم الطريق شعابا ثلاثة إلى حيث لا يعلم واحد منهم أين ينتهي به القدر!
وعاد أقبردي الدوادار وأخوه كرت باي إلى دارهما بعد رحلة طويلة شاقة في بلاد الصعيد، حيث كانا يقودان حملة لتأديب بعض العصاة من أعراب الجنوب، أولئك الأعراب الجفاة الذين لا تكاد تهدأ لهم ثائرة، ولا يريدون أن يدخلوا في طاعة سلطان الجركس، كأنما خيل إليهم أنهم يستطيعون أن يردوا الملك إلى العرب، وأن يعود إليهم العرش والتاج والسلطان!
وكانت زوجة أقبردي في ذلك اليوم في قصر القلعة تزور أختها زوجة السلطان قايتباي، فتهيأت الفرصة لمصرباي الجركسية لتبرز في مجلس أقبردي وأخيه كرت باي. ومد كرت باي عينيه فالتقتا بعيني مصرباي، ورأى ما لم تر عيناه قبل اليوم من جمال وفتنة، فخر لساعته صريعا وانعقد لسانه من دهشة المفاجأة، فلم ينبس بحرف، وترك عينيه تقولان ما لم يستطع بيانه بلسان!
وانعقدت آمال كرت باي منذ اليوم بمصرباي، وانعقدت به آمالها، وتجددت أحلامها بالإمارة والسلطان. ومثل كرت باي حقيق بأن يبلغ بها الإمارة والسلطان ...
وذاع ما بين كرت باي وصاحبته حتى صار أفكوهة السامرين من مماليك القصر وجواريه، وحتى عرفته سيدة الدار زوجة أقبردي.
وجاءت السلطانة ذات يوم لزيارة أختها فرأت مصرباي، فرغبت إلى أختها أن تهبها لها فتتخذها وصيفة من وصيفات البلاط، فقالت مولاتها ضاحكة: قد كان لك ذلك يا خوند، لولا كرت باي، فليس يهون علي أن أفرق بينهما!
قالت السلطانة: ويحبها إلى ذلك الحد؟
قالت أختها: نعم يا خوند، ولو قصصت عليك من خبرهما لأشفقت ولم يهن عليك أن تفرقي بينهما ... وقد كنت على أن أفك رقبتها ليتخذها زوجة، فإذا أذنت فإنني أعتقها لتصحبك إلى القصر حرة مسماة على كرت باي، حتى يحين موعد زفافها إليه في الربيع.
قالت السلطانة: فقد أذنت لك وله ...
ودعيت مصرباي إلى مجلس السلطانة، فوهبت لها مولاتها حريتها وأنبأتها النبأ، فتضرجت وجنتاها من حياء وتتابعت أنفاسها، فلم تلفظ كلمة الشكر.
وصحبت مولاتها السلطانة إلى القلعة؛ لتكون منذ اليوم وصيفة بين وصيفات البلاط!
وخطت أولى خطواتها إلى المجد، وبدأت تصعد الدرج إلى العرش، وتدانت لها الأماني ...
هل كان في خيالها وقتئذ كرت باي ، أو خاير بن ملباي، أو طومان صديقها الصغير، أو ماضيها البعيد في الغور المنبسط بين جبال القبج؟ لا شيء من ذلك كان يطرق خيالها يقظى أو نائمة، فما كان يطيب لها وقتئذ إلا خيال واحد، حين تقف وراء مولاتها السلطانة، وهي جالسة إلى المرآة تأخذ زينتها وتنطبع على المرآة صورتان، فتطير بها الأحلام تعبر بها حدود الزمن، فكأنما ترى صورتها في المرآة، وعلى رأسها تاج، ومن ورائها وصيفة ترجل شعرها المرسل، وخطوات السلطان تقترب من غرفة الزينة ... من يكون ذلك السلطان يومئذ؟ ليس يعنيها من يكون السلطان يومئذ؛ فليكن هو كرت باي، أو خاير بن ملباي، أو قايتباي العجوز نفسه، فليس يعنيها من ذلك إلا أن تكون هي سلطانة!
ورآها الصبي محمد بن قايتباي في حريم القصر فافتتن بها، وقد سرها أن يفتتن بها ابن السلطان وإن كان صبيا لم يبلغ الحلم، فمدت له خيط الرجاء.
وراح جواري القصر يتحدثن عن غرام الأمير الصغير بوصيفة السلطانة، وبلغ النبأ أمه أصل باي جارية السلطان قايتباي وحظيته، فلم تشك في أنها دسيسة دبرتها زوجة السلطان التي لم تستطع أن تنجب له ولدا يرث العرش، فحاولت أن تفسد ولدها!
على أن مصرباي لم تكن في قصر السلطان مطمح نفس محمد بن قايتباي وحده، فقد كان ثمة شاب آخر يرمقها بعيني الصقر الجائع، ذلك هو قنصوه أخو أصل باي حظية السلطان، وخال ولدها محمد بن قايتباي!
وكان قنصوه الأشرفي هذا فتى في عنفوانه، ذكي القلب، واسع الذرع، بعيد الحيلة، فسيح مطارح الآمال، وعلى أنه كان شابا لم يبلغ الثلاثين، فقد كان له في القصر جاه ومنزلة، ولولا أنه أخو أصل باي حظية السلطان وأم ولده المرتجى لما بلغ هذه المنزلة، ولظل مملوكا بين مئات المماليك الذين تزخر بهم طباق القلعة، ليس له شأن ولا يحس مكانه أحد، وقد كان ذلك شأنه منذ قريب، ثم وقعت عليه عين أخته ذات يوم فعرفته ولم تكد، فهتفت: أخي قنصوه!
فالتفت إليه السلطان منذ ذلك اليوم وأغدق عليه نعماءه ؛ فلم تمض إلا سنوات حتى كان ذلك المملوك المغمور بين مئات المماليك، أميرا من أمراء البلاط يشار إليه بالبنان، وله في القصر سياسة وتدبير!
واجتمع على الإعجاب بمصرباي الجركسية الولد والخال، وزاد الغيظ بأصل باي حين اكتشفت ذلك السر الفظيع، فودت لو تستطيع أن تحول بين تلك الوصيفة الفاتنة وبين ولدها وأخيها، ولكن من أين لها القدرة على ذلك وإنها لجارية في القصر، وإن كانت أم ولد السلطان وولي عهده!
على أن إقامة مصرباي لم تطل في القصر منذ اليوم الذي اكتشفت فيه أصل باي ذلك السر، فقد عقد لها على خطيبها المفتون كرت باي أخي أقبردي الدوادار وانتقلت إلى داره ...
ثم لم تطل بهما الإقامة في القاهرة بعد، فقد عقد لزوجها اللواء نائبا على صفد، فخرج إليها تصحبه عروسه الفاتنة، وخلفت وراءها في القاهرة قلوبا تحترق.
الفصل السادس
عودة الماضي
عاش طومان في قلعة حلب سيدا صغيرا، ليس لأحد عليه سلطان، وقد اجتمعت له كل أسباب الرفاهية والنعمة، ولكنه مع ذلك لم يكن سعيدا؛ فإن ذكريات عزيزة من ماضيه كانت تلم به حينا بعد حين، فتسلبه الطمأنينة والقرار، فلا يزال يذكر أيامه في بلاد الغور، حيث تنبسط الأرض حواليه على مد البصر وقد تناثرت فيها الخيام، يذهب فيها حيث يشاء ويعود حين يشاء، ليس عليه رقيب يعد خطاه ويحصي عليه أنفاسه هناك في أرض الحرية، حيث السماء والماء والهواء، كان ذلك ملك خالص له هو وحده على ما يخيل إليه، ليس بينه وبين شيء يريد أن يبلغه قيود ولا سدود، ولا حد للحرية التي يستمتع بها عابثا لاهيا بين خيام القبيلة، وعلى شواطئ الغدران، وبين الغنم السائمة في المراعي النضرة. أين منه كل أولئك في هذه القلعة المنيعة، في هذه المدينة المحوطة بالأسوار وبالأسرار!
بلى، إن هنا الطعام والشراب، وهنا الفراش الوثير كأنه حين يسلم إليه جسده ينام على جناح النسيم، وهنا من وسائل النعيم ما لا رأت عينه ولا سمعت أذنه، ولا خطر له على قلب، ولكن ما نفع ذلك كله وهو وحيد فريد، ليس له أم تحنو عليه، ولا صاحب يأوي إليه، ولا رفيق يحمل بعض همه، وإنه مع ذلك كله عبد سيده، لا يخطو خطوة إلا بإرادته، ولا يفتح شفتيه بكلمة إلا أن يأذن له. أكان يهجس بخاطر أمه نوركلدي أن ينتهي ولدها العزيز طومان إلى هذا المصير؟! وحضرته ذكرى أمه، يا لها من بعده، تلك الأرملة التي وهبت له شبابها النضر، واعتبرته كل حظها من دنياها، فليس لها وراءه أمل تأمله ... كيف هي الساعة وأين ذهبت بها الظنون لبعده، وماذا فعلت بها من بعده الأيام!
واستجابت له عيناه فأرسل دموعه على خديه!
وسمع وقع خطا تقترب من الباب، فهب واقفا يمسح دموعه بكم قميصه، ودخل الغوري فاتخذ مجلسه في صدر القاعة، وظل الصبي واقفا بين يديه ... ورأى سيده في عينيه أشجانه فأهمه ما رأى، فاستدناه إليه وربت على ظهره بحنان، وضمه إليه بعطف وهو يسأله عما به. وسمع الفتى وأحس لأول مرة منذ فارق أمه نبضة قلب في نبرة صوت وضمة حنان، فعادت دموعه تنحدر على خديه، واحتبس الصوت في حلقه! فأرسله الغوري من بين يديه وأذن له في الجلوس وهو يقول: حدثني يا بني ما خطبك، فلعلي أن أزيل عنك بعض ما تنوء به من الهم!
وكان في صوته رنة صدق، فانحلت عقدة لسانه طومان وراح يتحدث بخبره إلى مولاه ...
قال الغوري: فأنت من بلاد الغور؟
قال طومان: نعم يا سيدي، ولم تزل أمي هناك!
فهش الغوري ورفت على شفتيه ابتسامة وهو يقول: إنك بعض أهلي يا بني! هيه!
واطمأن كل منهما إلى صاحبه وصفا ما بينهما، فمضى طومان يتحدث إلى مولاه وفي نفسه هدوء ورضا، ومضى الغوري يتحدث إلى نفسه صامتا، ويستعيد ذكرياته في بلاد الغور منذ ثلاثين عاما أو يزيد، يوم كان فتى في ريعانه يغتره الشباب وتتصباه المنى.
وتذكر الغوري أيامه الأخيرة هنالك، حين سول له أهل البغي أن يقتل بغير ذنب رجلا من أهله؛ ليقدم برهانه إلى الناس بأنه قد بلغ الرجولة ... فطعنه الطعنة القاضية وفر بدمه تحت الليل، وخلف أهله وراءه يبكون القتيل والقاتل!
ومضى طومان في حديثه يصف ما كان من أمره، ويقص قصة ماضيه في بلاد الغور منذ أحس وجود نفسه في خيمة نوركلدي، إلى يوم خطفه نخاس خوارزم، إلى ذكرياته في خان يونس، وفي معتقله من بلاد الروم، إلى أمله في لقاء أمه ولقاء أبيه ...
كانا جالسين وجها لوجه يتحدث كل منهما إلى نفسه حديثا لا يسمعه أحد غيره، والذكريات تذهب بهما مذاهب بعيدة فلا يكادان يلتقيان؛ فإن مجلسهما لقريب، ولكن بينهما من البعد في الزمان ثلاثين عاما أو يزيد، ومن البعد في المكان بقدر المسافة بين قلعة حلب والغور المنبسط وراء جبال القبج ...
واسترسل الغوري في ذكرياته وعاوده داء الوطن.
لقد كان يزعم لنفسه أنه قد سلا وانقطع ما بينه وبين ماضيه وبلاده وأهله، ثم برز له أركماس في بعض دروب القاهرة ذات يوم شاهرا في وجهه السيف ليثأر منه لأبيه، فرده إلى ذلك الماضي بعنف وبسط لعينيه صحيفته، ولكن القدر لم يمهل أركماس حتى يبلغ غايته، فطواه الجمل الهائج تحت خفه ونجا الغوري. وعادت الأيام تسدل الستار بينه وبين ماضيه وبلاده وأهله، حتى أوشك أن ينسى، وابتسمت له الأيام بعد عبوس، فراح يرقى في سلك المماليك درجة بعد درجة، حتى بلغ المنزلة التي تنازعه فيها نفسه إلى العرش، كأن لم يكن يوما ذلك الشريد الأفاق المطلوب بالثأر من أقصى بلاد الأرض ...
ثم ... ثم ها هو ذلك الماضي ينبعث ثانية أمام عينيه كأنه حادثة اليوم، وها هو ذا فتى من بلاد الكرج - كان في ذلك التاريخ البعيد ذرة سابحة في صلب أبيه - قد جاء يرده إلى ذلك الماضي البعيد، يريه منه ما يرى الواقف على حافة بئر من قاعها العميق المظلم: لا يرى شيئا مما في القاع، ولكنه يرى أوهامه ...
وكان الفتى لا يزال يتحدث إلى مولاه ومولاه في غفلة من ذكرياته، قال طومان: ولم أر أبي؛ لأنه ذهب قبل أن أخرج إلى الدنيا ...
وانتبه الغوري فقال: لم تر أباك!
قال طومان: نعم، اختفى ذات مساء حيث لا يعلم أحد، وتظن أمي أنه راح يطلب ثأرا قديما، فلم يعد ...
واعتدل الغوري في مجلسه، وقال وفي وجهه أمارات الاهتمام والقلق: ولم تحدثك أمك أين راح أبوك يطلب الثأر؟
قال طومان: نعم، فإنها هي لم تكن تعرف، فقد كان ذلك سر أركماس وحده! كذلك كانت تقول لي أمي!
شحب وجه الغوري وهو يردد في صوت خافت: أركماس! أركماس.
وبلغ صوته أذن الفتى، فكف عن الحديث ورفع عينيه إلى وجه مولاه؛ ليرى الشحوب وأمارات القلق بادية في وجهه، كما لم يرها في وجه إنسان قط ...
فهتف في لهفة: سيدي! أنت تعرف أبي أركماس؟
وثاب الغوري إلى رشده سريعا، واسترجع عزيمته، فقال في صوت يحاول أن يكون مطمئنا هادئا: نعم يا بني، لقد كان أركماس ... أخي ... إنني ... إنني أنا عمك!
ذهل الفتى مما سمع وغلبته أشجانه، فغص بأنفاسه، وارتمى على صدر الغوري، ودفن رأسه الصغير في صدره وهو يجهش باكيا ...
وسقطت دمعتان على وجه الغوري، ثم انحدرتا حتى توارتا في لحيته، وقبض أصابعه في لحم الغلام وهو يضمه إلى صدره بعنف ... وحنان!
قال الفتى ولم يزل بين يدي مولاه وعيناه مغرورقتان بالدمع: وتعرف أمي نوركلدي يا عماه؟
واختلجت شفتا الغوري قبل أن يجيب: نعم، أظنني أعرفها، أعني أنني أعرفها حين كانت طفلة في حجر أمها، قبل أن يتزوجها أخي أركماس!
وعض على شفتيه في غيظ وحيرة وندم.
واسترسل الفتى يسأل وقد برقت عيناه بريق الأمل والسعادة: وهل يمكن أن ألقاها ثانية يا عم؟ هل يمكن أن أرى أمي نوركلدي بعد ذلك الفراق؟
قال الغوري هادئا وعلى شفتيه ابتسامة غامضة: نعم، كما لقي يوسف أبويه على العرش ... على العرش يا طومان يلتقي البعداء!
آه! يا للرجلين! ذلك الفتى، قتل ذلك الرجل أباه وجده، فلتكن كفارة هذا الذنب أن يتبناه لينمحي من صحيفة ذكرياته ذلك الماضي!
وأعتق الغوري طومان من رق؛ ليدعوه الناس جميعا منذ ذلك اليوم: ابن أخي الغوري ! وأخلص له الحب والمودة حتى لا يعرف طومان صلة تربط به، إلا أنه عمه!
وقال خشقدم الرومي لنفسه وقد عاد وحيدا كما بدأ: وهذا زميل آخر قد مضى لوجهه حرا وخلفني في أسر الرق، وغدا يدعونه سيدي وكان رقيقا مثلي ... ذلك الجركسي الأمرد! أما والله إن امتد بي الأجل لأكونن سيده، ولا يشفع له يومئذ أن خده ناعم مصقول كخد الفتاة!
الفصل السابع
أطماع المماليك
تتابعت الحوادث في مصر بين أتباع أقبردي وأتباع قنصوه الخمسمئي، ثم نشبت بينهما الحرب سافرة، وكان أولها مؤذنا بالغلبة لأقبردي الدوادار، ولكن كفة الميزان لم تلبث أن رجحت بحظ قنصوه ...
على أن مراحل المعركة بين الأميرين العظيمين لم تكن طبيعية، فقد كانت ثمة أيد خفية تعمل في الظلام لتؤلب كلا الحزبين على الآخر؛ لأن تلك الأيدي لم يكن يعنيها من المنافسة بين الأميرين إلا أن تستمر الحرب بينهما، حتى يتفانى أتباعهما ويبرزا في الميدان رجلا لرجل ليس لواحد منهما ظهر يحميه!
وخيل لقنصوه الخمسمئي أنه قد بلغ غايته حين ألجأ منافسه إلى الفرار، وتدانى له الأمل البعيد حين رأى السلطات كلها قد اجتمعت في يديه، وإن كان السلطان لم يزل حيا يجلس على العرش، ويمضي مراسيم التولية والعزل وليس له على الحقيقة أمر ولا نهي!
ثم حلت الساعة المرتقبة وأوفى الأشرف قايتباي على أجله، ولكن حزب القصر كان قد أعد عدته لهذه النازلة قبل أن تقع، فلم يكد نعي السلطان الأشرف قايتباي يبلغ آذان قنصوه الخمسمئي، حتى كان السلطان الناصر محمد بن قايتباي جالسا على عرش أبيه!
وصرت أسنان قنصوه من الغيظ، ولكنه لم يلبث أن ملك زمام أمره؛ فدبر خطة للقضاء على تمراز وأقبردي قبل أن يقضيا عليه ويفرضا إرادتهما على السلطان الصغير. وزحف قنصوه بمماليكه إلى القلعة، فضم جناحيه على العرش والجالس عليه، واستأثر بالسلطان حتى لم يبق فوق أمره أمر، وإن زعم الناس أن السلطان هو الناصر ابن قايتباي ... فلما استوسق الأمر كله لقنصوه وأيقن أن أعداءه قد ذهبت ريحهم وتفرقوا في البلاد ، وثب وثبته فخلع السلطان وزحف إلى القلعة بجيش لجب من مماليكه وأتباعه؛ ليلبس التاج ويقبض على الصولجان.
ولكن القلعة لم تكن يومئذ خالية من أسباب الدفاع وفيها قنصوه خال السلطان الناصر وأخو أصل باي، وإنه لفتى لا يؤتى من قريب وإن لم يحسب له قنصوه الخمسمئي حسابا. وانصبت القذائف من القلعة على الجيش الزاحف، فتوقف، ثم ارتد، ثم انهزم، وعاد الناصر إلى عرشه، ولكن السلطات كلها اجتمعت في يد قنصوه الخال ...
وتألق نجمه، ذلك الشاب الذي كان منذ سنوات مملوكا خاملا من مماليك الطبقة تنبو عنه العيون!
وخلا الجو من قنصوه الخمسمئي، وأقبردي، وتمراز ... وكان أزبك قد شاخ وبرد دمه، فليس له انبعاث إلى شيء من مطامع الأمراء.
وعاد الغوري من الشام إلى القاهرة بعد غيبة طويلة يصحبه «ابن أخيه» طومان، وقد خلا الميدان من فرسانه، ولكن في صفوف الأمراء وجوها جديدة ينكرها الغوري: من قنصوه الخال وما شأنه بين الأمراء حتى تجتمع في يديه كل السلطات؟ ومن جانبلاط هذا الذي يستأثر بعطف السلطان والأم والخال، ويرتفع فجأة إلى منصب الدوادار الكبير؟ ومن ذلك الشاب طومان باي الدوادار الثاني؟ تلك أسماء جديدة لم تكن شيئا مذكورا يوم كان الغوري من أقرب مماليك السلطان إلى السلطان! ولكن خطب هؤلاء يسير، ولا بد أن يغلبهم قنصوه الغوري بالصبر والحيلة!
واستدنى إليه ابن أخيه طومان ليفضي إليه بسره، وبدا كأن الفتى قد فهم ما ألقي إليه، فخرج لأمره وخلف عمه في مجلسه يقدر ويدبر ...
وكأنما بدا لطومان أن يتخفف من بعض ما يحمل من الأعباء، فاقترح عليه غلامه أبرك أن يصحبه في جولة في بعض دروب القاهرة، يجتليان بعض مناظر المدينة التي أخملت ذكر بغداد وقرطبة، يوم كانت بغداد وقرطبة تتنافسان في أسباب الترف، وتزعم كل منهما أنها حاضرة الدنيا، وركب الفارس الشاب جواده وتبعه غلامه على جواده، ومضيا في شوارع المدينة يتعرفان الأبنية والدور والمتاجر، ويتصفحان وجوه الناس، والعيون ترمقهما بالإعجاب في المتاجر، وعلى جانبي الطريق، وفي الشرفات من وراء الأستار !
وكانا قد أشرفا على الرملة حين سمع طومان صوتا ناعما يهتف باسمه، فنظر حواليه فلم يجد وجها يعرفه! فعاد ينظر إلى غلامه متسائلا: هل سمعت؟
قال أبرك: نعم يا مولاي.
ثم دار بعينيه فيما حوله وارتد إلى سيده يقول: أحسبه صوت سيدة من وراء بعض الشرفات!
قال طومان ولم يزل ماضيا في طريقه: فإن عليك يا أبرك أن تعرف من هذه التي تهتف باسمي من وراء حجابها في هذه المدينة التي لم أطرقها إلا منذ قريب؛ فإنه ليخيل إلي أنني أعرف ذلك الصوت ...
وركب الفارس الشاب جواده وتبعه غلامه على جواده.
قال أبرك: سأعرف يا مولاي.
واجتازا باب زويلة، إلى الشرابشيين، إلى سوق مرجوش، وتلبثا قليلا عند بركة الرطلي، ثم أمعنا في السير حتى انتهيا إلى قبة الأمير يشبك الدوادار بالمطرية ... ثم كرا راجعين من حيث أتيا قبل أن تنحدر الشمس إلى مغربها، فلما جاوزا باب الوزير شد طومان لجام فرسه، وأرهف أذنيه للسمع وطأطأ رأسه، ومشى الفرس يتهادى به وئيدا كأنه مزهو بفارسه الجميل، وحذا أبرك خطوات مولاه وعيناه تختلسان نظرات خاطفة إلى الشرفات ...
وخيل إلى طومان كأنه سمع مرة ثانية ذلك الصوت، فالتهبت وجنتاه كأن شعاعة عين قد لامست خديه ... وهمس أبرك قائلا: كأن قد عرفت يا مولاي ...
ولم يجب طومان، واستمرا في طريقهما إلى قصر الغوري ... وترجل طومان عن فرسه وولج الباب، وثنى أبرك عنان جواده راجعا من حيث أتى، فغاب درجة ثم عاد إلى مولاه لينبئه ... وكان في مجلس طومان وقتئذ جاني باي تاجر المماليك ... فآثر الغلام الصمت حتى يخلو بسيده المجلس ...
قال طومان لضيفه: وإذن فأنت لم تدع مصرباي لخاير بن ملباي؟
قال جاني باي: نعم يا سيدي، وأحسبها تعيش في قصر أقبردي الدوادار منذ عادت من صفد بعد موت زوجها كرت باي ...
ثم صمت برهة وعاد يقول: وللناس في شأنها أحاديث يتزيد فيها من يتزيد، ويقتصد من يقتصد، ولأهل مصر يا سيدي فن وبراعة في اختراع الأراجيف ...
واسترعى الحديث انتباه أبرك منذ جرى على لسان جاني باي ذكر أقبردي الدوادار، فأرهف أذنيه للسمع.
وقال طومان: لست أفهم ما تعني يا جاني باي: بماذا يتحدث الناس عن مصرباي؟
فأنغض رأسه وهو يقول: يزعمون يا سيدي أن لها شأنا مع سلطاننا الناصر بن قايتباي، وأن زوجها كرت باي لم يمت حتف أنفه ...
قال طومان: تعني أنها قتلته؟
قال جاني باي: نعم؛ لتخلص للناصر الذي شغفها حبا وشغفته، منذ كانت وصيفة في قصر السلطان قايتباي، هكذا يزعم الناس، ولكنني لا أصدق! - لا تصدق! - نعم يا سيدي، أنا على يقين بأن ذلك غير الحق، فقد وقفت على السر كله من إحدى جواري القصر ... - أي سر تعني؟! - سر صلتها بقنصوه الخال، إنه هو فتاها المرتجى، الذي يصحبها خيالا في اليقظة ورؤيا في المنام ... وإنما يلهج الناس باسم الناصر لأنه ... - ماذا؟ - أحسب سيدي يعرف شهرة الناصر في مباذله، حتى كأن نساء مصر جميعا حظاياه، فليس فيهن حصان طاهرة الذيل لا تنالها الريبة!
ومط طومان شفتيه أسفا واستنكارا، ثم أطرق يفكر ... واستأذن جاني باي وهم بالانصراف، ثم توقف برهة ليقول لطومان: ولا ينس سيدي أنني رهن أمره في كل ما يأمر به، فليرسل ورائي في أي وقت شاء من ليل أو نهار، يرني ماثلا بين يديه!
قال طومان: شكرا يا جاني باي، وإن بي حاجة إلى جارية عاقلة أريبة تحسن الخط، فإذا وجدتها فلك عندي ما تريد ...
قال جاني باي وهو في طريقه إلى الباب: فسأجدها، وليس لي ما أريده غير رضا مولاي!
وخرج تاجر المماليك، فالتفت طومان إلى غلامه يسأله: ماذا وراءك يا أبرك؟
قال أبرك باسما: أظنني عرفت الدار وصاحبها.
قال طومان مسرورا: هكذا سريعا؟ لله أنت!
قال وهو يضحك: ليس فضل ذلك إلي يا مولاي، وإنما عرفت طرفا من الأمر هناك، وعرفت تمامه فيما سمعت من حديث جاني باي إلى مولاي. إن تلك الجارية يا مولاي تقيم في دار أقبردي الدوادار!
قال طومان متهللا: آه! إذن فهي مصرباي التي كانت تهتف باسمي!
ثم غشت وجهه كآبة واختلجت شفتاه من الغيظ وأطرق يفكر، وتسحب أبرك ليدع لسيده أن يستمتع بخلوته!
الفصل الثامن
سلطان الشهوات
سرى الرعب في أنحاء المدينة كأنما شب حريق جائح، أو هبت ريح عاصفة لا تبقي ولا تذر، فغلق التجار دكاكينهم واستوثقوا من أقفالها، وسدت أبواب الدروب؛ حتى لا يكاد ينفذ منها الراجل، واختفت البضائع من الأسواق فلا بائع ولا مشتر، وهدأت الرجل في الطرقات، فلا يمشي ماش ولا يركب راكب إلا حذرا يتلفت؛ يخاف أن يأخذه الموت من كل ناحية، وقبع النساء والأطفال وراء أستار النوافذ المغلقة يرقبون الطريق من خصاصها، في انتظار الآباء والأزواج الذين تعوقوا عن العودة إلى دورهم في هذا اليوم الذي ينذر بالشر.
لقد انبث مماليك السلطان ومماليك الأمراء جميعا في الأسواق يكبسون الدور، وينهبون المتاجر، ويحطمون الأبواب، ويخطفون العمائم، ويهتكون الحرمات، ولهم في الطريق عطعطة وزياط وضجة ...
ذلك شأن المماليك كلما آنسوا ضعفا من السلطان؛ فإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما أرادوا أن يحملوا السلطان على إجابتهم إلى شيء يطلبونه منه. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما طال بهم السكون وملوا الدعة والاستقرار؛ لأنهم يرون ذلك مظهرا من مظاهر النشاط، يتفرجون به مما يحسون من ملل وضيق. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما وقع بينهم وبين السلطان، أو بينهم وبين الأمراء جفوة وخصام؛ ليشعروا السلطان وأمراءه بأن فيهم عزما وقوة يتقيهما من شاء أن يتقي. وإنهم ليثيرون الشغب والفتنة كلما سمعوا صريف الدراهم والدنانير، أو اشتاقوا إلى أن يسمعوا صريف الدراهم والدنانير.
وإنهم مع ذلك كله ليثيرون الشغب والفتنة، وإن لم يكن لهم مطلب عند السلطان، ولا بهم ملل من الدعة والاستقرار، ولا بينهم وبين السلطان جفوة، ولا حاجة بهم إلى الدراهم والدنانير، وإنما يثيرونها عبثا ولهوا وعادة ... ولا عليهم بعد ذلك مما يصيب الناس من الذعر والفزع والخسار!
فلم تمض إلا ساعات من ذلك اليوم، حتى كانت المدينة كلها خالية إلا من أولئك المماليك، يجوسون خلال الديار راكبين أو ماشين متأهبين للشر، وقد سكنت الأصوات وراء الجدران، فكأنما يجوسون خلال القبور الصامتة ليس وراءها إلا رمم بالية وعظام نخرة!
وفي ذلك اليوم العصيب، في تلك المدينة التي ركبها الفزع، وعلى بعد قريب من العمران - عند كوم الجارح - كان طائفة من المتصوفة، فيهم لفيف من أبناء المصريين، إلى خليط من العربان والترك والجركس، مجتمعين إلى شيخهم وصاحب طريقتهم الشيخ أبي السعود الجارحي، قد جلس الشيخ بينهم مطرقا وأحاطوا به حلقة وراء حلقة وراء حلقة، صامتين لا ينبسون، قد تعلقت به أبصارهم، وبين يديه مجمرة يتصاعد منها بخور عطر، لا يزال يذكيها حينا بعد حين خادمه أرقم، وهو رجل مشوه الخلق، أصلم الأذن، معوج الأنف، مائل الفك، أحمش الساقين، مستكرش البطن، كأنه صرة ثياب على عصوين من قصب ...
وكان أرقم على منظره هذا الذي يثير السخرية والإشفاق جميعا، أدنى المريدين منزلة من شيخه أبي السعود الجارحي، فليس لأحد غيره من المريدين أن يقتحم على الشيخ صمته حين يصمت، أو يقطع عليه حديثه حين يتحدث، وليس لأحد غيره من المريدين شرف خدمة الشيخ حين ينقطع للعبادة في خلوته، أو حين يجلس لتلاميذه في الحلقة!
وطال صمت الشيخ ومريديه، وخبت النار في المجمرة رويدا رويدا ثم بردت، ونحاها أرقم من بين يدي أستاذه، ثم عاد فجلس مجلسه بين يديه، ورفع الشيخ رأسه ودار بعينيه فيمن حوله ثم سأل: أين جلال الدين اليوم فإنني لا أراه؟!
فسرت همهمة بين المريدين، وكأنما هموا جميعا أن يجيبوا، ثم سكتوا، وقال أرقم: أظن سيدنا الشيخ يعلم ما أصاب أخانا جلال الدين ...
قال الشيخ: تعني تلك الحادثة؟
قال: نعم، فهو منذ فقد زوجته لا يأنس إلى أحد من الناس، ولا يرى إلا على باب دكانه مطرقا لا يكاد يرفع رأسه، أو ماشيا في الطريق بين داره ومتجره صامتا لا يتحدث إلى أحد، وفي يديه ابنتاه الصغيرتان يصحبهما غاديا أو رائحا، أو قابعا على باب دكانه، وإنه لدائم الفكر والتذكر حتى لأخشى يا سيدنا الشيخ أن يختلط عقله!
قال الشيخ: مسكين! ولكن الصبر أجمل به!
وكان جلال الدين هذا رجلا من مساتير التجار ، له ضيعة ودار ووفر من المال، وله زوجة واحدة يحسده على جمالها كل ذي عينين، ويغبطه على محبتها كل ذي قلب ... وقد أنجبت له ابنتيه هاتين، وعاشت له ولابنتيه وعاش لها، وكانت أيامهما شهدا خالصا ليس فيها مرارة ... وفجأة حلت به الكارثة، وجاءه الصريخ في دكانه ليدعوه إلى داره ذات مساء، فذهب ليشهد زوجته ذبيحا تتشحط في دمها، وابنتاها عند رأسها تبكيان ... وكان الذي ذبحها هو السلطان الناصر نفسه، بسيفه، بيده ... رآها، فطمع أن ينالها، فأرسل إليها رسوله، فلما تأبت عليه سعى إليها على قدميه ... وحاولت أن تفر بعرضها فأدركها ... وعاد من حيث أتى في كوكبة من مماليكه وجنده ... بل لعله لم يعد إلى قصره في ذلك اليوم إلا بعد أن أتم جولته في المدينة، وخرج من دار إلى دار إلى دار، وتناول من كل كأس جرعة!
مسكين جلال الدين! ولكن الصبر أجمل به!
قال رجل من أقصى المجلس: يا سيدنا الشيخ، هذا والله ما لا صبر عليه! وقد بلغ هذا السلطان الصبي من الطيش والنزق والجرأة على الله مبلغا بعيدا، وإن السكوت على مثل هذا لإثم في ذات الله!
قال الشيخ: نعم، ولكن ماذا تملك أن تفعل؟
قال الرجل الذي إلى جانبه: نملك أن نجود بأرواحنا، وما حرصنا على الحياة وهؤلاء المماليك يسوموننا ألوانا من العذاب، لا ينظرون إلينا إلا كما ينظر الناس إلى السائمة، ليس لهم منها إلا درها أو لحمها! وقد جف الضرع وذاب الشحم واللحم!
فابتسم الشيخ مشجعا، ثم قال: أفلح إن صدق ...
ثم نظر إلى يمينه حيث يجلس شاب من المماليك له زي ووقار وسمت.
وأردف قائلا لمحدثه: ولكن ما لك تجمع المماليك كلهم في قرن، كأنما تريد أن توزرهم جميعا وزر فرد منهم، وتأخذهم بجريرة محمد بن قايتباي!
قال أعرابي: يا سيدنا الشيخ، إنما هي بلادنا لا بلاد الجركس، وقد جاءوا إلينا رقيقا في يد النخاس، فما هي إلا أن أقاموا بيننا حينا حتى ملكوا رقابنا، واستصفوا أموالنا، وها هم أولاء يريدون آخر الأمر أن تكون نساؤنا وبناتنا حظايا في قصورهم. لقد كان عرش هذه البلاد للعرب منذ رتل فيها قرآن، وإنما تركناه وديعة في يد الكرد إلى حين، يوم غزانا التتار، فأسلمه الكرد إلى هؤلاء المماليك، وقد حان أن ترد الأمانات إلى أهلها.
قال الشيخ باسما: وترى من يسمع لقولك هذا من أبناء مصر فيعينك عليه يا أخا العرب؟
قال الأعرابي: أبناء مصر! إنهم لا يصلحون إلا أن يقادوا مقهورين، كما يقاد البعير المخشوش من أنفه!
وسرى همس خفي بين المريدين من أبناء مصر، ثم ارتفع الهمس فصار لغطا، وارتفع اللغط فصار ضجيجا غاب فيه صوت الأعرابي، وهم المريدون أن يتماسكوا بالأيدي وتنشب بينهم معركة، فلم يمسكوا عن الضجيج والحركة، حتى وقف بينهم أرقم يشير لهم بيديه جميعا داعيا إلى الصمت، ثم ارتفع صوت المملوك الجالس إلى يمين الشيخ، فصيحا قويا عميق النبر، يقول: على رسلكم أيها الإخوان، إنما نحن جميعا هنا أبناء مصر، جراكسة، وأعرابا، ومصريين، كلنا سواسية في الحق والواجب، وإنما يغلبنا السلطان الجائر على أنفسنا بهذه العصبية التي تفرقنا، وتشق عصا جماعتنا! وماذا يجدينا أن نفاخر بأنسابنا وهذا السيف مصلت على رءوسنا جميعا في يد صبي عابث، قد استبدت به شهواته فليس يعنيه من أمر هذا الشعب قليل ولا كثير؟ ليس فينا من يرضى هذه الحال الأليمة. أما الأعراب فيعبرون عن سخطهم بهذه الغارات المتتابعة على أطراف المدينة وفي البوادي، وعلى حدود المدائن في الشمال والجنوب، فلا ينالون شيئا من السلطان، ولكن ينالون من إخوانهم ومن أنفسهم. وأما المماليك فيتخذون سلطانهم قدوة فلا يزالون يعيثون في الأرض الفساد: ينهبون، ويفتكون، ويهتكون، وإنما يتعجلون آخرتهم بهذه المظالم. وأما المصريون فينظرون إلى هؤلاء وأولئك ساخرين أو شامتين، ثم لا يزال فتيانهم يؤلفون العصائب للتخويف والإرهاب وانتهاز الفرص، ويتندرون فكهين بما كان وبما سيكون، والسلطان يلهو ... وإنما سبيل الخلاص واحدة: هي اجتماع الكلمة على تقويم المعوج، وليكن السلطان بعد ذلك من يكون: مصريا، أو عربيا، أو من أبناء الجركس ... فكلنا لمصر!
قال الشيخ مؤمنا: هو ما قلت يا طومان، وإنما عليكم أنتم أيها الجراكسة أن تبدءوا بصلاح أنفسكم ... وإن شئت فابرز اليوم إلى القاهرة؛ لترى بعينيك كيف انتشر مماليك السلطان يبثون الرعب في القلوب، وينذرون بالويل والثبور.
قال طومان: قد رأيت بعض ما كان، وأحسبهم سيثوبون إلى رشادهم بعد قليل، لقد تركت عمي قنصوه الغوري يهدئ ثائرتهم، وأراه أهلا لأن يملك زمام الأمر!
وأذن المؤذن لصلاة الظهر، فانتظم المريدون صفوفا خلف شيخهم ... فلما قضيت الصلاة تأهب طومان للانصراف، فاستأذن شيخه واتخذ طريقه نحو الباب تشيعه أنظار الجماعة بالإكبار والحب، على أن أرقم المسيخ خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي، كان أشد المريدين إعجابا بذلك المملوك الشاب، فظلت عيناه طوال الوقت معلقتين به وأذناه تسمعان، فلما هم أن ينصرف تبعه إلى الباب، ومد يده إليه مصافحا وهو يقول في تأثر: صحبتك السلامة يا بني حتى تبلغ مأملك.
ثم فاضت به عاطفته حتى هم أن يضمه إليه ويقبل جبينه، ولكنه اكتفى من ذلك بأن يضغط بأصابعه النحيلة على يد الشاب وهو يقول: أرجو أن تذكر دائما يا بني صديقك أرقم خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي، إنني في خدمتك حيث تشاء، وفي أي وقت تريد.
ثم عاد إلى مجلسه يتخلع في مشيته، وقد ارتسمت على شفاه المريدين بسمات، فلولا ثقتهم به، ولولا مكانته من نفس شيخهم الجليل، لزعموا أنه صاحب هوى عند ذلك المملوك الجميل، وركبوه بالعبث والدعابة.
كانت المدينة تموج بهذه الأحداث والسلطان الشاب في شغل بنفسه عن كل ما هنالك، قد جمع حوله بطانة من الشباب والشيوخ، يزينون له الشهوات ويهيئون له أسبابها، ولم تكن حادثة زوجة التاجر جلال الدين هي الحادثة الفريدة في بابها، فكم فتاة وكم زوجة قد سال دمها على الفراش، أو سال على حد سيفه! وكم زوج مثل جلال الدين وكم أب! وانهتكت حرمات البيوت، حتى بيوت الأمراء وأصحاب الوظائف ... وحتى ليفتدي الأمراء أنفسهم وأعراضهم بالمال يبذلونه للسلطان، والسلطان نهم لا يشبع، شهوان لا يصبر، نشوان لا يفيق ...
وعاد من جولته في المدينة منتشيا، سعيدا بما بلغ من حظ نفسه، فاتخذ مقعدا في الحوش وحلا له أن يلعب بالكرة. ولحلبة الكرة في الحوش السلطاني نظام وتقاليد مرسومة، ولكن السلطان الشاب لا يخضع للتقاليد المرسومة، وكان في الحوش وقتئذ طائفة من صغار الأمراء، وعصبة من المماليك الخاصة، ولم يكن ثمة من الأمراء الكبراء إلا طومان باي الدوادار، ولطومان باي فنون في حلبة الكرة ...
وتقاذف الأمراء الكرة بصوالجهم في الحلبة، يتقاربون حينا ويتباعدون، ويتقابلون ويتدابرون، وتتماس أكتافهم وتتلامس سواعدهم، والكرة تنتقل على الصوالجة من يد إلى يد، وهجم عليها طومان باي الدوادار يلقفها بصولجانه من يد الناصر، واغتاظ السلطان فهوى على ظهر دواداره بالصولجان على مشهد من الأمراء ومماليك الخاصة، وتقبض وجه طومان باي من غضب ثم اصطبر، وعادت الكرة تتقاذفها الصوالجة، ولقفها الدوادار مرة ثانية، وهوى السلطان على ظهره مرة أخرى بصولجانه! واحمرت عيناه من الغيظ ثم استرد جأشه ... وعاد يلعب ... وعاد السلطان يضربه ... وكان على شفاه المماليك معان خرساء، وفي عيونهم نظرات، وجاشت نفس الدوادار بمعانيها ...
ثم انفضت الحلبة وصعد السلطان إلى قصره ...
وفي جناح آخر من القصر السلطاني كانت أصل باي أم السلطان جالسة في مقعدها الوثير بين الحشايا والوسائد، صامتة قد ضاق صدرها بما تحمل من الهم والضجر، وجلست عند قدميها جاريتها شاخصة العين إليها لا تكاد تطرف. وتنفست أصل باي نفسا عميقا، ثم خرجت عن صمتها قائلة: أنت على يقين مما تقولين يا جارية؟
قالت: نعم يا مولاتي، وقد رأيت السلطان بعيني هاتين يدخل دارها بالرملة، ليس معه أحد من مماليكه وجنده، ثم خرج تحت الليل فاتخذ طريقه راجلا إلى القلعة ...
فصرخت أصل باي غاضبة: تكذبين علي يا فاجرة ... احذري غضبي وغضب السلطان!
فشحب وجه الجارية قليلا، ثم استردت جأشها وقالت: عفوا يا مولاتي، فإنما حدثتك بما رأيت ... إن مصرباي الجركسية أرملة كرت باي، لا تزال تمد شباكها إلى مولاي، تطمع أن تكون سلطانة على العرش ...
ثم صمتت برهة، واستأنفت حديثها قائلة: ولعل سيدي الأمير قنصوه الخال يعرف طرفا من ذلك السر؛ فقد لقيت جاريته اليوم خارجة من دار مصرباي تتلفت ...
فاعتدلت أم السلطان في مجلسها وهي تقول: ماذا! أخي قنصوه يعرف ما بين السلطان ومصرباي؟
قالت الجارية: أظن ذلك يا مولاتي ...
فهبت الأميرة واقفة، وقد زاغ بصرها وتتابعت أنفاسها من البهر، وقالت: تلك أحاجي لا أكاد أجد سبيلا إلى فهمها، إلا أن تكون مؤامرة محبوكة الأطراف للنيل من السلطان ... اذهبي يا جارية فأتيني بجارية أخي الأمير قنصوه ... لا بد أن أعرف ذلك السر ... لا بد أن أعرف!
وذهبت الجارية لشأنها، وظلت أصل باي الأم تذرع غرفتها مبهورة متتابعة الأنفاس، وهي لم تزل تردد بينها وبين نفسها: لا بد أن أعرف ... لا بد أن أعرف ... ولن أمكن لمصرباي تلك الأفعى الخبيثة أن تنال من ولدي ... ولن أمكن لقنصوه أن يطمع في عرش ابن أخته الصغير، بالدس والخيانة!
هل كانت مصرباي الجركسية تحب السلطان الصغير محمد بن قايتباي؟ أم كان هواها مع الشاب الطامح قنصوه الأشرفي خال السلطان وأخي أصل باي؟ أم لا يزال قلبها ينازعها إلى خاير بن ملباي، ذلك الأمير الشاب، الذي كان أول من أيقظ أحلامها النائمة، وفتح عينيها المغمضتين على أماني العرش والجاه والسلطان؟
إن مصرباي الجركسية نفسها لا تكاد تعرف كيف تجيب، لو بدا لها أن تسأل نفسها سؤالا من هذه الأسئلة، كل الذي تعرفه وتطمح إليه ويتخايل لعينيها، رؤيا في المنام وخيالا في اليقظة، هو أن تصير يوما ما سلطانة، تجلس إلى مرآتها في غرفة الزينة، فتنطبع عليها صورتها وصورة جارية وراءها ترجل لها شعرها المرسل، وخطا السلطان تقترب من باب الغرفة ...
تلك كانت كل أمانيها، أما ذلك السلطان من يكون فليس يعنيها جواب ذلك السؤال ...
فهل عرفت أصل باي أم السلطان هذه الحقيقة أم لم تعرفها، وقد جهدت في البحث والتحري والاستقصاء منذ ألقت إليها جاريتها ذلك النبأ ... يا لها في حيرتها! ... أهي مؤامرة تدبر لخلع ولدها عن العرش، يشترك في تدبيرها قنصوه الخال، وخاير بن ملباي، وطومان ابن أخي الغوري؟ لقد جاءتها الأنباء اليوم بأن صلة جديدة قد نشأت بين طومان ومصرباي؛ فإنه ليزورها كل يوم في دارها فيطيل الزيارة، وإن جاريته لتسعى بين داره ودارها تحمل منه رسائل وتعود إليه برسائل؟
ما وجه ذلك كله وما دلالته؟ آه! من لها بأن تعرف الحقيقة؟
وخيل إلى أصل باي أنها تستطيع تدبير الأمر على أي وجه كان، فأشارت على ولدها السلطان أن يباعد بينه وبين خاير بن ملباي، فيرسله في سفارة بعيدة إلى ابن عثمان سلطان الروم؛ فهذا واحد، أما أخوها قنصوه الأشرفي فإن لها شأنا آخر معه!
ودعته إليها، فلما مثل بين يديها استحلفته بحق الأخوة والخئولة، ورابطة الدم وذكريات الماضي، ألا يكون حربا على ابن أخته! ودهش قنصوه وسألها: ولكن ماذا يدعوك إلى ذلك يا أختاه؟!
قالت: ليطمئن قلبي.
قال قنصوه ساخرا: فليحلف لي هو كذلك ألا يكون حربا على خاله.
وعضت أصل باي على شفتيها من الغيظ، ثم قالت مستسلمة: لك ذلك.
ثم دعت بمصحف عثمان، وجاء ولدها فحلف وحلف له خاله، ثم خرج قنصوه - طاعة لأمر السلطان ومشورة أصل باي - على رأس حملة إلى خارج القاهرة؛ لتأديب بعض الثائرين من العربان ...
واطمأنت إلى بعض ما دبرت لحماية ولدها من دسائس الأمراء، ولكن ما شأن ذلك الفتى - طومان ابن أخي الغوري - مع مصرباي؟ وما تردده مصبحا وممسيا بين داره ودار أقبردي الدوادار حيث تقيم تلك الأفعى؟!
وماذا تملك من أمر ذلك الفتى، وأمر تلك الجارية اللعوب الفاتنة؟
آه! لو كان صديقها الأمير جانبلاط قريبا منها! إذن لاستطاع أن يهديها إلى الرأي ويدبر تدبيره، ولكن الأمير جانبلاط يقيم اليوم في الشام نائبا لحلب، لكأنما أراد أخوها قنصوه أن يحول بينها وبين لقياه، فبعث به إلى ذلك المنفى البعيد ...
وطارت على أجنحة الأماني إلى حلب ... إلى حيث كان صديقها جانبلاط، أتراه يفكر في شأنها ويذكرها كما تفكر في شأنه وتذكره؟ ومن أين له - وهو بعيد بعيد - أن يعرف أنه الساعة الرجل الوحيد الذي تطيف به أماني خوند أصل باي حظية قايتباي، وأم ولده السلطان الناصر! ليته يدري! ليته يدري! إذن لهدأ وجيب قلبها، واطمأنت إلى سعادة اليوم والغد. حسبها أن يذكرها جانبلاط، وأن تطيف بخياله وبينهما ذلك البعد البعيد!
الفصل التاسع
شهددار
جلس طومان بين يدي عمه الغوري ينتظر أن يأذن له ليفضي إليه بما عنده من الأخبار، وكان الغوري قد عاد لساعته من جولة في المدينة زار فيها بيوت بعض الأمراء من أصدقائه، فعرف من أخبار القصر ما لم يكن يعرف. إنه اليوم أكثر اطمئنانا إلى يومه وغده ... وليس في المدينة كلها أحد يعرف ما اجتمعت عليه نيته، وليس هنالك من يظن ظنا أن تلك الفتن الثائرة في المدينة وفيما حولها، هي من وحيه وتدبيره؛ ليبلغ من ورائها ما يأمل أن يبلغ ... لقد تفانى الأمراء العظام وأكل بعضهم بعضا، فليس أمامه من يخشاه اليوم ... ومن ذا الذي يخشاه الغوري بعد؟ أقنصوه الخال، ذلك الشاب الغرير الذي يحسب الأمر كله شركة بينه وبين السلطان الصبي، لا ينافسهما في الأمر أحد؟ أم جانبلاط نائب حلب الذي زين له هوى أصل باي أم السلطان أنه صاحب الحل والعقد؛ لأنه صديق الأم والخال؟ أم الدوادار الثاني طومان باي الذي يظن أنه بالغدر والحيلة قد كسب عطف الخال، فما هو إلا أن يخطو خطوة أخرى فيقع ظله على العرش؟ من هؤلاء جميعا؟ وأين كانوا؟ وماذا كانت مكانتهم بين الأمراء حتى يكون لهم مطمع في الوثوب على العرش؟! ولكنه سيتركهم وما يأملون حتى يبلغ منهم ... بالصبر والحيلة.
لو شاء لوثب بأتباعه وثبة تزيح من طريقه كل أولئك، وتصعد به إلى العرش، ولكنه لا يشاء الآن، إنه لا يريد أن يصعد إلى العرش على أشلاء ودماء؛ لأنه يريد أن يلي العرش وليس عليه ثأر يطلب به ... يريد أن يلي العرش؛ ليعمر على العرش أطول مما عمر أستاذه السلطان قايتباي، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن يتفانى أعداؤه ويأكل بعضهم بعضا، ولم يرفع هو سيفا ولم يسفك دما، وينفرد في الميدان بالصبر والحيلة، وحينئذ تقع عليه الخيرة ... عليه هو وحده؛ لأنه هو وحده الأمير في الميدان ...
كانت هذه الخواطر تطيف برأس الغوري، وقد عاد من جولته في المدينة، وطومان جالس بين يديه ينتظر أن يأذن له في الحديث ليفضي إليه بما عنده ... ولم يحس طومان - وهو في مجلس عمه - بأن انتظاره قد طال، ولم يمل؛ فقد كان رأسه هو أيضا يموج بخواطر شتى تذهب به من قريب إلى بعيد، وكانت تملأ خياله صورة تلك الفتاة التي لقيها منذ أيام - على غير ميعاد - في دار أقبردي الدوادار ... - لا، ليست هي مصرباي!
إنه لم ينظر يوما ما إلى مصرباي نظرة فتى إلى فتاة، كل ما كان بينه وبينها من العاطفة أنها أخت، صديقة، فرضت عليه الرجولة الباكرة أن يحميها ويدفع عنها، ولكنها اختارت لنفسها فتركها وما اختارت، وإن لم ينس ما عليه لها من واجب الأخوة، وما عليها له ... وعرف أنها تقيم في دار أقبردي الدوادار، وسمعها تهتف باسمه ... فأرسل إليها جاريته الكاتبة الأريبة التي باعه إياها جاني باي ... يستزيرها، فأذنت له في الزيارة، ولقيها بعد سنين من القطيعة، وتحدث إليها وتحدثت إليه، وعرف أين هي اليوم مما كانت منذ سنين. إنها اليوم سيدة من طبقة أخرى، فليس بينها وبين تلك الفتاة التي فارقها في حلب صلة قريبة، لقد تغيرت تغيرا تاما عما كانت: في أخلاقها، وعواطفها، وفي نظرتها إلى الحياة والأحياء، وذهبت بها الأماني مذهبا بعيدا، كأنما لم تكن يوما جارية بين يدي نخاس خوارزم يسومها المليء والمفلس، إنها اليوم تطمع أن تكون سلطانة على عرش مصر، أو أم سلطان ...
وأراد طومان أن يستعينها على بعض أمره، فتكون له لسانا وعينا وأذنا، يسمع بها ويرى ما يريد أن يسمع، ويرى مما يجري في قصور أصحاب السلطان؛ فهي تعرفهم جميعا، وتسعى إلى مرضاتهم جميعا، إنها لتطمع أن يكون السلطان يوما واحدا من أولئك الأمراء، وإنها لتأمل أن تكون يوما ما سلطانة، فتلك مكانتهم عندها وتلك مكانتها منهم، وإنها بهذه المكانة لتستطيع أن تكون عينا وأذنا ولسانا لصديقها طومان وأستاذه الغوري ... ولكن طومان لم يمض فيما أراد؛ فقد أبى أن ينزل بمصرباي أخته إلى ذلك الدرك، فأمسك عما اعتزم، وهم أن يفارقها ويمضي، حين سطعت له في قصر أقبردي لؤلؤة فريدة تتضوأ لعينيه، كأنما يريد القدر أن يربط بينه وبينها بشعاع من النور ... تلك هي شهددار بنت أقبردي الدوادار، ذلك الأمير الذي وقف يوما على عتبة العرش وكاد يضع التاج على رأسه، ثم رده القدر ... هذه هي ابنته، قد جاءت الساعة لتتحدث حديثا إلى مصرباي أرملة عمها، ولم تكن تحسب أن في مجلسها أحدا. والتقت عيناها بعيني طومان، فتعثرت في خطاها وارتدت مذعورة، فصاحت بها مصرباي: تعالي يا شهددار، إنه أخي طومان.
وانعقدت بينهما منذ اليوم آصرة لا تنفصم، فلا يزال طومان يسعى إلى دارها مصبحا وممسيا، ولا تزال جاريته الكاتبة الأريبة تسعى بينهما، تحمل إليها رسائله وتعود بالجواب ... ولا يزال كلما ذهب إلى دار أقبردي ليلقى صاحبته، لقيته مصرباي فتحدثت إليه ساعة وتحدث إليها، فهي له في بيوت الأمراء عين وأذن ولسان، وإن لم يرد ذلك طومان وإن لم ترده مصرباي، أو لعلها كانت تريد، فليس يخفى على فطنتها أن عمه الشيخ قنصوه الغوري قد يصير يوما ما سلطانا.
ووجد طومان في زيارة دار أقبردي الدوادار إحساسا يغمره بالسعادة، ويجد له أماني لذيذة ساحرة، ولكنه لم يكن يخفى عليه ما كان بين عمه وبين أقبردي الدوادار من جفاء، وقد ذهب أقبردي ولعله لا يعود، ولكن عمه لا يمكن أن يرضى أن تكون زوجة طومان ابن أخيه هي بنت عدوه أقبردي الدوادار ...
تلك فكرة كانت تطيف برأس طومان، فتنغص عليه ما يجد من السعادة حين يلقى صاحبته شهددار في مجلس أخته مصرباي، ولكنه مع ذلك لم يقطع الأمل ...
وطال حديث طومان إلى نفسه، وتزاحمت خواطره وهو جالس بين يدي عمه ينتظر أن يؤذن له في الكلام، وطال حديث الغوري إلى نفسه وابن أخيه ينتظر بين يديه ... ثم فاء كل منهما إلى نفسه، فقال الغوري: هيه! ماذا وراءك يا طومان ؟ لعلك قد عرفت جديدا من أمر السلطان الناصر وخاله قنصوه؟
قال طومان: نعم، فقد خرج قنصوه في سرحته لتأديب الثائرين من أعراب البادية؛ طاعة لأمر أخته أصل باي، وخرج خاير بن ملباي سفيرا إلى ابن عثمان.
فقاطعه الغوري باسما: نعم؛ ليخلو الجو للناصر وصاحبتك مصرباي الجركسية!
قال طومان مدهوشا: كأنك تعرف يا عم!
قال الغوري: نعم يا بني، وكأنما كانت أمه تهيئ له هذه الفرصة، وهي تريد أن تدفع عنه، فقد قرر الناصر أن يتخذ مصرباي زوجا، قبل أن يعود خاير بن ملباي من سفارته، وقنصوه الخال من سرحته في البادية.
قال طومان: وي! ولكن ماذا يكون موقف أمه منه، وإنها لتكره هذه الجارية؟!
فقهقه الغوري ضاحكا وهو يقول: لا أمه، ولا خاله، ولا خاير بن ملباي ... لن يكون له صديق من هؤلاء الثلاثة منذ اليوم!
فمط طومان شفتيه أسفا وهو يقول: يا للفتى الأحمق، ويا لمصرباي!
ثم حضرته صورة أخرى، فأغمض عينيه وسبح في أحلامه، وهمس لنفسه في لهفة وجزع: آه يا شهددار! أين ألقاك بعد اليوم؟
الفصل العاشر
آخرة ملك
خرج الدوادار الثاني طومان باي من حلبة الكرة في الحوش السلطاني، وعلى عينيه غشاوة من الغضب، كيف يضربه السلطان الناصر بصولجانه - مرة، وثانية، وثالثة - على مشهد من الأمراء ومماليك الخاصة وهو الدوادار الثاني، فلولا أن قنصوه الخال هو الدوادار الكبير، لكانت السلطات كلها في يده ... كيف يجرؤ ذلك الصبي العابث على هذه الكبيرة؟ إن قايتباي العظيم لم يكن ليجرؤ على مثلها ... وثارت شياطين الشر في رأسه فأقسم أن ينتقم ... ومضى يدبر لأمره!
وأظله الليل ولم يزل يفكر في أمره، فلما مد الظلام رواقه، قام إلى مرآته فأصلح شأنه وأخذ زينته، ومضى إلى دار خوند فاطمة بنت العلاء - أرملة السلطان قايتباي - على قنطرة سنقر، وكانت في مجلسها بالشرفة ترقب الطريق من وراء السجف في انتظار مقدمه في لهفة وقلق ... هذه التي كانت يوما ما سلطانة على عرش مصر، يخضع لها الملايين ويقبلون لها الأرض، تكاد اليوم من لهفتها إلى لقاء ذلك الأمير تقبل الأرض لمن يأتيها ببشرى قدومه ... ذلك الأمير الذي كان منذ قريب رقيقا من مماليك زوجها الذي مات: الأشرف قايتباي! فإنها لفي هذا المجلس تنتظره منذ ساعات، قد ذهب بها الفكر مذاهبه، وتقسمتها الهواجس والأوهام، تخشى أن يكون قد استأثر به الغضب لتلك الكلمة العابرة التي لفظتها شفتاها في آخر لقاء كان بينهما منذ أيام، وإنه لذو أنفة وكبرياء كأنه من أبناء السلاطين!
ماذا قالت له؟ وماذا عليها في تلك الكلمة التي تجري على كل لسان؟! لقد كانت زوجة لقايتباي، وكان لها ذات يوم ولد منه يؤهلانه لوراثة العرش بعد أبيه، ولم تكن أصل باي يومئذ إلا جارية من جواري السلطان، لا يحفل بها أحد، ولا تأمل أن تصير يوما شيئا أكثر من جارية من جواري السلطان، ولكن القدر الذي يصنع العجائب قد هيأ لها هذه المنزلة التي تنعم بها اليوم، فإذا هي «أم ولد»، وإذا ولدها يكبر حتى يبلغ الشباب، وإذا الموت يحتضر ابن السلطان البكر، فلا يرث عرش أبيه قايتباي ويرثه ابن الجارية أصل باي ... وإذا هي أم السلطان وأخت الدوادار الكبير وكانت جارية، وإذا خوند فاطمة بنت العلاء - أرملة السلطان الأشرف قايتباي - قد عاد مجدها ذكرى يكاد يبليها الزمن ويلفها في مدرجة الماضي؛ ليدفنها من بعد في أعمق أغوار النسيان.
جالت هذه الخواطر ذات مساء في نفس خوند فاطمة بنت العلاء، فإذا هي تتحدث بها إلى صاحبها طومان باي الدوادار، واستمع صاحبها إلى حديثها صامتا، ثم أخذ في حديث غيره ... كأن لم تقل ولم يسمع، وقال لها بعد فترة: تمنيت يا خوند أن ترضيني زوجا.
وكانت أمنية تتمناها، ولكنها لم تجب، فقد سرها أن تكون عنده موضع التمني، وأن تسأله الثمن قبل أن تجيبه إلى أمنيته، فقالت: تمنيت يا أمير، لو لم يكن ذلك الصبي - ابن الجارية أصل باي - هو الجالس على عرش قايتباي!
وتقبض وجه صاحبها ولم يجب، ثم لم يطل بينهما المجلس بعد، فقام، وقامت تودعه وإنها لتود - من شدة الأسف لما قالت - أن تقبل له الأرض مستغفرة تائبة؛ لتستديم حبه ورضاه ... تلك التي كانت يوما ما سلطانة على العرش يخضع لها الملايين ويقبلون لها الأرض!
وذهب طومان باي الدوادار فلم يعد منذ تلك الليلة، ولم يستمع إليها، ولم تستمع إليه منذ تلك الكلمة، والليلة موعده، فإنها لفي مجلسها ذلك تنتظره منذ ساعات، قد ذهب بها الفكر مذاهبه، وتقسمتها الهواجس والأوهام ... ثم رأته مقبلا من بعيد، فتهلل وجهها وتهيأت لاستقباله!
وكان في وجهه أمارات الجد والعزيمة، كأنه مقبل على أمر ذي بال، وخفق فؤادها، ثم اطمأنت حين لمحت ابتسامة ترف على شفتيه، كأن خاطرا سعيدا قد ألم به ... وقالت بعد برهة: خاطر ما قد ألم برأسك فأشرق على ثغرك بابتسامة، فهلا أشركتني معك في سرائك!
قال الدوادار وقد زادت ابتسامته إشراقا: بل إن لك السراء كلها يا خوند، فهلا حدثتيني ماذا كانت أمنيتك إلي لترضيني زوجا؟
فعضت على شفتها نادمة وقالت: أفلم تنس بعد يا أمير؟! إن كل أمنيتي الليلة أن أفوز برضاك وصفحك!
قال ضاحكا: شكرا، وأمنيتك الأخرى يا خوند؟
قالت: قد نسيت كل ما كان يا طومان باي، فبالله عليك إلا ما نسيت أنت!
قال في رقة وعيناه تبرقان بريق العزم: ولكن فرضا علي أن أحقق أمنية جاشت بخاطرك يوما ما. لن يظل محمد ابن أصل باي على عرش مصر، ولست حقيقا بشرف الرجولة إن لم يسل دمه على حد سيفي ... ذلك الصبي المفتون!
قالت المرأة مذعورة: طومان! ماذا تقول؟
واسترسل الرجل في حديثه يقول، وقد عاد صوته رقيقا ناعما كأنما يوقع على وتر: ولن يكون طومان باي أهلا لك يا خوند إلا يوم يضع على رأسه التاج وتعودين - كما كنت - سلطانة على العرش، يخضع لها الملايين ويقبلون الأرض، وتعود أصل باي - كما بدأت - جارية لا يحتفل بها أحد، وأما بلا ولد!
وساد الصمت فترة بين الحبيبين، وحلق بهما الخيال في واد بعيد ... ومد إليها يده مصافحا، كأنما يتحالفان على الدم، ثم نهض.
وعاد قنصوه الخال من سرحته في البادية ، فما أقام في داره إلا ساعة حتى أنبأته جاريته النبأ ... - ماذا تقولين يا جارية؟ - كل ذلك قد كان يا مولاي، وستبيت مصرباي الليلة في القلعة زوجا للسلطان الناصر!
وتلقى الأمير النبأ كأنما انقضت على رأسه صاعقة، أفمن أجل ذلك أرسل به السلطان في تلك الرحلة النائية؟ أو لم يكف هذا الصبي أن يعيث في بيوت الناس ويهتك حرماتهم، حتى يتجرأ على خاله فيخالفه في غيبته إلى المرأة التي كان يطمح أن يتخذها زوجا فيسبقه إليها؟ له الويل ولأمه أصل باي! لقد طفح الكيل حتى لم يعد يجمل الصبر، ولكن أي شيء يصنع وهو ابن أخته التي رفعته من مملوك في الطبقة إلى رتبة الإمارة؟ أيجمل به أن يغدر بأخته وبسلطانه، ويحنث في اليمين التي حلفها على مصحف عثمان؟ ولكن الناصر هو الذي بدأ بالغدر وحنث في يمينه، ثم ما ذنب هذا الشعب حتى يحمل أوزار ذلك السلطان الصبي، الذي لا يستجيب لغير نداء شهواته؟!
واستطرد قنصوه الخال لأوهامه، ومضى يحدث نفسه مثل هذا الحديث، لا يكاد يجد بابا ينفذ منه إلى الرأي، فإنه لغارق في أفكاره إذ استأذن عليه صفيه الدوادار الثاني طومان باي فأذن له، فلم يكد يستقر في مجلسه بين يديه حتى قال في خبث: هل جاءك النبأ يا سيدي الأمير بأن مصرباي الجركسية تزف الليلة إلى سلطاننا الناصر ابن قايتباي؟
وكأنما أراد طومان باي أن يريشه سهما نافذا، فلم يترفق ولم يجمل واسترسل يقول: وقد زين القصر والقلعة، وامتدت الزينات من بيت أقبردي حيث يبدأ موكب العروس إلى حيث ينتهي عند قاعة الجلوة، وفرشت على طول الطريق شقائق الحرير، وكسيت جدران البيوت، وعلقت قناديل الزيت؛ لتكون زفة سلطانية ...
وأحس قنصوه وخز الطعنة في فؤاده فقال ضجرا: حسبك يا طومان! هل هو إلا صبي يعبث!
ثم زفر زفرة، ورفت ابتسامة غامضة على شفتي طومان باي الدوادار، وأيقن أنه قد بلغ من نفس الأمير مبلغه، فمال بالحديث إلى جانب آخر يقول: وما جريرة هذا الشعب حتى يتولى أمره هذا الصبي، الذي لا يحسن تدبير أمر نفسه؟ هل عقم الجركس حتى ليس فيهم من يلي عرش مصر غير محمد بن قايتباي، فأين منهم مثل مولاي الأمير؟
فبرقت أسارير قنصوه، وبدت في وجهه أمارات الرضا، ثم استدرك قائلا: هذا رأي لا يراه غيرك يا طومان.
قال طومان باي: بل هو رأي الشعب والأمراء والمماليك جميعا يا مولاي، وإني لأعلم أن مولاي لا يزهد في العرش إلا تحرجا من رفع السيف في وجه ابن أخته، فإن شئت يا مولاي فإن علي تدبير الأمر، ولن ينالك شيء مما تكره!
قال قنصوه متزهدا: ولكني أكره أن يراق دم أبناء الجركس، ويموت بعضهم بأيدي بعض، وهم عدة الدولة في كل ما ينوبها!
قال طومان باي: ليطمئن مولاي، فلن يراق دم!
وخرج طومان باي الدوادار على نيته، وأقام قنصوه الخال في داره أياما مرهف السمع لكل ما يصل إليه من أنباء، فلم يصعد إلى القلعة ولم يلق السلطان!
بلغ السلطان الناصر غايته من مصرباي، فما أمضى إلى جانبها إلا أياما، ثم عاد إلى ما كان من شأنه: يخرج إلى أسواق المدينة، ويجوس خلال طرقاتها في الليل والنهار، في بطانة من الرعاع والسفلة، يفتك ويسفك الدم، ويهتك الحرمات، ثم يعود إلى القلعة راكبا أو راجلا، منهوكا مخمورا لا يكاد يفيق!
وبلغت مصرباي الجركسية غايتها من السلطان، حين رأت نفسها وقد صارت سلطانة، تجلس إلى مرآتها في غرفة الزينة، ومن خلفها جارية ترجل لها شعرها، فتنطبع في المرآة صورتان ... ولكنها لم تسمع مرة واحدة خفق أقدام السلطان تقترب من الباب!
امرأة واحدة في القصر كان قد بلغ منها الهم والقلق كل مبلغ حتى ضاقت بحياتها ... تلك هي أصل باي أم السلطان، لقد أغفلت شأن ولدها حين يئست من صلاح أمره، منذ تزوج على كره منها بمصرباي، وأغفلت شأن أخيها قنصوه حين يئست من وفائه بالذمة، منذ وقع في همها أن له مطامع في عرش ولدها الناصر، وأغفلت شأن نفسها حين يئست من عودة جانبلاط منذ ذهب إلى الشام أميرا، فطاب له من دونها المقام! وقام بينها وبين الناس جميعا حجاب من الوهم لا ينفذ من ورائه قلب إلى قلب، فلولا جاريتها الخاصة وما تنقل إليها من حديث الناس، لنسيت أنها الأميرة أصل باي أم السلطان الناصر، ولكن أين هو الناصر؟ لقد استأثرت به بطانة السوء من أصحابه، فانقطع ما بينه وبين الناس جميعا؛ فلا أمه، ولا خاله، ولا مصرباي، ولا أحد من الأمراء أو المماليك أو الرعية تربطه به صلة من الود، أو آصرة من الولاء، لقد استهان بالرعية فاستهانت به، وضيع شعبه فأضاعه ... ذلك السلطان ابن السلطان الذي كانت تهتف باسمه الملايين من قلوب عامرة بالمحبة والولاء.
اليوم الحادي عشر من ربيع الأول سنة 904، وقد أخذت المدينة زينتها احتفالا بالمولد النبوي الشريف، ولا تزال أعظم ليالي القاهرة منذ كانت هي ليلة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، ولا تزال أعظم حفلاتها شأنا هي حفلة السلطان في قصر القلعة، حيث يجتمع الخليفة والأمراء والوزراء والقضاة، وقادة الجند ورؤساء المماليك ... فما بال حفلة السلطان في هذا العام، ليس لها بهاء ولا رواء، فلم يصعد إلى القلعة للمشاركة في الاحتفال إلا كبير الأمناء الشيخ الأمير أزبك، وإلا تاني بك الجمالي أمير السلاح، وإلا طائفة من الشيوخ «متفضلين» لم يدعهم داع، ولم يستقبلهم مستقبل! حتى السلطان نفسه لم يعن به أحد فيسأل أين هو في هذه الليلة المشهودة! ومن يدري! لعله كان في تلك الليلة في سرحة من سرحاته العابثة في بولاق، أو عند بركة الرطلي، أو في قبة الأمير يشبك الدوادار، يهتك ويفتك ويسفك، على ما شاء له الهوى والشباب.
أولئك مماليك الطباق يسأل بعضهم بعضا: أين ما تعود السلاطين أن يوسعوا به عليهم في مثل تلك الليلة من طيبات الرزق؟! ولكن من ذا يجيب؟ وركبهم الشيطان فسول لهم، فانطلقوا يعيثون في الأرض الفساد، ويرجمون الأمراء من الطباق بالحجارة، ويلقون عليهم الماء المتنجس بالأقذار، ويخطفون عمائم الفقهاء ...
وانقضى يوم المولد في القاهرة على شر ما تنقضي الأيام، فلما كان الغد أصبح السلطان نشيطا معافى، فأعد عدته ليوم قصف وفرجة على شاطئ النيل، وسبقه متاعه وأثقاله، ونصبت الخيام وأعدت الكئوس، ونصت دكة المغاني ...
وبرز السلطان في طريقه تكتنفه طائفة قليلة من خاصته في موكب تتناهبه العيون، فلما كان عند بولاق ابتدر إليه اثنان، أما أحدهما فرجل في زي التجار قد لاث عمامته على رأس أشمط، ووجه مخدد، وعينين فيهما ذبول وانكسار، يناديه من خلفه طفلتان قد ارتسمت على وجهيهما آيات الرعب والفزع، وتقطعت أنفاسهما من البهر، فلا يكاد صياحهما يبلغ أذنيه، وأما الآخر فشاب في زي أمراء المماليك عليه ثياب الفرسان، قد ترجل عن حصانه وخطا إلى السلطان، وفي يده سيف مسلول ...
ذانك هما التاجر جلال الدين، والأمير طومان باي الدوادار الثاني ... واستبقا يريد كل منهما أن ينال السلطان بطعنة يشتفي بها من ذات صدره ...
وتدحرج رأس السلطان على التراب، وتعلق جسده بركاب فرسه متدليا ينزف دمه ... وبسط جلال الدين كفيه يتلقى قطرات الدم يلعقه بلسانه، ويمسح به وجهه ووجه ابنتيه، وهو يقهقه قهقهة المجانين، وقد جحظت عيناه من محجريهما كأنهما لا تصدقان ما تريان ...
وتقاذفت الرأس أقدام السابلة، ودوى الخبر في المدينة بمقتل السلطان ...
وصعد الظاهر قنصوه الخال إلى العرش، وخلع على طومان باي وجعله الدوادار الكبير ...
وتأيمت مصرباي ولم تنعم شهرا بمجد السلطان، وثكلت أصل باي ولدها، وهتفت خوند فاطمة بنت العلاء - أرملة السلطان قايتباي - فرحانة: لله أنت يا طومان باي! لله أنت!
ولكن طومان باي لم يكن قد بر بكل ما وعد ...
الفصل الحادي عشر
شعب يلهو
كانت الستائر مسدلة على نوافذ القصور في بركة الرطلي، وإن أنوار المصابيح لتنفذ من ورائها فتترامى على سطح الماء في الخليج الحاكمي، وقد هبت نسمات الليل على صفحة الماء، وتكسرت عليها الأشعة، كأنها سطور مكتوبة يقرأ منها كل ذي عينين نجوى خواطره ...
وعلى شاطئ الخليج سرادق منصوب قد أقيمت في صدره دكة عالية، جلس عليها جوقة من مشاهير أهل الغناء والموسيقى، بين عازف عود، وضارب دف، ونافخ شبابة، فيهم علي بن رحاب صاحب التلاحين المشهورة والأغاني الساحرة، وفيهم هيفاء اللذيذة مغنية السلاطين، وفيهم علي بن غانم الطنبوري، وأنعام الخاصكية معلمة الغناء في قصر السلطان قايتباي ... ولم تتخلف عن المجلس عزيزة بنت السطحي كبيرة مغنيات القاهرة لذلك العهد، وإن كانت قد هجرت الغناء منذ بعيد ...
واصطف الناس جلوسا على الحشايا والأرائك محتبين أو متكئين على النمارق، قد غص بهم السرادق على سعته، حتى ليس فيه مقعد لقادم جديد أو طريق لعابر ...
وعلى الأريكة القريبة من دكة المغنين، جلس طائفة من أمراء المماليك يتوسطهم طومان ابن أخي الغوري، قد فرعهم طولا، وبهرهم جمالا وسماحة، وأشرقت على شفتيه ابتسامة راضية تشيع فيما حواليه البشر والاطمئنان.
وعلى مقربة من مجلس هؤلاء الأمراء، جلس جماعة من وجهاء القاهريين وظرفائهم، فيهم الشاعر الماجن جمال الدين السلموني، والخطيب الظريف بدر الدين بن جمعة شيخ قبة يشبك، وفيهم المهذار العياب سباب الأنام تقي الدين بن محمود الشاهد بالمدرسة الصالحية، وفيهم المؤذن المغني المزواج المطلاق شهاب الدين المحلاوي الذي جاوز عدد مطلقاته تسعا وتسعين، ولم يزل عزبا يبحث عن زوجة يبلغ بها عدد مطلقاته المائة ... وقد اكتنف هذه الجماعة عن اليمين وعن الشمال، رجلان قد بلغا من دمامة الخلقة وبشاعة المنظر الحد الذي يوشك أن يخرجهما عن حقيقة الآدمية: أحدهما أرقم المسيخ - خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي - والآخر معين الدين بن شمس نائب وكيل بيت المال ... وكأنما أرادت هذه الجماعة من القاهريين الظرفاء أن يكتنف مجلسهم هذان الدميمان؛ ليكونا وقاية لهم من شر حاسد إذا حسد.
وتهيأت الجوقة للغناء، وأرهف الناس آذانهم يسمعون، وأزيحت الأستار عن شرفات البيوت المطلة على الخليج، وبرزت من خلالها وجوه قد نضرتها النعمة، وانبسط الضوء على سطح الماء، وتكاثرت عليه الظلال الراقصة، وغنى علي بن رحاب فأطرب وأعجب، وجاوبه أصحابه وصواحبه عزفا على العود، أو نقرا على الدف، أو صفيرا على الشبابة، وتردد الصدى من بعيد إلى بعيد ... وهو ينشد:
مولاي خذ لي أمانا
من لحظ طرفك
وارفق بقلبي حنانا
من فيض لطفك
إن خفت عينا ترانا
فزر بطيف
أو فاستضفني عيانا
واحتل بظرفك
وقل غريب أتانا
وارفق بضيفك
وفرغ من غنائه فالتهبت الأكف بالتصفيق، وبحت الحناجر بالهتاف، وارتفعت الأصوات من كل جانب؛ تستعيد ذلك اللحن الذي استلب وقار الناس، واستخف الشيوخ والشباب.
وهز علي بن رحاب رأسه شاكرا، وتهيأ ليعيد لحنه، فلم يكد يرفع صوته: مولاي خذ لي أمانا ...
حتى اهتزت جوانب السرادق بصوت أجش يصيح: اخرس، لا أمان لك!
فالتفت الناس نحو الباب مذعورين، ليجدوا كوكبة من المماليك السلطانية يقدمهم فارس على جواده، قد اقتحموا السرادق شاهرين السيوف، لا يبالون من في طريقهم من الناس أن تطؤهم الأقدام، أو تحطمهم سنابك الخيل، فقصدوا إلى المنصة حيث كان علي بن رحاب في جوقته قد ألجمهم الفزع، فتسمروا في أمكنتهم مرعوبين، لم يحاول أحد منهم أن يفلت من ذلك القضاء النازل أو يفر بنفسه. وتقدم الفارس إلى حيث كان علي بن رحاب، فانتزعه من صحابته وهو يقول: تعال أيها الصعلوك؛ لترى ويرى الناس فيك جزاء من يتدخل فيما لا يعنيه!
ثم اقتلعه عن المنصة في غلظة وأسلمه إلى جنده؛ ليمضوا به إلى مجلس الدوادار الكبير طومان باي؛ ليقتص منه على ما ينسب إليه من الذنب ...
كان الناس من الفزع والدهشة، كأنما أخذتهم الصاعقة بغتة، فأسرع منهم إلى الباب طائفة يريدون الفرار، فسقطوا تحت أقدام الجند، وترامى بعضهم على بعض، فما منهم إلا كسير أو جريح أو قتيل قد لفظ نفسه، وطائفة كأنما أصابها الرعب بالشلل، فيبست أيديهم وأرجلهم، ولم يستطيعوا من مكانهم حراكا، ونجوا بالخوف من الهلكة، وطائفة تسمع وترى وتتهيأ للدفاع باليد واللسان إذا تهيأ لها سبيل الدفاع ...
فلما هم الجند أن يمضوا بعلي بن رحاب، اعترض سبيلهم الأمير الشاب طومان، وصاح بهم صيحة آمر: قفوا! أين تذهبون به؟
فالتفت إليه قائدهم مستنكرا يقول: كيف تجرؤ يا سيدي؟ إنه أمر الدوادار الكبير طومان باي!
قال طومان: وما جريرته حتى يؤخذ هذه الأخذة، وتطأ خيلك إليه بطون الناس؟
قال القائد وعلى شفتيه ابتسامة تعبر عن معنى : إذا أردت يا سيدي أن تعرف جريرته، فإني أستطيع أن آخذك معه لتعرف هناك بين يدي الدوادار الكبير.
ورمى بصره نحو مماليكه، ولكن طومان لم يلبث أن رده إليه وهو يقول: بل سيبقى علي بن رحاب هنا؛ حتى يعرف هو نفسه أي جريرة يؤخذ بها.
ثم خطا خطوة فوقف إلى جانب علي بن رحاب، ووضع يده على قبضة سيفه، وهو يجيل نظره بين المماليك كأنما يتحداهم فردا فردا، وجماعة متحدة أن يبرزوا إليه ليستخلصوا أسيرهم من يده، وقبل أن يتدبر قائد الجند موقفه من هذا المملوك الشاب، كانت كلمات طومان قد لامست كل قلب من قلوب الناس، فسرت في عروقهم هزة عنيفة واستيقظت حميتهم، فإذا هم يصيحون بالمماليك صيحة رجل واحد، ويندفعون إليهم اندفاع الموج على ساحله ... وأوشكت أن تنشب معركة.
وأحس قائد العسكر حرج الموقف، فآثر الانسحاب بعسكره، وخلف علي بن رحاب في حماية طومان ...
وتسحب الناس إلى بيوتهم، قد نغص أولئك المماليك عليهم ليلتهم، فما استمتعوا بشيء مما ألفوا أن يستمتعوا به في ليالي علي بن رحاب.
وانفض السامر فلم يبق من ذلك الجمع الحاشد إلا شراذم متفرقة، قد أخذت كل جماعة منها في باب من أبواب الحديث، وتنتهي جميعا على رأي واحد، هو الإعجاب بطومان، والسخط على غلظة أولئك المماليك، وإنهم فيما يتحاورون ليخلطون الجد بالهزل، ويستنبطون من كل معنى فكاهة ونادرة وضحكا عريضا.
وكان أرقم المسيخ لم يزل حيث كان، قد انتقع وجهه، ودارت عيناه في محجريهما، يرمي بهما إلى هنا وها هنا في قلق ظاهر، كأنما يبحث عن شيء، حتى استقرتا على وجه طومان، وقد جلس إلى علي بن رحاب يتحدث إليه ويسمع منه. وكان الغضب قد زاد أرقم تشويها ومسخا، حتى كأنه تمثال منصوب للقبح والدمامة، فلم تكد عينه تستقر على طومان حتى انحسرت شفتاه عن شيء يشبه الابتسام، وتمثلت في عينيه نظرة إعجاب وحب ورحمة!
وبلغت أذنيه قهقهات متتابعة، فاستدار ينظر، فإذا جمال الدين السلموني الشاعر وأصحابه قد وضعوا أيديهم على بطونهم ، ومال بعضهم على بعض مغرقين في ضحك عريض، فزم شفتيه أسفا وهو يقول في همس: حتى في هذه الساعة لا يدعون المزح والدعابة!
وسمعه تقي الدين بن محمود فقال متحديا: ما لك أنت ولهذا أيها المسيخ الدجال ... هلا بقيت إلى جانب شيخك في هذه الليلة، تنظف له خلوته وتحرق بين يديه البخور!
وكأنما ساءه أن يذكر شيخه أبو السعود في هذا المقام على لسان ذلك المهذار العابث، فأجاب غاضبا: وتذكر شيخنا أيضا! أما والله لولا مقامه في هذه الأمة، لمحقها الله محقا، وصب عليها العذاب ألوانا، وإنما ترحمون به من غضب الله!
قال الخطيب بدر بن جمعة ساخرا: صدق الله العظيم:
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم !
قال المؤذن: صلى الله عليه وسلم.
يمط بها صوته في غناء وترتيل، كأنما يسبح لأذان الفجر ...
وقهقه السلموني ضاحكا حتى كاد يندلق بطنه.
واختنق أرقم بالغضب، وثار لشيخه ولنفسه فهم بأمر، ثم تمتم بكلمات خافتة وتهيأ للانصراف.
قال المسيخ الثاني معين الدين بن شمس نائب وكيل بيت المال: لقد أفحشتم والله على الرجل، وتناولتموه وشيخه بما لا يحق لكم، وليس لي مقام معكم إلا أن تسترضوه ليعود إلى مجلسه منكم.
قال تقي الدين: أما والله لو لحقت به لطاب لنا المجلس، وما تنغصت ليلتنا إلا بيمن طلعتك وبركات شيخه، ذلك الذي يريد أن يكون بين الأمراء أميرا، وبين الصوفية شيخا، وبين المغنين عازف طنبور ...
قال السلموني: لا يا تقي الدين، حتى هنا ولا آذن لك ... أفلا يسلم من لسانك أحد، حتى ولا الشيخ أبو السعود الجارحي! اتق الله في أعراض الناس يا تقي الدين!
وكان أرقم قد مضى غير بعيد، فلحق به معين الدين وجمال الدين السلموني؛ ليسترضياه ويعودا به، وبصر به طومان فابتسم له ابتسامة رقيقة ودعاه إلى مجلسه، فعاج عليه وجلس منه غير بعيد، ثم لم يلبث جمال الدين السلموني وأصحابه أن انضموا إلى حلقة طومان يشاركون في الحديث ... وكأنما أعداهم - وكلهم شيوخ - وقار ذلك الشاب النبيل الطلعة، فنسوا ما كانوا فيه من المزاح والدعابة، وأخذوا في حديث جد خطير ... إلا رجلين اثنين: هما المؤذن شهاب الدين المحلاوي، وأرقم المسيخ. أما الأول فقد تعلقت عيناه بالفتى الجميل يسرحهما في مفاتن طلعته، فلم يسمع حرفا واحدا من كل ما تتحدث به الجماعة. وأما أرقم فظل طول الوقت صامتا ينظر ويسمع، فلم تفته كلمة ولا حركة، ولكنه لم ينبس بحرف ...
وتهيأ المجلس للانصراف، فمال المؤذن الماجن على أذن أرقم يقول عابثا: عذرتك يا أرقم وكنت عاذلا، فلو كان بين نسائي المائة واحدة في مثل جمال صاحبك لما رعتها بضرة ...
فثار به أرقم صائحا في غضب: اخسأ! عليك وعليك ... أيها الفاسق الملعون!
ولكن المؤذن كان قد فر من بين يديه قبل أن تناله لطمته!
وانصرف طومان وأصحابه، وتبعه أرقم، ومشى جمال الدين السلموني، وتقي الدين بن محمود يتحدثان ...
قال تقي الدين: ما رأيت كاليوم شبابا وفتوة وجمال خلق، ولا سمعت مثل حديث ذلك الفتى ...
قال السلموني: وي! ها أنا ذا أراك ذات مساء تثني على رجل من الناس يا سباب الأنام ...
فتمتم تقي الدين بكلمات، ولكن كلماته لم تلبث أن غابت في ضحكة عالية أرسلها جمال الدين، فجاوبتها أختها من صاحبه ... وخلا السامر من السمار.
لم يكن علي بن رحاب المغني أميرا من أمراء المماليك يخاف ويتقى. نعم، ولا كان من «أولاد الناس»: تلك الطبقة التي كان آباؤها منذ جيل أو أجيال مماليك من ذوي السلطان، فلا يزالون يعيشون مما خلف لهم آباؤهم من المال والمتاع والضياع، مباهين بأنهم «أولاد الناس»، الذين يحسب الأمراء الحاكمون حسابهم ويتقونهم. نعم، ولا كان علي بن رحاب من المماليك القرانصة، الذين كان لهم يوما دولة وسلطان، ثم دالت دولتهم وذهب سلطانهم بنزول أستاذهم عن العرش، ولكن أنفسهم لا تزال تنازعهم إلى الإمارة، ولا يزالون يدبرون لخلع السلطان القائم عن العرش ليتولاه أمير من «طبقتهم» ينتسبون إليه ويتأمرون في كنفه. ولا كان علي بن رحاب مملوكا من المماليك «الجلبان»، الذين ينتسبون إلى السلطان الجالس على العرش، فلا يزالون يتنافسون في أسباب الزلفى إليه بالدس والخيانة؛ ليرفعهم من طبقة المماليك إلى مرتبة الأمراء ...
لم يكن علي بن رحاب المغني واحدا من هذه الطوائف الجركسية، ولا كان شيخا من شيوخ العربان الثائرين أبدا على المماليك، لا يدخلون تحت طاعة سلطان منهم إلا مطاولة ورياء، حتى تجتمع جموعهم فيعودوا بعد جمام إلى الثورة والعصيان ... ولا كان تاجرا من مياسير التجار المصريين، الذين تفرض عليهم النظم الاقتصادية التي أملتها مطامع السلاطين أن يكونوا أبدا على حذر ورقبة من غدر السلطان، وأن يكون السلطان وأمراؤه على حذر منهم. ولا كان واحدا من فتيان الزعر أو زعمائهم: تلك العصائب الشعبية التي تألفت في الظلام؛ لمقاومة طغيان السلاطين وعسف الأمراء ... ولا كان من تلك الطبقة المصرية الضئيلة من الفقهاء وأهل الكتابة الذين أهلتهم مواهبهم ليتولوا بعض الوظائف السلطانية التي تدنيهم إلى السلطان بمقدار ما تبعد بهم عن أبناء جلدتهم، فلا يزالون مترددين بين العوامل المتناقضة، تتنازعهم ذات اليمين وذات الشمال، ولا يزالون بذلك موضع الريبة عند المصريين وعند المماليك على السواء ...
لم يكن علي بن رحاب واحدا من هذه الطوائف التي تنتظم المصريين وأبناء الجركس جميعا ... فلماذا يخافه الدوادار الكبير، ويرسل عسكره للقبض عليه؟!
لماذا؟!
لأن علي بن رحاب وإن لم يكن من أولئك الجركس الطامعين، ولا من هؤلاء المصريين الثائرين، كان يشعر أنه مصري، وأن مصريته تفرض عليه أن يتتبع الأحداث الجارية في وطنه بين الشعب وأمرائه، وأن يكون له رأي فيما يجري من تلك الأحداث، وأن يتحدث برأيه إلى من يغشى مجلسه من أصحابه أو من غير أصحابه، وكان له لسان وبيان، وله إلى ذلك منزلة في نفوس الناس، وإنه لشاعر وإن كانت شهوته بالموسيقى والغناء، وكان مجلسه يضم من السراة والعلية طائفة من المصريين، لو اجتمعت على رأي لتزلزلت قوائم عرش السلطان، من أجل ذلك غضب عليه الدوادار الكبير طومان باي، وأجمع نيته على الانتقام منه، فكيف يجرؤ مصري على التحدث في شأن من شئون الحكومة القائمة؟ وكيف تأذن له هذه الحكومة بهذا التدخل فيما لا يعنيه؟ ومن هو؟ مصري من ذلك الشعب يقحم نفسه على الوزراء والأمراء وأصحاب الشأن من الجركس! ويا لها جريمة!
ولم تنفعه شفاعة صديقه الأمير طومان، ولا دعوات شيخه أبي السعود الجارحي، ولا منزلته في الفن عند المصريين والمماليك على السواء ... لم ينفعه ذلك ولم يشفع له، فما هي إلا أيام حتى وجد الدوادار الكبير الفرصة السانحة، ولم يكن مع علي بن رحاب أحد يحميه، فانقض عليه جند السلطان وذهبوا به ... وشهدت القاهرة كلها نكبة علي بن رحاب الشاعر الملحن المغني الموسيقار، الفنان الذي لم تشهد مصر مثله من قبله، وهيهات أن تشهد مصر مثله من بعده؛ كل ذلك لأنه «تدخل فيما لا يعنيه»، وجرى على لسانه في بعض مجالسه حديث عن بعض أمراء السلطان الذي يحكم ...
وأسفت القاهرة كلها على ما نال علي بن رحاب أسفا بالغا، ولكن ذلك الأسف البالغ الذي شمل المصريين جميعا، لم يكن له إلا مظهر ضئيل في غارات فتيان الزعر للفتك والسفك وترويع الناس في باب اللوق، وبولاق، والحسينية، وسوق مرجوش، ليلة وليلة أخرى، ثم عاد الهدوء والاستقرار ... وعاد المصريون ينتظمون حلقات في مجالي السمر، وفي رحاب المساجد، وعلى أبواب الدكاكين، يقصفون ويتفكهون، ويستنبطون من كل نازلة تنزل بهم فكاهة ونادرة وضحكا عريضا ...
طائفة قليلة من أولاد البلد هي التي أثرت فيها نكبة علي بن رحاب أثرا بعيدا، هي زمرة جمال الدين السلموني الشاعر، وتقي الدين بن محمود «سباب الأنام» وأصحابهما ... أكان ذلك لأنه مصري منهم قد نالته يد السلطان الجركسي بالقسوة والبطش؟ أم لأنهم فقدوا من بعده مثل مجلسه ولم يستمعوا إلى مثل غنائه؟ ليس يدري أحد ... ولكن الحقيقة المؤكدة أنهم ظلوا يذكرونه زمانا في حزن وانكسار ولهفة.
الفصل الثاني عشر
خضاب العروس
لم تكد مصرباي - أرملة السلطان الناصر - تغادر القلعة بعد مصرع زوجها، حتى صعدت إليها ثانية في زفة سلطانية، وعادت زوجا للسلطان الظاهر قنصوه الخال ... ولكنها في هذه المرة تحس قلقا لا تعرف مأتاه ... ها هي ذي تعود إلى قصر القلعة سلطانة كما تمنت، وها هو ذا زوجها السلطان الشاب لا تكاد تنقطع خطاه بين قاعة العرش وغرفة زينتها، ولا تزال تسمع خفق أقدامه ذاهبا وآيبا، وهي جالسة إلى مرآة زينتها قد وقفت من ورائها جاريتها، وانطبعت على المرآة صورتان.
ألم يكن هذا هو كل ما تحلم به؟ فمن أين لها القلق والضجر، وخفق القلب واختلاج العين، كأنها تتوقع أن تحل بها كارثة؟ ألأن عدوتها أصل باي - حظية قايتباي، وأم الناصر، وأخت الظاهر قنصوه زوجها - لم تزل تقيم في القصر؟ وماذا عليها من هذا؟ أم لأنها رأت اليوم - وبعد سنين - صديقها القديم خاير بن ملباي وقد عاد من سفارته في بلاد الروم؟ وما لها ولخاير اليوم وقد بلغت مأملها؟! أم لأن جانبلاط أمير الشام قد عاد إلى القصر ليكون كبير الأمناء لزوجها الظاهر قنصوه، وهو صديق عدوتها اللدود أصل باي؟ وماذا يعنيها من جانبلاط وإن كان كبير الأمناء وصديق عدوتها اللدود أصل باي؟ أم هي في قلق وهم منذ لحظت تلك الصلة الوثيقة الخفية بين الدوادار الكبير طومان باي وكبير الأمناء جانبلاط، وما يجتمع مثلهما إلا على شر وتدبير غادر، أليس هذا الدوادار هو الذي قتل زوجها الناصر، وكان أميرا من أمرائه ورقيقا من مماليك أبيه قايتباي؟ ثم أليس جانبلاط هذا هو الذي كان صديقا من أوفى أصدقاء سلفها أقبردي، فلما دارت عليه الدائرة قلب له ظهر المجن، وتخلى عنه لينضم إلى أعدائه، ثم هو اليوم صديق أصل باي ولا تزال جاريته تروح بينهما وتغدو، ولا يكاد السلطان يشعر بما بين أخته وكبير أمنائه ... فما هذه الصلة الوثيقة الخفية بين الرجلين، وإن لهما في الغدر تاريخا طويلا؟ أتراهما يدبران أمرا للإيقاع بزوجها، أم تلك كلها أوهام وهواجس وأباطيل؟ فما هذا القلق والضجر وخفق القلب واختلاج العين، كأنما يريد القدر أن ينذرها بكارثة من وراء الغيب؟
وسمعت وقع أقدام وراء الباب، فأرهفت أذنيها، ليست هذه خطوات الظاهر قنصوه، ودخلت جارية تؤذنها بمقدم قريبتها شهددار بنت أقبردي.
لتدخل.
ما أحراها أن تجد في صحبتها روحا ومسرة وفرجا من ضيق!
والتقتا على شوق، وخرجت وصيفة السلطانة لتدع لهما أن ينعما بخلوتهما هادئتين، وجلستا تتحدثان ...
قالت مصرباي باسمة: وكيف أنت وأخي طومان؟ ألم يحدثك حديث غده وغدك؟
فغاب وجه شهددار وراء سحابة من الحزن، وقالت في انكسار: إنني لم أر طومان منذ بعيد يا خوند!
قالت مصرباي مدهوشة: لم تريه منذ بعيد؟ فكيف صبره عنك وإني لأعرف قلبه!
فابتسمت ابتسامة كاسفة وهي تقول: أحسبه لم يزل يذكرني على البعاد، ولكنه يخشى أن يغضب عمه الغوري، فقد عرف ما بين طومان وبنت أقبردي!
قالت مصرباي منكرة: ولكن أقبردي قد مات، فما استمرار الغوري على عداوته؟
فدمعت عينا شهددار وقالت بصوت مختنق: لو لم يكن أقبردي قد مات لكان الغوري أدنى إليه اليوم ... ولما جرؤ الدوادار الكبير على مصادرة أمي.
قالت مصرباي منكرة: أمك؟ ما شأن الدوادار الكبير بأمك؟ وكيف يجرؤ على مصادرة امرأة أقبردي الدوادار، هل تسلط وبطش إلى هذا الحد؟ فما عمل السلطان الظاهر؟
فترددت شهددار برهة ثم قالت: بإذن الظاهر قنصوه بطش دواداره وفتك، واقتحم على الناس بيوتهم، وصادر امرأة أقبردي الدوادار، فلا تنسي يا خوند أنه لم يصادر أمي وحدها، بل صادر معها خالتي خوند فاطمة بنت العلاء - أرملة الأشرف قايتباي - وإنك لتعرفين بعض ما كان بينها وبين أخت الظاهر قنصوه حين كانت جارية في حريم قايتباي، فلعل الظاهر قنصوه لم يصادر خوند ويصادر أمي إلا قربانا إلى أخته أصل باي، وشفاء لذات صدرها!
صاحت مصرباي غاضبة: أوه! دائما أصل باي! أصل باي! ما لهذه المرأة لا تريد أن تخرج من حياتي؟!
قالت شهددار باسمة: فكيف لو علمت يا خوند ما يتحدث به الناس عن أصل باي وجانبلاط؟
فبدا الاهتمام في وجه مصرباي وقالت في لهفة: أصل باي وجانبلاط؟! بماذا يتحدث الناس عنهما يا شهددار؟
قالت: يقولون يا خوند: إن جانبلاط قد عقد له على أصل باي، فهي زوجته منذ عاد من الشام كبيرا للأمناء في قصر الظاهر!
فشحب وجه مصرباي وقالت : ماذا تقولين يا شهددار؟ هذا كثير! أفلا يعرف الظاهر قنصوه من أمر أخته وكبير أمنائه ما يعرف الناس؟
قالت شهددار معتذرة: إنه حديث الناس يا مولاتي، وقد ظللت أنكره زمانا، حدثتني به اليوم جارية طومان!
فزاد اهتمام مصرباي وقالت: جارية طومان! وماذا يعني طومان وجاريته من أصل باي وجانبلاط؟! وماذا يعنيك حتى تتحدث به إليك جاريته؟!
ثم سكتت برهة وأردفت تسأل صاحبتها: أكان طومان يعرف أنك على نية زيارتي اليوم؟
قالت شهددار: أظن ذلك يا مولاتي، فقد أنبأت جاريته بذلك أمس!
قالت: آه ...! لعلي قد فهمت شيئا ... ولأمر ما يرسل طومان جاريته إليك اليوم بهذا النبأ لتبلغيني إياه! إن أمورا خطيرة تدبر بليل!
ثم عادت إلى الصمت وأطرقت تفكر، ورفعت رأسها بعد حين لترى شهددار وقد ازدحمت في عينيها دموعها وتسابقت على خديها، فقالت تريد أن تميل بها إلى ناحية أخرى من الحديث: كذلك تبكي العاشقات في خلواتهن، ولا يسمع لهن نشيج! قولي لي: ألم تزل جارية طومان تزورك لتنقل بينكما الرسائل؟ فلماذا أخفيت عني هذا النبأ بادئ الأمر يا خبيثة؟! الآن قد اطمأن قلبي فليطمئن قلبك، إن طومان لا يخيس بعهده أبدا يا شهددار، ولا يحنث في يمين ... كذلك كان أبوه وكان جده فيما سمعت من حديث أهلي في بلاد القبج!
وصمتت فجأة ... ماذا أذكرها الساعة بلادها وقد فارقتها منذ سنين بعيدة، فلم تخطر لها قبل اليوم على بال!
وعاد الزمان القهقرى ينشر على عينيها ماضيها كله، منذ كانت، وكانت، وكانت، حتى بلغت ...
ونهضت شهددار لشأنها، وخلت مصرباي إلى نفسها تسترجع الذكريات ...
الفصل الثالث عشر
خطوات الزمن
كان خان يونس في ظاهر مدينة قيسارية من بلاد الروم - كعهد الناس به منذ سنين - فلم يزل ملتقى كثير من التجار يمرون به غادين أو رائحين إلى حلب ودمشق والقاهرة، أو إلى أرمينية وبلاد الكرج وما وراء الجبال، يلتمسون الغذاء والدفء والمأوى ...
ففي ليلة حالكة السواد، قارسة البرد، عاصفة الريح، وقفت امرأة على باب الخان تطرقه طرقا خفيفا، وكان يونس الرومي قد تهيأ للنوم، فما سمع الطرق حتى قام متكاسلا، فأوقد شمعته وتقدم إلى الباب ضجرا ثقيل الخطو، فلم يكن به الليلة حاجة إلى طارق جديد، وقد امتلأت غرفات الخان جميعا بالنزلاء، حتى ليس فيها موضع يتسع لضيف ...
وهبت نسمة من طاق غير محكم الغلق، فأطفأت الشمعة في يده وعم الظلام، فلولا أن رجليه قد تعودتا المشي في سواد الليل لضل طريقه.
ثم لم يكد يفتح الباب حتى دفعت إليه امرأة متشحة بالسواد، قذفتها إلى داخل الخان ريح عاصف، كادت تكبها على وجهها لولا أن تلقاها بيديه، ثم أغلق الباب وأحكم رتاجه وأوقد الشمعة، فإذا بين يديه امرأة نحيلة معروقة العظم، تبص في وجهها عينان سوداوان على وجنتين شاحبتين، وقد تتابعت أنفاسها من البهر، كأنها ميت قد فر من الآخرة يحاول أن يسترد روحه، أو حي قد أشرف على الآخرة يلفظ آخر أنفاسه ...
واستندت المرأة إلى جدار البهو لا تنبس بحرف، وظل يونس الرومي واقفا بين يديها والشمعة المضيئة في يمينه، لا يسألها سؤالا، ولا ينتظر أن تجيب ...
وثابت إليها نفسها بعد فترة، فأدارت النظر فيما حولها، ثم قالت بصوت خافت: هذا خان يونس، أليس كذلك؟
قال الرجل: بلى، وأنا يونس نفسه يا سيدتي، فهل بك من حاجة إلي؟
قالت: نعم يا بني، فهل لي أن أطلب عندك شرابا دافئا ... ومأوى؟
ماذا تقول هذه المرأة ليونس؟ «يا بني!» إنها لتبدو أصغر سنا مما تظن بنفسها ويظن، ولعلها لم تبلغ الأربعين بعد، وإن كانت في ثياب العجائز وشحوب الموتى!
هكذا قال يونس لنفسه وهو يستمع إليها.
تريد شرابا دافئا ومأوى! أين؟! أما الشراب الدافئ فإن عنده الماء والنار والحطب، ولكن لا مأوى عنده!
ترى ماذا جاء بهذه المرأة تحت الليل إلى خان يونس، وما لها على هذا الطريق تجارة ولا سفارة؟! من أين جاءت؟ وما شأنها؟ إن في وجهها من أمارات الجهد والنصب ما ينبئ أنها قطعت إليه طريقا شاقة بعيدة، وفي عينيها من فتور الإعياء والسهر ما يكشف عن بعض ما في نفسها من الهم والضنى!
وأشفق يونس الرومي على المرأة ولم يعلم بعد من حالها غير ما حدثته به عيناها، وما قرأ في جبينها من سطور الكآبة والألم، فكيف لو عرف جملة خبرها ... هذه الأيم الحزينة الثكلى، لم تزل على سفر منذ إحدى عشرة سنة تتقاذفها البلاد، تلتمس مطلوبا عزيزا لقاؤه.
وقادها يونس إلى الغرفة التي هيأها لنفسه، وأعد لها طعاما وشرابا، وتخلى لها عن فراشه ليقضي ليلته على أريكة في بهو الخان، ليس له ما يستدفئ به إلا ثيابه!
ثم أشرق الصبح، فجلست المرأة إلى يونس الرومي تحدثه بقصتها وتستعينه على أمرها: رعاك الله يا سيدي وأضعف لك الأجر على إحسانك، إنني امرأة من أرض الغور في بلاد الكرج، اسمي نوركلدي، كان لي زوج هو كل أسرتي وأهلي، فمضى إلى حيث لا أدري وخلفني، ولطف الله بي في وحدتي وأحزاني، فوهب لي طفلا كان هو كل عزائي من أبيه الذي مضى. وكبر الطفل فصار غلاما يخطو إلى الشباب، فلما صار ملء عيني ونفسي، فقدته كما فقدت أباه من قبله، خطفه نخاس من خوارزم وذهب به، ومضيت في أثره منذ ذلك اليوم، أجوب المدائن، وأطأ بلادا لم تطأها أقدام أحد من أهلي، حتى قادني الرائد إلى خانك ... إنني على الطريق إليك منذ إحدى عشرة سنة؛ لتدلني على الطريق إلى أبي الريحان الخوارزمي فأعرف منه أين ولدي! إنك تعرف أبا الريحان يا يونس؛ لأنه من نزلاء خانك غاديا على بلاد المشرق، أو رائحا إلى الشام ومصر، فبالله عليك يا سيدي إلا ما دللتني عليه!
قال يونس في صوت خافت كأنما يناجي نفسه في خلوته: أبو الريحان الخوارزمي! ويل لذلك الفظ الغليظ القلب! نخاس! لم تخب فيه فراستي منذ عرفته!
قالت نوركلدي ضارعة: بالله يا سيدي! بحق ولدك إن كان لك ولد! بحق أبيك وأمك وما قدما لك من إحسان!
وتدحرجت دمعتان على خد يونس الرومي، وتذكر أعزاءه الذين مضوا ... تذكر ولده الذي اهتصره الموت صبيا، وتذكر أباه وأمه اللذين أضجعهما بيديه في التراب، وعاد بعدهما إلى الحياة وحيدا يكافح ليعيش بلا أمل ولا غاية.
وعاد صوت نوركلدي يرن في أذنيه: بالله يا سيدي ... بالله إلا ما أجبتني: أين ألقى نخاس خوارزم! لن يناله سوء، إن أنا إلا امرأة عاجزة ليس لها حول ولا حيلة، كل ما أريده منه أن أعرف أين ذهب ولدي؛ لأستأنف الرحلة إليه، وله أجره إن شاء!
قال يونس: سأنبئك بما تريدين يا سيدتي، وسأجمع بينك وبين أبي الريحان لتعرفي منه ما تريدين أن تعرفي ... ولكني أخشى أن تملي المقام في هذا الخان؛ فإن أبا الريحان لا يقدم علينا في كل عام إلا مرة أو مرتين، فهلا أخبرتني: ما كان اسم ولدك هذا، وما صفته، ومتى فر به أبو الريحان؟ فلعلي أعلم بعض علمه فأهديك!
وراحت نوركلدي تقص عليه تمام قصتها ... وراح يونس الرومي يستثير دفائن الذكريات في نفسه، لعله يستطيع أن يوفر لهذه الأيم الثاكلة بعض الزمن، ويقصر شيئا من مسافة تلك الرحلة الطويلة النائية، التي بدأتها منذ إحدى عشرة سنة ولا تزال منها في أول الطريق!
الفصل الرابع عشر
أنباء من الغيب
بسط أبو النجم الرمال منديله بين يديه، وقد جلست غير بعيد منه خوند مصرباي - زوجة السلطان الظاهر قنصوه - مرهفة السمع لما تنتظر أن يحدثها به من أنباء الغيب ...
وأخذ الرمال يفرش الرمل الأصفر على منديله، وهو يزمزم وأصابعه تخط في الرمل خطوطا متوازية ومتقاطعة، ولا تزال شفتاه تتحركان حركات متتابعة، وقد أغمض عينيه إغماضة نائم، ومال برأسه إلى الأرض كأنما يستنبئ ذرات الرمل المتناثرة على منديله نبأ الغيب المحجب، ويستمع إلى نجواها صامتا مغمض العينين ...
ثم رفع رأسه ونظر إلى حيث كانت خوند مصرباي جالسة تنتظر، وقد زاد خفق قلبها واختلاج جفنها، كأن قد رأت وسمعت وعرفت.
وبلغها صوت الرمال بعيدا من بعيد، كأنما يتحدث إليها من وراء الزمان والمكان، عن القدر المخبوء بين ركام الأيام المتزاحمة في موكب الشمس قبل أن تشرق بنورها على الدنيا ...
وأنصتت إليه مصرباي وهو يقول: هذا نجمك يا مولاتي قد سطع في الأفق الأعلى، وثمة ثلاث كواكب ترنو إليه بعيون مشتعلة، بعضها قريب قريب قد بلغ غايته من التألق والإشراق، حتى ليوشك أن يحترق، وبعضها بعيد بعيد لا يزال بينه وبين النجم الذي يرنو إليه بعينيه المشتعلتين أبعاد، ولكنه لا بد أن يبلغ يوما منزلة القران مع دورة الفلك، وهذا الكوكب الثالث يلوح حينا ويختفي، ويأتلق ثم يخبو، وإن عينيه المشتعلتين لترسلان في الحالين نارا وصواعق، أو دخانا ورمادا، فلا يزال يعشي أعين الكوكبين الآخرين بنوره وناره، أو يقذيهما بدخانه ورماده!
قالت مصرباي ضجرة: لست أفهم عنك منذ اليوم شيئا يا أبا النجم وكنت خبيرا بالطوالع، وإنما دعوتك لتنبئني أين موقفي في هذه العاصفة من الآخرين والأخريات؛ فإنه ليخيل إلي أن أحداثا عظيمة ستحدث قبل أن ينقشع غبار هذه العاصفة!
قال أبو النجم: صبرك يا مولاتي، فهذه صفحة الكتاب مبسوطة تحت عيني أقرأ سطورها المكتوبة، وستعرفين منها كل ما يعنيك أن تعرفيه ...
وصمت برهة، ثم استطرد في حديثه: هذه سحابة حمراء تستعرض الأفق، وإن بها فتوقا تلمع من ورائها أنجم جديدة، وقد اصطبغت السماء بلون الشفق ...
هذه السحابة الحمراء قد انقشعت وصفا لون السماء، وهذا نجمك يا مولاتي لم يزل حيث كان، وقد دنا منه ذلك الكوكب البعيد، حتى صار على مد الشعاع، ولكن كليهما ثابت في موضعه لا يتحرك، كأنما وقفت بهما دورة الفلك، ولكن عاصفة قد ثارت زوابعها من بعيد، توشك أن تكتسح كل ما هنالك من أنجم وكواكب ... وتدور الأفلاك دورات سريعة متتابعة حتى لا تكاد تقف ... ثم تنقشع العاصفة، وتصفو السماء، ويستقر كل كوكب في مداره، وينتظم في فلكه مصعدا أو منحدرا، ويعود نجمك يا مولاتي مشرقا وهاجا، قد انفرد في موضعه من الأفق الأعلى، وإلى جانبه كوكب مضيء قد استوى على عرشه قريبا قريبا من ذلك النجم المتفرد بإشراقه وضوئه، وكان يبدو لعين الناظر بعيدا؛ حتى لا يكاد يبلغه على سرعة دوران الفلك ... فهذا طالعك السعيد يا مولاتي وطالع الآخرين والأخريات ...
وأخذ الرمال يفرش الرمل الأصفر على منديله وهو يزمزم.
وأشرقت على ثغر مصرباي ابتسامة اطمئنان ورضا، وقالت: وأصل باي؟ وجانبلاط؟ والدوادار طومان باي؟ وخاير بك؟ وبنت أقبردي وصاحبها طومان؟
قال أبو النجم باسما: لقد قلت ما علمت يا مولاتي ... ستنقشع العاصفة ويصفو الجو عن نجم واحد قد انفرد في موضعه من الأفق الأعلى، ومد من أشعته جسرا من النور إلى ذلك الكوكب الواحد المتفرد على عرشه ... وقد تهاوت أنجم وكواكب.
قالت وهي تدفع إليه صرة دنانير: ويكون ذلك قريبا يا أبا النجم؟
قال وهو يدس الصرة في جيبه ويتهيأ للانصراف من مجلس السلطانة: ارقبي مدار الفلك يا مولاتي، فستجدين ذلك كله مسطورا في كتابه.
ثم مضى الرمال وخلف السلطانة تعد نجوم السماء ...
قال الشيخ أبو السعود الجارحي لصاحبه: أنت على يقين مما تقول يا أرقم؟
قال: نعم يا مولاي، وقد رأيت الدوادار الكبير بعيني هاتين يدخل دار كبير الأمناء جانبلاط في الأزبكية، وقد احتشد الخلق في الميدان وأخذ الجند أهبتهم كاملة، كأنهم خارجون للقاء ابن عثمان على الحدود!
قال الشيخ أسفا: قد كان ما لا بد أن يكون، وانتهت أيام الظاهر قنصوه على العرش، أفكان يطمع ذلك الأحمق أن يدعه الدوادار طومان باي يعمر على العرش، وقد رفعه إليه على أشلاء ابن أخته الناصر؟! تلك منزلة من الإيثار والفضيلة لم يبلغها الدوادار طومان باي! وإنما هي خطوة يخطوها ولا بد أن تتبعها خطوات حتى يبلغ العرش ... وأحسب أن خوند فاطمة بنت العلاء - أرملة الأشرف قايتباي - هي التي تزين له هذا الأمل البعيد؛ لتثأر من أصل باي في ولدها وأخيها.
قال أرقم: بل هو قنصوه الغوري يا سيدنا ... ذلك الثعلبان الشيخ الذي يتظاهر بالورع والزهد في الإمارة والسلطان، ويتحبب إلى الأمراء جميعا؛ ليثير بعضهم على بعض حتى يتفانوا ويخلص له العرش من دونهم، ولم يسفك دما ...
قال الشيخ: اتق الله في ذلك الشيخ يا أرقم، إنك لتغلو في عداوته كأن لك ثأرا عنده، فلا تزال تظن به الظنون وترميه بالبهتان، أفلا يشفع له عندك أنه عم صديقك الصغير طومان!
سرحت خواطر أرقم وطوقت به ذكرياته من قريب إلى بعيد، وتزاحمت على خياله صور شتى، وراح يسأل نفسه في حيرة: أي آصرة تربط بينه وبين ذلك الأمير الصغير، حتى ليخيل إليه أن من حقه أن يتبعه أين أقام وأين ذهب، فما ذلك كله وهو ابن أخي الغوري، ذلك الذي يسميه الثعلبان الشيخ، ويبغضه بغضا لو تقسمه الأحياء بينهم لأوشك ألا يكون بين اثنين من الناس مودة ولا رحمة! لماذا؟ ليس يدري أحد، ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن أرقم المسيخ قد اجتمعت في قلبه هاتان العاطفتان المتناقضتان، حتى ليس معهما متسع لعاطفة! ولقد شاع حبه لطومان على ألسنة الناس جميعا، فلولا مكانة ذلك الأمير الصغير من نفوس القاهريين عامة ومريدي الشيخ أبي السعود الجارحي خاصة، لأرجفوا بما لا يعلمون وجعلوا حديثهما مضغة الأفواه ...
على أن سر العداوة بين أرقم والغوري لم يكن يعلمه أحد، حتى ولا الشيخ نفسه، كل ما يعلمه الشيخ من سر هذه العداوة أن صاحبه أرقم لا يحب قنصوه الغوري، فلا يزال يثلبه وينال منه، ويأخذ بالظنة كلما جرى ذكره، ولا يزال الشيخ يقول له كلما عرض ذكر الغوري: خفف من غلوائك يا أرقم! ثم لا يزيد ...
ولكن الشيخ في هذا النهار لم يقتصر على كلمته تلك، وسأل أرقم: وددت لو عرفت سر هذه البغضاء بينك وبين قنصوه يا أرقم!
وكان في لهجته أمر، فشحب وجه أرقم واضطرب فكه المائل، ولكنه اصطنع الهدوء وأجاب: وماذا يكون بيني وبين قنصوه يا سيدنا؟!
وسكت هنيهة ثم أردف: كل ما هنالك من أمر، أنني لا أثق بذلك المملوك الشيخ، إنه رجل غير بريء.
ونظر الشيخ إلى وجه أرقم فأطال النظر، ثم سكت، ونهض أرقم يتخلع في مشيته حتى بلغ الباب فنفذ منه، ثم عاد بعد قليل يحمل مجمرة يتصاعد منها عطر طيب، فوضعها بين يدي الشيخ وجلس على مقربة منه.
وبدأ المريدون يفدون على مجلس الشيخ رجلا رجلا، واثنين اثنين، وجماعات جماعات، حتى استدارت الحلقة وغصت بهم القاعة ...
وأخذ الشيخ ومريدوه في حديثهم عن الدنيا وعن الآخرة.
وعلى بعد قريب من كوم الجارح حيث اجتمع الشيخ ومريدوه، كانت المدينة تتأهب ليوم عصيب من أيام المماليك ...
اجتمع أمراء المماليك في بيت كبير الأمناء - الأمير جانبلاط - بالأزبكية، وأخذوا يداولون الرأي في شأن الظاهر قنصوه، وكان على رأس المؤتمرين في ذلك المجلس رجلان: هما الدوادار الكبير طومان باي، وصديقه بدر الدين بن مزهر كاتب السر. أما أولهما فقد رأى فرصة سانحة ليخطو خطوة أخرى تدنيه من العرش، وأما الآخر فكان يطلب ثأرا عند الظاهر قنصوه، فقد هم الظاهر ذات مرة أن يشنقه على باب زويلة لغير ذنب، فلم يخلص من الموت إلا بشفاعة صديقه الدوادار الكبير ... واجتمع رأي الرجلين على خلع السلطان، فلم يلبث سائر الأمراء أن أمنوا على ذلك الرأي، حتى جانبلاط نفسه - كبير أمناء السلطان - لم يجد حرجا في الغدر بمولاه! أفليست هذه فرصة يفترصها ليجلس على عرش قايتباي العظيم فيحقق لأصل باي أمنية؟!
أصل باي جارية السلطان قايتباي، وأم الناصر، وأخت الظاهر، وزوجة جانبلاط ... أربعة سلاطين يكتنفونها عن اليمين وعن الشمال، وكانت جارية في سوق الرقيق منذ قريب، يسومها المفلس والمليء!
وزحف جيش الأمراء إلى القلعة فعسكر في مدرسة السلطان حسن، وتهيأ الظاهر للدفاع عن عرشه، فنصب المجانيق على أسوار القلعة ... ولكن القلعة لم تلبث أن سقطت في أيدي الثوار؛ لأن مماليكه لم يلبثوا أن انحازوا إلى جيش الأمراء إحقاقا للحق ... أفليس أولئك الأمراء أقدم من الظاهر قنصوه في المملوكية؟! فما هذه الخئولة التي يحتج بها لحقه في العرش، وإن هؤلاء الأمراء لأقدم منه في سجل المماليك؟!
ليس ذلك دستور الوراثة في عهد سلطان الجركس!
ورأى الظاهر نفسه وحيدا فريدا، تكاد تناله سيوف أعدائه فيتدحرج رأسه عند قدميه، كما تدحرج رأس ابن أخته منذ قريب، فآثر أن يفر بروحه!
واقتحم على مصرباي غرفة زينتها؛ ليفتح صوانها فينتقي ثيابا من ثيابها تخفيه ... ثم وقف لحظة أمام المرآة ينظر لنفسه مؤتزرا، منتقبا، قد شد وسطه بحزام وأبرز صدرا ناهدا وردفا ثقيلا، ثم استدار لتراه مصرباي في زي النساء، وكان منذ قليل سلطانا ...
وصاحت به مصرباي مذعورة: ماذا فعلت بنفسك يا مولاي؟!
ولكنه لم يستمع إليها، فقد كانت أقدام الجند تقترب من غرفة الزينة ...
وفر من القلعة تحت الليل في بطانة زوجته وهو ينشد لنفسه:
وقائلة قد دهتك الهموم
وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت ذريني على غصتي
فإن الهموم بقدر الهمم
ثم لم يلبث في مخبئه طويلا حتى عثر به أعداؤه، فسيق أسيرا إلى معتقله في برج الإسكندرية؛ انتظارا لما يقضي فيه السلطان من أمره!
وتولى جانبلاط العرش خلفا للظاهر قنصوه!
الفصل الخامس عشر
دسائس القصور
قال طومان لعمه الغوري: أهذا ما كنت تعمل له منذ عامين يا عم؟! أمن أجل أن يتولى جانبلاط العرش كنت تجهد جهدك وتحتال حيلتك، وتبعث الرسل والرسائل، وتجمع الجماعات وتؤلب الأحزاب؟! ومن جانبلاط حتى يسبقك إلى العرش ويدعك حيث كنت وأنت أنت؟!
وابتسم الغوري ابتسامة عريضة وهو يقول: صبرك يا طومان وانتظر حتى يوفى الأجل، أفكنت تحسبني أتولى العرش لو دعيت إليه اليوم، ومن ورائي مطامع جانبلاط وطومان باي الدوادار، ومن وراء الاثنين أصل باي وخوند فاطمة تغريانهما بالوثوب على العرش؟ صبرك يا بني حتى لا يكون هناك جانبلاط ولا طومان باي، ويومئذ ...
فأعجله طومان قائلا: ويومئذ يكون هذا الشعب قد ثقل عليه ما يحمل من مظالم السلاطين، فيخلع الجراكسة جميعا، فلا يكون ثمة جانبلاط، ولا طومان باي، ولا الغوري، حتى ولا خشقدم الرومي، ويخلص عرش مصر لبدر الدين بن مزهر، أو لابن أبي الشوارب، من صعاليك المصريين أو صعاليك العربان، وتنهار دولة الجراكسة بعد عز ومنعة، وتتناهبها أطماع البنادقة والروم وملوك النصرانية!
وضاق صدر الغوري بما يسمع من حديث ابن أخيه، فصاح مغضبا: صه! أظننت نفسك أغير مني على دولة الجراكسة أو أخبر بسياسة السلاطين؟! أنا الذي حطمت الستين وعاصرت سياسة هذه الدولة جيلا بعد جيل!
ثم هدأ من ثورة وترفق بعد عنف، وأردف قائلا: إنها يا بني السياسة ، أتظن أن الدوادار طومان باي قد رفع السيف، وقاد الجند، واقتحم الباب؛ ليؤثر جانبلاط على نفسه، ويضع على رأسه التاج، ويقنع هو بأن يظل دوادارا؟! ما أحمقه إذن! ولكنه يعلم أن جانبلاط أدنى منه منزلة إلى العرش، وإن كان بغيضا إلى الأمراء وإلى المماليك جميعا، فقدمه على نفسه ليخلص منه حين يشاء، ويثب حين يثب إلى العرش، وقد اجتمعت له قلوب الناس وليس وراءه من ينازعه أو يزعم أنه أحق بالعرش منه، فذلك ما أراده الدوادار طومان باي، ولو شاء لنحى جانبلاط عن طريقه، وجلس مجلسه على العرش خائفا يترقب ...
قال طومان: أفتراه يرفعه اليوم إلى العرش ليخلعه غدا؟
قال الغوري: نعم يا بني، وسترى بعينيك إلى أين تصير الأمور!
قال طومان منكرا: فلماذا لا يخافك طومان باي يا عم، وقد كنت أقدم منه ومن جانبلاط مملوكية وأرفع رتبة؟
فابتسم الغوري حتى برقت أسنانه وقال: لأنني صديق؛ ثم لأنني شيخ كبير قد زهد فيما يطمع فيه الناس، فهل سمعت أحدا يزعم أن الغوري تنازعه نفسه إلى العرش؟ لكل ذلك يا بني أمن الدوادار الكبير جانبي واطمأن ... وسيعلم علم اليقين كيف ينتهي تدبيره ...
وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب، فرفع الغوري حاجبه ورمى ببصره نحو السماء وهو يقول: انظر يا بني، هل ترى هلال ذي الحجة قد بزغ؟
فنظر طومان ثم قال: نعم، قلامة ظفر توشك أن تغيب!
فأسبل الغوري جفنه وهز رأسه وهو يقول: نعم، قلامة ظفر توشك أن تغيب، وعلى العرش الليلة سلطان جديد، فإذا صح ما حدثني به أبو النجم الرمال، فسنكون في قصر القلعة يا طومان قبل أن يبزغ هلال ذي حجة آخر ... بل قبل ذلك بزمان.
ثم استدار نحو القبلة وتهيأ لصلاة المغرب، وخلف طومان يرقب هلال ذي الحجة قبل أن يغيب عن عينيه، فلما أفل ولى وجهه شطر دار أقبردي الدوادار يناجي خيالا عزيزا عليه لقاؤه، ثم سرح في أحلامه وخواطره ...
قالت أصل باي وقد اطمأن بها المجلس إلى جانب زوجها الأشرف جانبلاط: إن لي أمنية إليك يا مولاي: أن تجعل شكر هذه النعمة التي أفاء الله عليك المن على أخي الظاهر قنصوه بعتق رقبته من الموت...
قال السلطان باسما: لك ما تمنيت يا خوند!
قالت: ومصرباي - تلك الجركسية المشئومة - تأمرها أن تلزم دارها فلا يدخل عليها أحد ولا يخرج من دارها أحد!
قال: ولك ذلك أيضا يا خوند!
قالت وأقبلت على السلطان تعبث بأزرار صداره المذهب: وفاطمة بنت العلاء ...
صاح السلطان مقاطعا: وماذا يعنيك من أمر فاطمة بنت العلاء؟!
فتراجعت أصل باي وقالت: لا شيء ...
وسكتت قليلا ثم أردفت: حسبت أن أمرها يعنيك؛ فقد كانت يوما ما أحظى نساء السلطان قايتباي إليه! ثم غمزت بعينها وهي تقول: وأحسبها لم تزل تحلم بذلك المجد الذي كانت يوما ما تتقلب في أعطافه، لولا ما تجد من العزاء عن ذلك في عطف الأمير طومان باي الدوادار ...
وبدا الغضب في وجه السلطان وقال عابسا: حسبك يا أصل باي! إنني مدين بعرشي إلى صديقي طومان باي، وليس يرضيني أن يجري ذكره على لسانك بغير ما أحب ...
قالت وأطرقت: وإنه لأهل للمحبة يا مولاي ...
ثم سكتت، وتذكرت حادثا حدث من عامين: يوم خرج ولدها الناصر لنزهته ذات صباح ثم لم يعد، وتدحرج رأسه تحت أقدام طومان باي، ثم تذكرت حادثا آخر منذ يومين: حين فر أخوها الظاهر من قصر القلعة في زي امرأة، وكان طومان باي واقفا عند باب القلعة وفي يده سيفه يقطر من دم المماليك، ثم تذكرت حديثا نقلته إليها جاريتها منذ قريب، تزعم أن طومان باي قد وعد ألا يعقد على صاحبته فاطمة بنت العلاء إلا يوم يجلس على عرش مصر، وتعود فاطمة سلطانة كما كانت!
تذكرت أصل باي كل ذلك وهي جالسة بين يدي زوجها الأشرف جانبلاط، فلولا أنها تخاف بادرته لصاحت به: «اقتل طومان باي قبل أن يقتلك!» ولكنها لم تقلها، وغشت نفسها وغشت السلطان وقالت: نعم، إنه أهل للمحبة يا مولاي.
وهتفت مصر كلها باسم السلطان الأشرف جانبلاط، واجتمعت السلطات كلها في يد الدوادار الكبير طومان باي.
رجل واحد أعلن عصيانه ولم يدخل تحت طاعة السلطان، ذلك هو الأمير قصروه نائب الشام.
يا عجبا! كيف حدث هذا وقصروه هو أوفى أصدقاء طومان باي الدوادار وأقربهم إلى نفسه؟! أيتمرد على السلطان أم يتمرد على صديقه الدوادار؟
سؤال توجه به طومان إلى عمه الغوري، ولكن عمه ابتسم ولم يجبه، ولم يزد على الابتسام شيئا، وضاقت نفس الأمير الصغير وعاد يلحف في سؤاله: كيف حدث هذا يا عم؟!
قال الغوري ولم تزل الابتسامة على شفتيه: حدث أو لم يحدث، ذلك أمر لا يعنينا، إنما أنا وأنت منذ اليوم جند من جند الدوادار طومان باي! وعلينا أن نسمع لقوله ...
قال طومان متعجبا: أنت من جند الدوادار! - أنا وأنت فما علينا إلا الطاعة.
وصدع الأمير الصغير بالأمر، فمشى في ركاب عمه.
وقال الدوادار الكبير طومان باي للسلطان: إني لأخشى أن يقوى أمر قصروه في الشام حتى يغلبنا على أمرنا، والرأي عندي أن نبادره قبل أن يستفحل خطره.
قال جانبلاط: وبماذا تشير يا أمير؟
قال الدوادار: نعد له حملة كبيرة تقضي عليه وتبدد شمله؛ ليكون أول أمرنا حزما وعزما، فلا يجرؤ بعدها أمير من أمراء الأطراف على العصيان، ولا تنازعه إليه نفسه.
قال السلطان راضيا: قد رأيت ما ترى فخذ في أسبابك!
وراح الدوادار منذ اليوم يعد عدته لأمره، فلم يزل دائبا في الاستعداد، حتى اجتمع له جيش لم يجتمع مثله للأشرف قايتباي يوم خرج للقاء ابن عثمان منذ بضع عشرة سنة، فلم يترك في القاهرة كلها من الجند ما يكفي للدفاع عن القلعة، لو بدا لبعض أعداء البلاد أن يغير على القاهرة ...
واتخذ الجيش طريقه إلى الشام وعلى رأسه الدوادار طومان باي، وودعته القاهرة كلها هاتفة داعية، وودعه السلطان جانبلاط إلى حدود المدينة. وبلغ الجيش الشام، والتقى طومان باي وقصروه، ولكنهما لم يقتتلا؛ لأن الدوادار طومان باي لم يخرج لقتال، وإنما خرج لأمر آخر قد أعد له عدته وجمع أسبابه، فما هي إلا أن لقي صديقه قصروه العاصي حتى أخذا في تدبير الخطة لتنفيذ ما كان مبيتا من الأمر ...
واجتمع أمراء العسكرين على خلع السلطان الأشرف جانبلاط، ومبايعة «العادل» طومان باي. واستعلن الدوادار بنيته المبيتة، وبايعه الجند والقادة، وبايعه قصروه نائب الشام، وعاد الجيش إلى القاهرة يقدمه السلطان الجديد، وشق العادل طومان باي القاهرة في موكب حافل إلى القلعة؛ لينزل جانبلاط عن العرش ويجلس مكانه، ويحقق أمنية لنفسه ولصاحبته فاطمة بنت العلاء.
وكان في حاشيته كبير أمنائه قصروه، ودواداره الكبير قنصوه الغوري!
ومضى الجند بالأشرف جانبلاط أسيرا إلى برج الإسكندرية، حيث يؤنس وحشة سلفه الظاهر قنصوه في معتقله من ذلك البرج الحصين.
وصعدت خوند فاطمة بنت العلاء ثانية إلى العرش، وقد وفى لها صاحبها بما وعد، وكان لها زفة سلطانية لم ير الراءون مثلها، فبسطت على الأرض شقق الحرير، وأضيئت في الطيقان القناديل على طول الطريق من قنطرة سنقر إلى قصر السلطان بالقلعة، ونثرت على رأسها رقائق الذهب والفضة ... وعادت سلطانة كما تمنت على صاحبها ذات مساء. ونزلت أصل باي عن العرش الذي عاشت في ظله منذ عهد مولاها قايتباي، وولدها الناصر، وأخيها الظاهر، وزوجها الأشرف جانبلاط؛ لتعيش في دارها الصغيرة عند بركة الفيل، ليس لها من عمل إلا أن تسترجع ذكريات ذلك الماضي الذي كان ... ثم تبكي حتى تشرق بالدمع!
على أن السلطان لم يترك أصل باي لأحزانها، فقد انقض عليها زبانيته ذات يوم يسألونها أن تدفع إليهم ما عندها من مال السلاطين الأربعة، فلم يتركوها حتى وثقوا أن لم يبق عندها أبيض ولا أصفر ... ثم لم تلبث طويلا بعد هذه النكبة التي أصابتها في مالها، حتى جاءها النبأ بمقتل زوجها جانبلاط في معتقله من ذلك البرج، بتدبير العادل طومان باي!
الفصل السادس عشر
نداء القلب
كان الشتاء في أخرياته، وقد غمرت القاهرة موجة من البرد لم تشهد مثلها منذ سنين، وعصفت الرياح عصفا عنيفا يكاد يهدم الدور ويقتلع الشجر، فأغلقت المتاجر، وخلت الأسواق من المشترين والباعة، وأوى الناس إلى بيوتهم يعتصمون بها من عصف الريح وقرس البرد، وأسدلت الستور على الشرفات والطيقان، فلا ينفذ منها إلى الطريق بصيص من النور، فما أتى الليل حتى خلت طرق المدينة من المارة وغطاها الظلام، فلا خفقة نعل ولا شعاعة نور ...
وفي هذه الليلة الليلاء، في هذا الظلام الدامس، في ذلك البرد القارس، في ذلك السكون الرهيب، كان فتى في زي المماليك يمشي على حيد الطريق حذرا يتلفت، فما كان يبلغ دار أقبردي الدوادار حتى انعطف عليه وقصد الباب، وكأنما كان ثمة من ينتظره على ميعاد، فلم يكد يقترب حتى انفتح الباب بخفة ثم أغلق، وغاب الفتى في ضمير الظلماء ...
وهناك كانت خوند مصرباي الجركسية في غرفتها من ذلك القصر جالسة تنتظر، فلم تكد جاريتها تؤذنها بمقدم الأمير خاير بك، حتى خفت لاستقباله وعلى شفتيها ابتسامة وفي عينيها بريق ... هذا رجل تستطيع أن تسخره فيما تشاء من أمرها، إنه ليحبها حبا يفرض عليه الطاعة حين تأمر، لقد كان بينهما يوما ما عهد مشترك لم تلفظه شفتاها ولم تلفظه شفتاه، ولكنه عهد وثيق، ألم تكن تطمع يوما أن تصير إليه ليرفعها إلى مرتبة الإمارة، وتحدثت عيناها إليه بهذه الأمنية فأجابها بعينيه وتعاهدا في صمت؟ بلى، لقد كان ذلك يوما، أما هي فمضت في طريقها لم تنظر إلى وراء، ثم لم تزل ماضية حتى بلغت العرش وكان من أمرها ما كان، وإنها لتطمع أن تعود يوما إلى ذلك العرش ... وأما صاحبها - هذا الذي واثقها على الحب منذ التقيا في خان مسعود - فلم يزل يأمل أمله ويسعى إليه. إنه اليوم أمير ألف من مماليك السلطان العادل طومان باي، ولعله أن يصير أكبر من ذلك يوما ما، ولكن ماذا يجدي عليه أن يبلغ أرقى مراتب المجد والجاه، وإنه لبعيد عمن يجب وإنها لبعيدة؟ ماذا يجديه أن يكون أميرا، أو وزيرا، أو دوادارا قد اجتمعت في يديه كل السلطات، وليس إلى جانبه الأميرة المحبوبة الغالية، التي عاش ما عاش منذ التقيا لأول مرة في حلب وليس له فكر إلا فيها، ولا حنين إلا إلى لقائها، ولا أمل إلا أن يراها وإياه زوجين قد تمت لهما سعادة اللقاء!
إنه لم يزل يحبها منذ ذلك اليوم البعيد، لم يصرفه عن ذلك الحب أن الأقدار قد تصرفت بها وبه، وانتقلت بها من دار إلى دار إلى دار، حتى عادت اليوم إلى دارها وحيدة ليس لها من كل سعادة الماضي وأمجاده إلا ذكريات وأماني، وها هو ذا يلقاها على ميعاد، وها هي ذي تخف لاستقباله وعلى شفتيها ابتسامة وفي عينيها بريق ... «ولكنها لم تزل زوجة الظاهر قنصوه، ذلك السلطان المخلوع الراسف في أغلاله في ذلك المعتقل من برج الإسكندرية الحصين، فمن أين له أن يطمع في منالها ولم يزل زوجها حيا هناك؟!»
ألم هذا الخاطر بقلبه وبقلبها في وقت معا، أما هو فسأل نفسه حنقا: لماذا لم يجهز عليه العادل طومان باي كما أجهز على الأشرف جانبلاط؟
وأما هي فقالت لنفسها: وماذا في ذلك؟ ... أما إن أفلح التدبير وعاد الظاهر قنصوه سلطانا، فسأعود معه إلى العرش سلطانة، وأما إن أخفق التدبير فلن يسلم رأس قنصوه ... وإن خاير بك لأهل وجار.
والتقيا وجلسا ساعة تتحدث عيناها إلى عينيه ولا تنبس شفة منهما بحرف، ثم قطعت مصرباي الصمت قائلة: خاير بك!
أجابها: مولاتي!
وكان صوتها يرن في أذنيه كالصدى راجعا إليه من الزمان البعيد في المكان البعيد، وكأنه ذكرى تومض في الوجدان، أو خاطر يتمثل في الوهم، أهذه مصرباي التي لقيها ذات يوم في حلب فتحدث إليها وتحدثت إليه، بالعينين تارة وبالشفتين، وتعاهدا على الوداد؟ إنها هي هي كما كانت، بل إنها لأكثر سحرا وفتنة مما كانت ...
وقال خاير بك: إنني لم أزل يا مولاتي على ذلك العهد، ولم يزل قلبي لك خالصا لم يغيره تقادم السنين ...
وصمت فجأة وعض على شفتيه، كيف جرى على لسانه مثل هذا الحديث؟ لكأنما يعيرها ويمن عليها ... تلك التي عاهدته ذات يوم عهدا فلم تثبت على الوفاء به، وأسلمت نفسها للمقادير تتقاذفها من دار إلى دار إلى دار، ولها في كل دار منها قلب وحبيب، وإنه على ذلك ما يزال يحبها، ويطمع أن تخلص له.
وأطرق أسفا خزيان! وكأنما قرأت ما قام بنفسه من هذه الخواطر، فسرها أن تكون منزلتها من نفسه حيث وصف، فقالت باسمة: لم أشك فيك يوما يا خاير بك، ولم أنس ... حتى يوم خلفتني هنا ومضيت إلى بلاد ابن عثمان، فطاب لك المقام زمانا!
ورضي خاير بك وسري عنه، وخيل إليه كأنما تعتذر إليه من بعض ما كان، فهدأت نفسه من قلق، وهم أن يجيب فأعجلته قائلة: وإنني - أيها الصديق - لم أزل أراك بتلك العين، كأنما لم تمض تلك السنون، فلم تزل أخي وجاري ومعقد أملي!
وخفق قلب الرجل وهزته قشعريرة الحب، وغشت عينيه دموع، واسترسلت المرأة في حديثها: وقد كنت أدخرك يا خاير لأمر عظيم، ولكن بيني وبينك اليوم حجابا، فليس يخفى علي أنك اليوم من أمراء ذلك السلطان ...
وسكتت برهة، ثم علا صوتها وزاد شدة وحدة، وأردفت: ولكن ذلك الغادر السفاك لا بد أن ينال جزاءه، ولا بد أن تطلبه المقادير بالثأر فتأخذه بدم الناصر وجانبلاط، ومن يدري ماذا يفعل غدا أو بعد غد بالظاهر قنصوه! ولكنك اليوم يا خاير أمير من أمراء ذلك السلطان.
قال خاير: مولاتي ...
فقاطعته قائلة في رقة: لست مولاتك يا خاير، إن مولاك هو ذلك السلطان، وإنما أنا مصرباي التي كنت تناديها باسمها ذات يوم في حلب منذ سنين!
قال خاير وقد غلبه وجدانه: نعم يا مصرباي ... ولكنك إلا تكوني مولاتي، فلن يكون مولاي هو الغادر السفاك طومان باي، وستعرفين من خبري وتسمعين عن بلائي!
فلمعت عينا مصرباي ببريق فاتن، وأقبلت على محدثها حتى أحس أنفاسها تتضوع في جوه عطرا مسكرا، وقالت وعيناها في عينيه: وإنك أهل لذلك يا خاير بك ... بل إنك لأهل لأكثر من ذلك.
وانضم إلى أعداء العادل طومان باي - منذ تلك الليلة المقرورة - أمير من أمراء المماليك له شدة وبأس وعنفوان!
على أن العادل وقد صعد إلى العرش وتحققت له كل أمانيه، لم يكن يفكر فيما يدبر وراءه، وما كان له أن يخشى غدرة وقد تفانى الأمراء العظام، فلم يبق ثمة من تنازعه نفسه إلى العرش، أو يطمع في الوثوب على السلطان! ومن ذا هنالك غير الظاهر قنصوه رهين محبسه في برج الإسكندرية يرسف في أغلاله، وليس وراءه من يهتم به، وغير قصروه وإنه لأوفى أصدقائه له، وبجهده وتدبيره ولي العرش ولو أراده قصروه لسبق إليه، ثم قنصوه الغوري ذلك الشيخ الذي جاوز سن الطموح وعزف عن مغريات المجد والجاه؟ ومن غير هؤلاء يخشاه العادل أو يحسب حسابه؟
واطمأن إلى حظه راضيا آمنا غدرة الأيام.
الفصل السابع عشر
لفتات الذكرى
لم يكن طومان ابن أخي الغوري هادئا ساكن النفس في هذه الأيام، إن في رأسه خواطر تصطرع، وإن القلق ليتوزعه ويذهب به مذاهبه؛ لأنه لا يكاد يعرف أين هو من دنياه هذه التي تموج بالأحداث ...
إن العادل طومان باي اليوم يجلس على عرش قايتباي العظيم بالغدر والخيانة وسفك الدم، وما أعظمها سخرية أن يكون دواداره الكبير هو قنصوه الغوري، وأين العادل طومان باي من الغوري؟! أهذا الذي كان منذ سنوات مملوكا من المماليك الخاصة - حين كان الغوري أميرا له شأن وقدر وسابقة - يثب إلى العرش على أشلاء ثلاثة سلاطين، ولا يجد الغوري حرجا في أن يكون دواداره؟ يا للدوادار الشيخ! هل نالت منه السنون وهدت عزيمته حتى رضي لنفسه هذا المقام؟!
ولكن ما له وللسياسة وأساليبها الملتوية؟! لقد نفض يده منها منذ أغفل عمه مشورته واستقل برأيه، فليس به اليوم نزوع إليها ولا فكر فيها، فليستقل عمه بتدبيره ولينظر هو في أمر نفسه، إنه منذ بعيد لم يلق صاحبته شهددار بنت أقبردي، ولم تختلف إليها جاريته، إن بينها اليوم وبين السلطان سببا، أليست خوند فاطمة بنت العلاء - زوج السلطان - خالتها، وأين له اليوم أن يلقاها أو يرسل إليها رسوله، ثم إنها حتى اليوم لم تزل في نظر عمه الغوري بنت أقبردي الدوادار، الذي كان الغوري يخاصمه يوما ما، فمن أين لطومان أن يلتمس عند عمه المعونة على ما يلقاه من حبها؟! وهل يرضى الغوري لابن أخيه أن يكون زوجا لبنت أقبردي؟ أم تراه يستعين على أمره بمصرباي؟ ولكن مصرباي اليوم في منزلة أخرى، إنها طريدة الجالس على العرش، فما في طوقها أن تكون عونا له على الوصول إلى بنت أخت السلطانة.
ما هذا؟! أكلما حاول أن يفر من حديث السياسة والفكر فيها، رأى نفسه منساقا إليها من حيث لا يدري، غارقا في لجتها المائجة؟!
وثقل عليه ما يحمل من هم، فاتخذ طريقه إلى كوم الجارح، يلتمس عند شيخه أبي السعود شيئا من الروح والاطمئنان وهدوء البال. ولأول مرة منذ تعود أن يلقى شيخه في حلقته، لم تقع عينه على أرقم خادم الشيخ، ودار بعينيه فيما حوله ومن حوله فلم يعثر به، وكان شيخه يرقبه، فقال باسما: أحسبك تريد أن تسأل عن أرقم؟
فاحمر وجه طومان وأجاب: نعم، إنني لا أراه هنا اليوم!
قال الشيخ ولم تزل على شفتيه ابتسامته: ولعلك لا تراه بعد، لقد فارقنا مغضبا منذ أيام، وأحسبه لن يعود.
ثم صمت برهة وعاد يقول: إن أرقم صندوق مغلق على ما فيه من غيب الله، لم يطلع على سره أحد، لست أنكر أنه من أهل الصلاح والتحرج، ولكن به إلى ذلك نزغات شيطانية يجب أن تخلص من مثلها قلوب أهل الصلاح والخير ...
وبدا الاهتمام في وجه طومان، وسأل شيخه: تعني يا سيدنا أن وراء مظهره ذلك حقيقة خبيثة!
قال الشيخ مستغفرا: معاذ الله! ولكنه على صلاحه وتحرجه لا يسلم من بوادر الغضب، وأحسب أن له ماضيا يجتهد لإخفائه أو لنسيانه؛ فإن له أحيانا سبحات خيالية تتراءى في عينيه بعض صورها ثم يمحوها الدمع ... وإنه أحيانا ليحب أن يأكل لحم بعض الناس ...
قال طومان: أما هذا فنعم، وقد تحدث إلي مرة فلم يتحرج أمامي أن يذكر عمي قنصوه بما يسوءني، ولكنه رجل منكوب فليس عليه حرج أن يسخط حظه، وأن يجري على لسانه بعض ما يكره الناس.
وغادر طومان مجلس الشيخ كما دخله، لم يتفرج من همه أو يتخفف من أثقاله، فإنه لفي بعض الطريق وقد جاوز الرملة إذ وافق خاير بك خارجا من دار أقبردي يوفض في السير عجلان.
ولأول مرة منذ افترقا في خان مسعود بحلب قبل اثنتي عشرة سنة التقى خاير بك وطومان، وكان لقاؤهما عند دار مصرباي الجركسية، في مثل موقفهما ذات صباح هناك، أما طومان فقد عرف صاحبه كأن لم يفارقه إلا منذ اليوم، وأما خاير فأنكر ذلك الوجه. لقد كان طومان في ذلك الماضي غلاما أمرد نحيل البدن، وإنه اليوم لشاب قد بلغ مبلغه من النضج والقوة، وهتف طومان وقد مد يده باسما: أفلست تعرفني يا خاير؟ إنني أنا طومان ...
وعاد الزمان القهقرى فرد الرجلين إلى ذلك الماضي برهة، ثم عاد كل منهما إلى مكانته، وجاوبت ابتسامة أختها وتعارفا، ثم تدابرا، ومضى كل منهما يفكر في شأن صاحبه، أما خاير فتذكر تلك الكلمة التي قالها له طومان في ذلك الصباح البعيد على باب الغرفة التي تجلس وراءها مصرباي: اذهب حيث تشاء فلا بد أن نلتقي يوما!
فانقبضت نفسه لهذه الذكرى، وركبه الهم وتوزعه القلق، وأما طومان فلم يتمثل في تلك اللحظة إلا مصرباي جالسة بين يدي أستاذها جقمق في غرفته من خان مسعود بحلب، وفي وجهها أمارات القلق واللهفة، وخاير بن ملباي يتمشى ثقيل الخطو عند باب الغرفة، ثم عاد يتمثلها في قصرها هذا الأنيق جالسة بين يدي مواشطها، تتهيأ لاستقبال ذلك الضيف ... فانقبضت نفسه لهذه الصورة أكثر مما انقبضت نفس صاحبه ذاك لتلك الكلمة التي لفظتها شفتا طومان منذ سنين.
وضاق طومان بهمه، وازدحمت عليه الخواطر المؤلمة تدفعه من حال إلى حال شر منها، فاتخذ طريقه إلى شمال المدينة يلتمس فرجة في الخلاء عند بساتين قبة يشبك، فلما انتهى إلى حيث أراد، ترجل عن فرسه ودخل القبة فصلى صلاته، ثم خرج إلى البساتين النضرة راجلا يجتلي بهجة النفس، وقرة العين في مناظرها الفاتنة.
ثم عاد إلى فرسه فشد لجامها ووضع رجله في الركاب، وتأهب للعودة إلى دار عمه، وفجأة قفزت إلى خاطره صورة أرقم، ذلك المسيخ المنكوب الذي اصطلحت عليه هموم الدنيا فليس له نصيب من سعادتها، فود لو لقيه في تلك الساعة؛ ليخفف عنه بعض ما يلقى من أنكاد الحياة، ويحاول أن يصلح بينه وبين شيخه. وعجب طومان لنفسه، ماذا أذكره أرقم في تلك الساعة وأحضر في خياله صورته تلك، وإنها لبغيضة المنظر إلى جميع من يراه؟!
ولو أن طومان حين سأل نفسه هذا السؤال قد مد عينيه إلى قريب، لرأى أرقم جالسا في ظل سرحة فينانة، وبين يديه منديل مبسوط قد فرش عليه رمل أصفر، وراحت أصابعه تخط عليه خطوطا متوازية ومتقاطعة، وأحاط به حلقة من الناس يستنبئونه الغيب ...
لقد أصبح أرقم رمالا منذ فارق شيخه أبا السعود الجارحي مغضبا، ولم يجد في نفسه حرجا من احتراف هذه المهنة حين ضاقت به أسباب العيش، وعز عليه أن يحصل على الرزق الحلال! وماذا عليه في أن يكون رمالا كأبي النجم، يجفف دموع المحزونين، ويمسح على قلوب البائسين، ويهب لليائسين الصبر والأمل، وأي عمل أكثر مثوبة عند الله من ذاك؟! ليته يؤمن بمثل ما يؤمن به الناس؛ ليجد من يجفف دمعه، ويمسح على قلبه، ويهب له الصبر والأمل!
ورأى أرقم طومان وهو يهم أن يعتلي فرسه، فأتبعه عينيه حتى غاب، ونفذت صورته إلى خاطره ولم تره عيناه، ورأى أهل الحلقة أرقم وهو يرفع عينيه ويدور بهما نحو الطريق الذي سلكه طومان، فلم يظنوا إلا أنها سبحات روحية تتمثل في نظرة عينين، فأمسكوا عن القول حتى عاد إليهم من سبحته، ومضى فيما كان فيه من تخطيط وتخليط.
وبلغ طومان دار عمه وهو متعب مكدود الفكر والجسد، فأوى إلى فراشه ساعة لينام، وفي خياله صور شتى وخواطر متضاربة، ولكنه لم يلبث أن نام ...
وانتقلت خواطره في النوم إلى البعيد البعيد، وحضرته صورة أخرى لم تحضره منذ سنين، صورة امرأة تشبه نوركلدي شبها بعيدا، لولا ذبول في عينيها، ونحول في جسدها، وشحوب في وجنتيها، وشعرات بيض في رأسها تلوح وتخفى، كما يهتز الشعاع على سطح الماء في ليلة حالكة السواد ...
وكانت في ثياب الحداد، ملثمة لا يبدو من وجهها الشاحب إلا عينان تبصان، وإنها لتقتلع أقدامها اقتلاعا في بادية رملية سحيقة، ليس وراءها إلا الرمال، وليس أمامها إلا الرمال، وقد أصابها الكلال والظمأ في تلك الطريق الطويلة الشاقة، فإنها لتنظر حواليها فلا ترى أحدا، وتنظر أمامها فلا ترى أحدا، ولكنها لم تنظر وراءها قط، كأنما عاهدت نفسها أن تموت أو تبلغ آخر هذه الطريق.
وأحست بالضعف والوهن، فهتفت وإن حلقها ليكاد ينشق: ولدي طومان!
فدوى الصوت في أرجاء هذه المتاهة العمياء، ثم ارتد إليها الصدى، فكأنما سمعت في أطوائه جواب النداء، فاستمدت من عزمها قوة، واستمرت تمشي وهي تقتلع أقدامها اقتلاعا في رمال تلك البادية السحيقة ...
وهب طومان من نومه مذعورا يتلفت، كأنما أيقظه ذلك الصوت البعيد البعيد تهتف به امرأة غاب وحيدها، فلم تزل على الطريق إليه منذ بضع عشرة سنة!
وهتف طومان وهو يدير عينيه فيما حوله بين جدران أربعة: أمي نوركلدي!
فلم يتردد له صدى، ولكن صوته اخترق الأبعاد، واجتاز المسافات، وقطع الطريق من غرب الأرض إلى الشرق أسرع من الشعاع النافذ، فإذا أمه تسمعه هنالك، فتستأنف سيرها في ذلك الطريق الطويل الموحش، معتزمة مصممة؛ لتبلغ حيث أرادت، وتلقاه ...
الفصل الثامن عشر
أرقم الرمال
لم يحاول أرقم الرمال - منذ اتخذ تلك الحرفة مرتزقا - أن يتحول عن مجلسه ذاك تحت السرحة الفينانة في بساتين القبة، فقد وجد هنالك من إقبال الناس عليه ما أغراه بالمقام ثمة، فإنه ليقضي نهاره في ظل تلك السرحة، فإذا أظله الليل مشى يتخلع حتى يبلغ القبة، فيقضي ليله في الحجرة الصغيرة الضيقة التي أفردها له الشيخ بدر الدين بن جمعة شيخ القبة، وأذن له في أن يتخذها مأوى ...
وكان الشيخ بدر الدين رجلا له عند الأمراء مقام واعتبار؛ فهو إلى علمه وفضله مسامر له فنون في تشقيق الأحاديث، وطالما أنس إليه الأمراء الذين يختلفون إلى القبة للصلاة، أو التماس شيء من الراحة بعد أن يأخذوا حظهم من الرياضة، والفرجة في البساتين النضرة التي تمتد شمالي القاهرة إلى محلة قلج والخانقاه ... وكثيرا ما كانت مسامرات الشيخ بدر الدين وأحاديثه العذبة تغري بعض هؤلاء الأمراء بالمبيت في ضيافته. وقد أعدت هنالك - منذ عهد الأمير يشبك الدوادار منشئ تلك القبة - دار ضيافة عامرة، فيها الخدم والحشم، وفيها كل ما يحتاج إليه السلاطين والأمراء من أسباب الترف والنعمة، فلا يكاد يمضي يوم حتى يفد إلى القبة أمير من الأمراء، أو يفد إليها السلطان نفسه، يحاول أن يتخفف في ذلك الجو الممتع من بعض أثقاله، فيلقى شيخ القبة ضيفه، أو أضيافه، ويهيئ لهم مقاما طيبا وسمرا لطيفا، فيجلس إليهم يقص القصص، أو يروي النوادر، أو ينشد الشعر، أو يثير مسألة من مسائل الجدل يشتجر حولها الخلاف حينا بين السمار، ثم يجتمعون في النهاية على رأي الشيخ، فإنه ليملك من قوة البيان بالعربية والتركية ما يمتلك به الحجة في أعسر مسالك الجدال والمناظرة ... فإذا سئم ضيوفه الحديث والمناظرة فإن الشيخ بدر الدين لاعب كرة ورامي نشاب، وله توقيع وغناء وألحان على الشبابة تستنزل العصم ...
لا جرم كان الشيخ بدر الدين بن جمعة بكل ذلك صاحب تلك المكانة بين رواد بساتين القبة من الترك والمصريين على السواء، وكان أرقم الرمال يعيش في ظله راضيا بما أفاء الله عليه من حرفته الجديدة ...
وتسامع الناس بأرقم الرمال، فسعوا إليه من القاهرة وأرياضها، وعرفه كثير من أهل القرى الذين يمرون بهذه الرياض في طريقهم من بلاد الشرقية إلى مصر ... فلم يلبث أن صار له ذكر أخمل ذكر أبي النجم الذي تفرد بفنه في القاهرة زمانا؛ حتى لا يأمل أحد أن ينفذ إلى شيء من أسرار الغيب إلا من بابه، وظل أوحد عصره في هذا الفن حتى غلبه أرقم على مكانه.
وكأنما كانت دمامة أرقم، وبحة صوته، وغرابة أطواره، هي الأسباب التي حملت الناس على تصديقه والإيمان به، كأنما وقع في وهم الناس بكل ذلك أنه رجل ليس من الناس، وأن بينه وبين الغيب أسبابا ...
وبلغ صيته السلطان العادل طومان باي، فدعاه إليه ...
يا للرجل مما به! إنه لم يفكر يوما منذ اتخذ تلك الحرفة مرتزقا، أنها ستقوده إلى ذلك المأزق الحرج، ما له وللسلاطين؟! إنه ليشعوذ على العامة ما يشعوذ لأنه رجل منهم، يعرف دخيلة صدورهم، وما يتخايل لهم من الأماني، وما يحذرون من هموم العيش، وإنه ليلقف غيب صدورهم من لحظات أعينهم، وخلجات جوارحهم، وهمسات شفاههم، فما يفعل إلا أن يرد إليهم ما أخذ منهم في عبارة تتسع وتضيق، وتطول وتقصر، وفيها الفأل والطيرة، فيأخذها كل منهم على ما في نفسه من معنى، فلا يلبث أن يؤمن ويصدق، فأين هو من السلطان وحاشيته ليعرف دخيلة صدورهم، وما يختلج في نفوسهم من الأماني أو من المخاوف والآلام؟! ولكن الشيخ بدر الدين هو الذي جر عليه هذا البلاء، وعرضه لتلك المحنة، وحبب إلى السلطان أن يدعوه لينبئه عن غيبه.
لعل الشيخ بدر الدين كان بريء النية فيما قصد إليه، بل لعله أراد لصاحبه الخير والنعمة فاحتال ليصل حبله بالسلطان، ولكن أرقم الرمال لم يفهم ذلك إلا على أنه بلاء ومحنة وهم طويل ...
فقال محتجا: يا سيدنا الشيخ، ما لي ولهذا المأزق ترميني إليه؟! وإنك لتعرف أن بضاعتي لا تنفق في سوق السلطان، وما لي علم بما في نفسه فأحدثه عنه، ولا خبر عن حاشيته فأرويه له، وليس في وجهي طلعة بشر كما تراني!
قال الشيخ ضاحكا: فإنك يا أرقم تعرف من خبره أنه سلطان، وأن لكل سلطان حاشيته، وأن في حاشيته قصروه وقنصوه، وأن زوجته خوند فاطمة بنت العلاء، وماذا يختلج في نفس السلطان من الأمل والهم إلا أن يفكر في عرشه، وفي حاشيته، وفي زوجه؟! وإن في يمن حديثك يا أرقم ما يغني عن يمن طلعتك!
بلع أرقم ريقه وهو يهمس لنفسه: في حاشيته قصروه وقنصوه! إلى أين ترمي بي المقادير يا رب وليس لي اختيار؟!
وصمت برهة يفكر، وغاب في سبحة من سبحاته الخيالية الطويلة، فلو كان في مجلسه ثمة شيخه أبو السعود الجارحي، لقرأ في عينيه بعض سره ...
وطال صمته في مجلس بدر الدين بن جمعة، فلم يتنبه حتى هزه الشيخ بلطف وهو يقول: هيه! ماذا قلت يا أرقم؟
وعاد أرقم من سرحته فأجاب قائلا: سأذهب يا سيدي، سأذهب إلى السلطان فأنبئه بغيبه، على أن تعيرني من ثيابك جبة وقفطانا وعمامة!
قال الشيخ ضاحكا: هي لك ملكا لا عارية يا أرقم.
كان قصروه - كبير الأمناء - رجلا محببا إلى الناس، فإنه لجواد سمح، وإنه لرفيق متواضع، وإنه لوافي العهد جريء القلب، يؤثر صاحبه على نفسه وإن كانت به خصاصة. ولم ينس له أهل القاهرة مشهدا قريبا يوم رأوه يحفر الخندق عند القلعة بيديه مع الفعلة، ويحمل التراب على كتفيه؛ ليهيئ لصاحبه طومان باي أن يكون سلطانا على عرش مصر، وإن قصروه لأعلى مقاما وأقدم مملوكية من طومان باي، ولكنه صديق.
وكان حب المصريين لقصروه وإعجابهم بخلاله هما الدعامة القوية التي يستند إليها عرش السلطان العادل طومان باي. لم يكن ذلك رأي المصريين وحدهم، ولكنه رأي المماليك جميعا، ورأي قنصوه الغوري الذي طالما تحدث به وتحدث به ابن أخيه طومان إلى المماليك وإلى الناس.
على أن السلطان العادل نفسه لم يكن غافلا عن هذه الحقيقة؛ فإن قصروه لأدنى أمرائه إليه وأصفاهم عنده، وإنه ليأذن له أن يبيت في القلعة حين لا يأذن لغيره، وإنه ليأكل على سماط السلطان حين لا يأكل أحد غيره على سماط السلطان.
واطمأنت القاهرة ومصر كلها، ورضيت عن السلطان العادل؛ لأن الأمير المحبوب قصروه هو مستشاره وكبير أمنائه، ولأن دواداره الكبير هو قنصوه الغوري، ذلك الشيخ الذي عرك الأيام وعركته، وجاوز سن الطموح فليس له نزوع إلى مزيد من المجد المخضب بالدم.
وبات قصروه في القلعة ذات مساء، ثم أصبح فبكر إلى مجلس السلطان، ووقف يومئذ بباب القلعة حمار هزيل، عليه شيخ معتم، قد غطت عمامته أذنيه وبعض وجهه، وغرق في جبة فضفاضة كأنه طفل في ثياب أبيه.
وترجل الشيخ عن حماره ومشى يتخلع في مشيته، وقد جمع في يده فضل ثيابه، فانحسر قفطانه عن ساقين معروقتين كأنهما عودان من قصب، ودنا من البواب يؤذنه بنفسه ويتعرف إليه: أرقم الرمال مدعو السلطان!
وغض البواب بصره وفسح له الطريق، فمشى حتى بلغ مجلس السلطان، فقبل الأرض بين يديه ووقف صامتا حتى يؤذن له، ثم اتخذ مقعده بين يدي السلطان وبسط منديله ... ونظر عن يمين وشمال، ثم قال في صوت أبح: مولاي!
قال السلطان: قد فهمت ما تعنيه، فهل تأذن لنا في خلوة يا أمير قصروه!
وترجل الشيخ عن حماره ومشى يتخلع في مشيته.
قال قصروه وقد تهيأ للقيام وعلى شفتيه ابتسامته: نعم، وباليمن والبركات يا مولاي.
وخلا المجلس إلا من السلطان والرمال، وبسط الرجل على المنديل حفنة من الرمل، وراح يخط عليها بأصابعه خطوطا متوازية وأخرى متقاطعة، وهو يزمزم ويقلب عينيه بين الأرض والسقف والحيطان، ثم انحنى على منديله وراح يتحدث في همس، ثم شرع صوته يرتفع رويدا رويدا حتى بلغ أذني السلطان، فسمع صوتا كأنه من وراء الغيب يقول: ومولانا السلطان مسعود الطالع بتوفيق الله، على يمينه يمن، وعلى يساره يسر ورخاء وسعادة ... الطيبات للطيبين والصالحات للصالحين، والخير لأهل الخير والإحسان، والخيرة بنت العلاء للخير ابن الطيبين الطاهرين، تعيش في ظل نعمائه دهرا، وتنجب للخلف الكريم ما لم تنجب للسلف العظيم، ويكتنفه النيران حتى يتم تمامه ويبلغ عنفوانه ...
ثم أخذ الصوت ينخفض رويدا رويدا حتى عاد كما بدأ، همسا خافتا كأنفاس النائم، ثم عاد يرتفع رويدا رويدا حتى ظهر كأنما طوف في الآفاق ثم آب، واستمع السلطان إلى الرمال يقول في صوت أبح كأنما يعالجه قسرا فلا يكاد: وفي السماء نجوم طالعة، ودراري ساطعة، وكواكب يخفق نورها بين الخبو والإشراق، ونجم مولاي السلطان بينها متفرد في عليائه، متميز بلألائه ... وثمة نجم يلاحقه ويوشك أن يدركه. ابعد أيها الكوكب الخابي! ابعد أيها المتقحم على ما ليس من قدرك! ابعد! ابعد فلست هناك، هل أنت إلى هذا النجم الساطع إلا حصاة تتضوأ من نوره، وذرة من تراب تتلألأ في شعاعه، فلولا أنك في مداره لكنت فحمة الليل، وسوادا أسحم ينذر بالويل. ابعد! ابعد فقد عرفناك، لست هناك لست هناك، وإنه لمولاك وإن أطمعك وأدناك ...
ق والقرآن المجيد
عوذت بها السلطان من شيطانك المريد، فلا تنال منه منالا، ولا تبلغ محالا، ومولانا بعين الله يحفظه ويرعاه، فلا يقفوه «قاف» بالشر إلا كبه الله على وجهه وأرداه!
وتقاطر العرق على جبين الرمال وبدا في وجهه الإعياء، فكأنما كان يغالب الغيب على أسراره حتى استخلصها وما كاد، ثم لم يكد ينتهي من حديثه حتى أطرق إطراقة طويلة، ثم رفع رأسه وهو يرتعد كأنما غشيته الحمى ...
وكان السلطان في أثناء ذلك كله يسمع صامتا لا يكاد يجد نفسه، فما هدأ الصوت حتى تنفس تنفسا عميقا، رده إلى الوعي واليقظة، ثم قال وفي وجهه أمارات القلق واللهفة: ماذا قلت يا شيخ؟ وبماذا حدثتك نجومك؟
قال أرقم ولم يزل جسده يرتعد: هو ما سمع مولانا السلطان مما أنبأتني به الطوالع، وإن مولانا السلطان لمنصور بإذن الله، ولن ينال الكائدون منه منالا.
قال السلطان حانقا: من ذلك الذي يكيد لي يا شيخ؟ وفيم يطمع؟
قال أرقم وقد ضيق عليه حتى لا يكاد يجد سبيلا للفرار: عوذت مولانا برب الفلق. إنه أمير من بطانتك يا مولانا أول اسمه ق.
فنهض السلطان عن مجلسه، ودنا من أرقم حتى مس كتفه بيده وهو يقول: بالله إلا ما صرحت لي، فإنني لا أكاد أفهم ما تعنيه!
وثاب إلى أرقم إيمانه بنفسه حين رأى مكانه الذي بلغ عند السلطان، فانفرجت شفتاه عن ابتسامته تلك، وقال: فليبحث مولانا السلطان عن ق بين أمرائه، فسيعرفه بسمات الشر في وجهه وقسماته، فإذا لم يكشف لمولانا السلطان عن صدره تائبا نائبا، فليكشف عن مكنون صدره السيف.
قال السلطان مؤمنا: صدقت، وإن السيف لأصدق ما يكشف عن خبيئات الصدور، وكأن قد عرفت الذي تعنيه ...
ثم مد يده إلى الرمال بصرة فيها دنانير، وكساه كسوة سلطانية، وشيعه إلى الباب وهو ماش يتخلع في مشيته، كأنه صرة ثياب على عصوين من قصب.
قال أرقم لنفسه والحمار ينحدر به من القلعة: الآن قد وضعت السيف في قفا قنصوه الغوري، وتوشك الدنيا أن تطهر من ذلك الثعلبان الشيخ.
وقال السلطان لنفسه وهو يدور في غرفته قلقا حيران لا يكاد يستقر على حال: الآن ينبغي أن أتدبر أمري وأمر قصروه، فأناله قبل أن ينالني، ولست أدري كيف غاب عني قبل اليوم أن قصروه إنما يتحبب إلى الشعب ليجد منهم جنده حين يثب وثبته على العرش؟! فالحمد لله إذ انكشف لي أمره قبل أن يأخذني على غرة وينال مناله!
وأعد السماط السلطاني، وجلس إليه السلطان عابس الوجه شارد اللب، لا يكاد يمد يده إلى شيء من الطعام، وجلس كبير الأمناء قصروه إلى جانب مولاه يلحظه قلقا، لا يكاد يجد مذاق الطعام في فمه، وكان حولهما على السماط أمراء من حاشية السلطان لم يشغلهم شيء عن طيبات الطعام والشراب والفاكهة، وعن التندر والمفاكهة، فإنهم ليأكلون أكل الفارغين، ويمزحون مزح السكارى.
وقال قصروه وقد أوشك الندل أن يرفعوا المائدة: حرس الله مولاي السلطان وجنبه العوادي، ماذا بك اليوم يا مولاي؟
وابتسم السلطان ابتسامة غامضة، وقال وقد ثبت عينيه في عيني كبير أمنائه: أنا والله خائف منك يا أمير.
وغص كبير الأمناء بريقه، وتوقف الأمراء عما كانوا فيه، واتجهوا بأنظارهم إلى حيث كان يجلس السلطان وكبير أمنائه، وأطبق الصمت على المكان ...
ثم لم يلبث الأمراء أن غادروا المجلس، وخرج قصروه وقلبه يحدثه بالشر الذي يتربص به ...
ثم انقضى الليل، فلم يكد الناس يصبحون فيغدون على أعمالهم، حتى جاءهم نعي قصروه كبير أمناء السلطان ...
وانهارت الدعامة العظيمة التي يستند إليها عرش السلطان العادل طومان باي، وآذن صبحه بليل.
الفصل التاسع عشر
حديث المدينة
كان دكان علي بن أبي الجود - بياع الحلوى والمشبك عند حمام شيخو - كأنه منتدى من منتديات السمر، فلا يزال يلتقي عنده كل يوم طوائف من المصريين والمماليك، فيقضون وقتا طيبا يسمرون ويتبادلون مختلف الأحاديث ريثما يهيئ لهم ما يشتهون من الحلواء والمشبك، وقد اشتهر في صناعتهما شهرة طبقت القاهرة، فسعى إليه الناس من مختلف الأحياء يشترون من بضاعته هذه اللذيذة ويسمرون في دكانه ...
وكان فيمن يقصد دكانه ذاك جماعة من أمراء المماليك الشبان، يستخفهم حديثه وتلذهم حلواه، على أن قنصوه الغوري كان أكثر رواد ذلك المنتدى الصغير وأشدهم إقبالا على بضاعته، وإن الغوري لجسيم شحيم، وله فنون في أكل الحلوى والمشبك، لا سيما تلك التي يصنعها علي بن أبي الجود. فلما ارتقى الغوري في درجات الإمارة حتى بلغ ما بلغ، لم يرض لنفسه أن يختلط بالسوقة وصغار الأمراء من رواد ذلك الدكان، ولكن صلته لم تنقطع بعلي بن أبي الجود؛ فقد عرف فيه مصريا ذكي الحس، خفيف الروح، سريع الخاطر، له دهاء وحيلة؛ فإنه لأهل لأن يستعين به يوما ما على أمر من أمره، ثم إن حلواه لم تزل حبيبة إلى نفس الأمير الشيخ ... ومن ثمة نشأت الصلة بين طومان وعلي بن أبي الجود، فكثيرا ما كان يقصد إلى دكانه، لحاجة عمه أو لحاجة نفسه، وما كان أكثر حاجته إلى أن يلقى من أعيان المصريين من لا يتهيأ له أن يلقاهم، فيتحدث إليهم إلا في دكان ابن أبي الجود.
ففي أصيل يوم من تلك الأيام قصد طومان إلى ذلك الدكان لبعض حاجته، فإذا طائفة من أصدقاء ابن أبي الجود قد جلسوا ينتظرون ما يهيئ لهم من بضاعته، ويتبادلون الأحاديث، على أن المدينة كلها في ذلك اليوم لم يكن لها إلا حديث واحد؛ فقد كان مصرع الأمير قصروه - كبير الأمناء - حادثا فظيعا يتردد صداه في كل نفس، فما ترى في عيون الناس ولا تسمع على ألسنتهم إلا أمارات الحزن وعبارات الأسى على مصرع ذلك الأمير الكريم، وكأنما لم يكن هتاف ذلك الشعب منذ قريب باسم السلطان العادل طومان باي إلا تعبيرا عن ثقته وحبه لمستشار ذلك السلطان وكبير أمنائه، فما جاءه نبأ مصرعه حتى انقلب ذلك الهتاف باسم السلطان دعاء عليه وبغضا له، فلو أطاقوا لانتزعوه من عرشه ورموه في حفرته.
ولم يكد طومان ابن أخي الغوري يظهر في الطريق مقبلا على دكان ابن أبي الجود، حتى أمسك الناس هناك عما كانوا فيه من حديث قصروه وأخذوا في حديث غيره، أليس هذا الأمير الصغير هو ابن أخي الغوري دوادار السلطان؟ فإنهم ليخشون أن يطلع على ما تكن صدورهم من البغض لذلك السلطان الغادر.
ولحظ طومان صمتهم بعد ضجيج وسكونهم بعد حركة، فأقبل عليهم بتحيته مبتسما ثم جلس بينهم، وطال الصمت فترة، ثم ندر صوت رجل من أبناء الناس كان جالسا في زاوية الدكان يقول: رحمه الله! لقد عاش كريما ومات كريما.
ووجد طومان فرجة لينفذ منها إلى ما يريد، فقال وقد بدا في وجهه لون من الأسى: أحسبك تتحدث عن الأمير قصروه، وحقا قلت، وإن موته لخسارة!
ثم عاد لحظة إلى الصمت وهو يقلب بصره في وجوه الجالسين، وأردف: ولم يكن مثل قصروه في وفائه أهلا لهذا الغدر.
وبدا الارتياح في وجوه الناس، وقال رجل منهم: عجبت كيف يكره قصروه أو يخافه رجل له قلب أو عقل!
قال جاره: ومن قال لك إن لذلك الغادر الذي دبر مصرعه قلبا أو عقلا! أرأيته - لو أن له عقلا يدرك به - كان يهدم تلك الدعامة الراسخة التي يستند إليها عرشه؟
قال آخر: أفليس هو الذي قتل الناصر ابن سيده، وخلع الظاهر صديقه، وغدر بصاحبه جانبلاط الذي وثق به وأسلم له الأمر كله؟ فمن أين لمثله أن يكون له قلب أو عقل؟!
في تلك اللحظة، أقبل على دكان علي بن أبي الجود شيخ جليل، له وقار وسمت، فأمسكوا عن الحديث ووقفوا إجلالا وتحية حين همس واحد منهم: الشيخ جلال الدين السيوطي!
وألقى الشيخ إليهم السلام وهم أن يستأنف سيره، بعد أن أسر كلمتين في أذن ابن أبي الجود، فقال واحد من الجماعة: ادع لنا يا سيدنا الشيخ أن يكشف الله عنا هذه الغمة!
فأسبل الشيخ جفنيه وهز رأسه في أسف وهو يقول: الله لهذه الأمة من ذلك الفاسق! عجل الله به لنخلص من شره، ورحمة الله على ذلك الشهيد.
ثم استأنف سيره لتعود الجماعة إلى ما كانت فيه من الحديث.
قال جركسي قصير القامة كان جالسا في أقصى المجلس: ليس لنا والله في هذه المحنة إلا تدبير الأمير الكبير قنصوه الغوري، لولا عزوفه عنها!
ومال طومان برأسه ينظر، فإذا غلامه أبرك ... فابتسم ابتسامة ثم قال: ومن أين لعمي الغوري أن يؤمن بأن عليه اليوم فرضا أن يخرج من صومعته ليقيم هذا العوج؟ إنه ليكره أن يظن الناس به الظنون حين يسمعون له صوتا في هذه الملمة، وإن أبغض شيء إليه أن يكون من أصحاب السلطان، فيحمل أوزار هذه الخلائق جميعا على رأسه يوم القيامة.
قال شيخ كبير: فإذا لم يحملها الغوري فمن يحملها؟ إنه ليزعم أنه يفر من حمل أوزار الناس، وإن فراره ذاك لإثم أكبر، فقد فسد الأمر كله حتى يوشك الناس أن يأكل بعضهم بعضا، ويتخذوا سلطانهم قدوة في الغدر والخيانة.
قال طومان: ولكن الغوري يا أبت شيخ كبير يضعف عن احتمال تبعاتها ...
قال الشيخ: بل قل كما قلت من قبل: إنه يفر من تبعاتها. وماذا صنع الشبان الأربعة الذين تداولوا عرش قايتباي من بعده، ماذا فعلوا إلا الغدر والفتك، وهتك الحرمات وسفك الدم، أفلم يكن قايتباي شيخا قد حطم الثمانين؟ فأين منا تلك الأيام السعيدة المجيدة؟!
قال طومان: صدقت! فمن لي بأن يؤمن عمي الغوري بما تقول؟
وكان علي بن أبي الجود قد فرغ من حاجة أصحابه هؤلاء، فأخذ كل منهم حاجته ومضوا لشأنهم، ومضى الشيخ الكبير، والأمير طومان، وأبرك المملوك، كل منهم في وجه، ولكنهم لم يلبثوا أن التقوا عند دار الأمير قنصوه الغوري في ساحة «بين القصرين»، حيث كان الغوري ينتظر أن يعودوا إليه بما عندهم من أحاديث الناس في المدينة.
فلما أظل الليل، كان علي بن أبي الجود نفسه بياع الحلوى والمشبك عند حمام شيخو، جالسا بين يدي الأمير قنصوه الغوري الدوادار الكبير، يقص عليه ما رأى وما سمع من حديث الأمراء والسوقة في ذلك اليوم، الذي لم يكن يجري فيه على لسان أحد من الناس - جراكسة ومصريين - إلا خبر مصرع قصروه ، وطيش السلطان العادل طومان باي وغدره.
وخلا المجلس بعد قليل بطومان وعمه، فقال الفتى: يا عم، إن في نفسي حديثا أرجو أن تأذن لي فيه.
قال الغوري: وما ذاك يا طومان؟
قال طومان: إني أخشى أن يكون علي بن أبي الجود عينا عليك، فقد نبئت أن له سببا إلى السلطان، وليس لمثل هذا السوقي عهد.
قال الغوري باسما: نبئت! فمن أنبأك؟ حسبتك تعرف منذ بعيد أن له أسبابا إلى السلطان. إنني أعرف هذا فلا تخش سوءا يا طومان، إن عمك يعرف أين يضع رجله قبل أن يخطو خطوة إلى أمام، أو إلى وراء.
ضاق صدر طومان بحديث عمه هذا، فقال غاضبا: تعرف هذا؟ فهل عرفت أن كلمة واحدة قالها الشيخ جلال الدين السيوطي اليوم على مسمع من ذلك السوقي، فلم تلبث أن بلغت السلطان، فإن الجند ليبحثون عن الشيخ جلال الدين منذ ساعات؛ ليسوقوه مقيدا إلى مجلس السلطان ينتقم منه.
فزادت ابتسامة الغوري اتساعا وعمقا وهو يقول: عرفت هذا، وأحسبهم لن يظفروا بالشيخ جلال الدين ولو كبسوا كل بيوت المدينة، فقد عرف الشيخ ما يراد به من قبل أن يعرف الجند الذين ينقبون عنه في زاوية كل دار ومسجد.
فبدت الدهشة في وجه طومان وأمسك عاجزا عن الرد، ولم يزل يحيك في صدره الشك والقلق.
وفي هدأة الليل وقد نامت العيون، كان شيخ في الستين يدلف حذرا في الطريق إلى بركة الفيل، حتى بلغ دارا لم يرتج بابها فنفذ من ورائه إلى الطريق شعاع يتراقص، فدفع الشيخ الباب في خفة ودخل، ثم أغلقه فأحكم رتاجه، ووضع عباءته عن كتفيه وانتصبت قامته، واستقبلته جارية كانت تنتظره ثمة فسألته: هل أنبئ مولاتي؟
قال: نعم، قولي لها قد جاء الغوري لموعدك يا خوند، وإن به حاجة إلى أن يعود إلى داره قبل أن يتقدم الليل.
وكانت خوند أصل باي تنتظر، فلم تكد تنبئها الجارية بمقدم قنصوه الغوري حتى هبت واقفة وتهيأت لاستقباله.
والتقى الأمير الشيخ بالأميرة الكسيرة الجناح التي كانت ذات يوم أحظى جواري السلطان قايتباي، ثم لم تزل من بعده آمرة ناهية في عهد ولدها الناصر، وأخيها الظاهر، وزوجها جانبلاط.
أين هي اليوم مما كانت تنعم به من الجاه والمجد والسلطان؟! لقد ذهب ذلك جميعا، وتخضب سيف العادل طومان باي بدم ولدها وزوجها، ولعله يدبر الساعة لأخيها الظاهر في معتقله ما يدبر من كيد ليؤمن ظهره، ولم يكفه هذا الذي صنع، فسلط عليها زبانيته يحاولون أن يغتصبوا ما ادخرته من مال في أيام عزها؛ ليكون لها عونا في تلك الأيام الشداد ...
قال الغوري: إني والله يا خوند ليعز علي ما نالك على يد ذلك السلطان الغاشم، وإني إلى ذلك لأعجب كيف رضي لك مماليك السلاطين الأربعة هذا الهوان، فلم يدفعوا عنك أذاه، ولم يحاولوا أن يأخذوا بثأرهم منه؟!
قالت ورفعت منديلها إلى عينيها تجفف عبرة: شكرا يا أمير، وإنها لمروءة أن تذكرني حين لا يذكرني أحد، وقد كان مماليك السلاطين أهلا لأن يدفعوا عني ويأخذوا بثأرهم، لولا ما بيني وبينهم من حجاب، ومن أين لي أن ألقى أحدا من أمرائهم فأتحدث إليه! فلولا أنك تذكرني لغاب عني أنني كنت يوما سلطانة وكانوا لي بطانة، وإني لأشتري قطرة من دم ذلك الباغي بكل ما أملك من مال. فقد نذرت نذرا أن أتخلق أنا وعيالي بدمه، بما أثكلني ورملني وأسخن عيني.
قال الغوري: أرجو أن تجدي وفاء نذرك يا خوند وتقري عينا؛ فقد آلمني وبلغ من نفسي مبلغا بعيدا أن يطيش ذلك السفاك حتى يسلط عليك زبانيته يستصفون مالك، فلا يتركون لك أبيض ولا أصفر.
ثم صمت برهة وعاد يقول والكلمات تتعثر على شفتيه: وإن علي دينا لأستاذي قايتباي ولك، يقتضيني أن أمد إليك يدي بما أملك من مال قليل، يكون لك عوضا مما انتهب هؤلاء اللصوص.
فابتسمت أصل باي وقالت مزهوة: وهل حسبتهم - كما زعموا وزعم الناس - قد أخذوا من مالي إلا قلامة ظفر! فالحمد لله على نعمته وشكرا لك.
وخرج الغوري من دارها تحت الليل كما دخل، وقد أيقن أن تحت لوائه منذ الليلة كل مماليك السلاطين الأربعة؛ لينالوا ثأرهم عند العادل طومان باي ...
ومضى جمادى ورجب وشعبان، والبذرة تستجمع لنفسها أسباب النماء والقوة في باطن الأرض، فما أهل هلال رمضان حتى نجم النبات واستطال، وامتدت فروعه إلى يمين وشمال، وحل الربيع - بعد شتاء عاصف - يجد الآمال ويوقظ الفتن النائمة، فلم يكن للسامرين في ليالي رمضان الضاحكة في نور الربيع ونواره إلا حديث واحد، يبدأ وينتهي عند اسم العادل طومان باي. واستطال الناس عهده وما استقر على عرشه ثلاثة أشهر ...
وأحس السلطان نذر الشر فراح يدبر أمره، ودعا الأمراء إليه فلم يجبه مجيب، فعول على خطة يخلص بها من الأمراء جميعا، ولم يوقظ فتنة، ولم يسفك دما.
العيد بعد غد، وسيجتمع الأمراء في المسجد يوم الفطر للصلاة، وهنالك ... هنالك يحيط بهم الجند فرادى، فيسوقونهم إلى حيث يلقون آخرتهم، ويخلص له العرش.
وجاءهم النبأ قبل أن تغرب شمس رمضان، فحشدوا الجند ووثبوا على القلعة قبل أن يأخذ السلطان أهبته!
وكما فر من قبل الظاهر قنصوه والأشرف جانبلاط، فر العادل طومان باي قبل أن يدركه هلال شوال وهو على العرش.
واجتمع الأمراء صبيحة يوم الفطر يداولون الرأي ويتساءلون بينهم: من ذا يلي العرش في هذه الفتنة إلا رجل عرك الدهر وخبر سياسة الدولة جيلا بعد جيل؟ من غير قنصوه الغوري؟
وتمنع الغوري وبكى وهو يقول: دعوني أقضي ما بقي من أيامي هادئا، لا تقدموا عنقي إلى الجلاد في مهرجان، فما هذا التاج الذي تضعونه على رأسي إلا غل تسوقون فيه رجلا منكم إلى الموت، بين عزف الموسيقى ونقر الدفوف.
قال الأمراء وقد نال منهم حديثه فأقبل منهم من كان معرضا، ومال إليه من كان مائلا عنه: ليس لها غيرك يا قنصوه، وكلنا جند من جندك!
وأقسموا له على الطاعة والولاء مخلصين.
وجلس قنصوه الغوري على العرش في يوم الفطر سنة 906 وعيدت المدينة عيدين.
وكان أرقم الرمال جالسا في ظل سرحته الفينانة من بساتين القبة حين جاءه النبأ، فقلب كفيه عجبا ودهشة وهو يقول: ما شئت يا رب لا ما شاء الناس، بيدي رفعت ذلك الثعلبان الشيخ إلى العرش، حين خيل إلي أنني قد وضعت في قفاه السيف، وبيدي قتلت قصروه الشهيد وخلعت العادل طومان باي.
ثم غاب في سبحة من سبحاته الخيالية مطوفا في الآفاق البعيدة، وتتابعت على خديه دموعه.
الفصل العشرون
تحت ظل العرش
قال خاير بك حاجب الحجاب لصاحبه خشقدم الرومي: أرأيت يا صديقي كيف تتقلب الأقدار؟ أفكنت تحسب يوما أن يبلغ ذلك الصبي حيث بلغ، وأن يرتفع به الحظ حتى يقع ظله على العرش، وأن يسلم له الزمام عمه السلطان الشيخ حتى لا رأي لأحد من الأمراء العظام فوق رأي طومان؟
فضحك خشقدم ساخرا وهو يقول: وأنت يا خاير بك حيث أنت، وأنا ... لو شاء ذلك الصبي لردنا إلى الرق بعد عتاق، أفرأيت كيف يصعر خده عابسا حين يرانا كأن لم يكن يوما ولم نكن!
قال خاير بك: ليس يعنيني عبوسه أو انبساطه، ولكني قد لحظت منذ قريب أن له عينا علي حيثما أذهب، وما أراه إلا يدبر لي شرا.
قال خشقدم: أما شره فلا تخف يا أمير، فما علمته ينبعث إلى الشر، وإنما هو عين وأذن ولسان، فإن كان قد جعل عليك عينا كما زعمت، فاحرص منذ اليوم على سرك قبل أن يعرف السلطان من خبرك ما تحرص على كتمانه.
قال خاير بك قلقا: ماذا قلت؟! أفتراه يختلف إلى بيت أقبردي الدوادار حينا بعد حين لمثل ذلك، وهو يزعم أن خوند مصرباي أخته وأنه لها أخ وجار؟!
قال خشقدم الرومي: أما في بيت أقبردي فلا، فليهدأ بالك يا أمير، ولكن له هناك أمنية يتطلع إليها منذ بعيد ...
فابتسم خاير بك وقال: تعني شهددار بنت أقبردي؟
قال خشقدم: نعم، ولكنه لن ينالها، فقد أجمع السلطان على أن يزوجه ابنته جان سكر، وما أظنه يغفر له لو عرف أن له هوى هنالك، فإن شئت يا أمير فقد عرفت من أين تناله.
فسرحت نظرة خاير بك إلى بعيد وهز رأسه وهو يردد في صوت خافت: نعم، نعم قد عرفت!
ثبتت قوائم عرش السلطان في مصر بعد اضطرام دام سنين، منذ مات السلطان قايتباي، واستقر الغوري على عرشه هادئا راضي النفس قد أمن ظهره، فليس بين أمراء المماليك اليوم أمير واحد يزعم لنفسه أو لأحد ممن حوله أنه أولى بها من ذلك السلطان الشيخ، وقد تفانى الأمراء العظام ومات بعضهم بأيدي بعض ...
على أن طائفة من الأمراء الشبان كانت أنفسهم تنازعهم إلى لون من المجد والجاه، ولكنها لم تكن تبلغ بهم مبلغ الأمل القريب في عرش السلطان الشيخ إلا أن يموت حتف أنفه، وكان السلطان الغوري رجلا من ذوي الرأي والحيلة، له تدبير وكيد، وقد سلخ ما مضى من عمره لا يفكر إلا في الوسيلة التي يبلغ بها العرش، فلما بلغ لم يكن له فكر إلا في الوسيلة التي تحفظ له هذا العرش، ما عاش ليجعله من بعده ميراثا لولده، فغفل عن كل تدبير إلا ما كان سببا إلى هذه الغاية، فلم يكد يحكم حتى كان من أول همه التخلص من أعدائه، يغري بعضهم ببعض ليخلص منهم جميعا، ولم يسفك دما أو يؤرث بغضاء، ثم جد في طلب السلطان المخلوع، حتى ظفر به فأسلمه إلى أعدائه يأخذون منه بثأرهم. وتخلقت أصل باي بدمه وتخلق عيالها، وهيأ لها السلطان الوفاء بذلك النذر.
ولم يكن به شره إلى المال، ولكنه أيقن أن المال هو الوسيلة إلى استبقاء العرش، فكان كل تدبيره من بعد ليجمع ما يقدر عليه من المال بكل ما يملك من أسباب، ولم يبق في ذلك ممكنا إلا استعان به، حتى اتجر في الغذاء والكساء، واتجر في وظائف الدولة، واحتكر أنواعا من المتاجر لا تباع ولا تشترى إلا من بابه. وسار الموظفون على نهج السلطان، فاتجروا واحتكروا، وفرضوا الضرائب لأنفسهم على الناس باسم السلطان، له منها نصيب ولهم نصيب، وليس يعنيه شيء مما يصيب الشعب من وراء ذلك ما دامت خزانته عامرة بالمال، واتخذ من أعوانه في تقدير الضرائب وتحصيل المال طائفة من ذوي الرأي والحيلة، أو ذوي الغلظة والعنفوان، فيهم جاني باي الأستادار، وفيهم علي بن أبي الجود بياع الحلوى والمشبك عند حمام شيخو كان.
وجعل همه إلى زيادة مماليكه الخاصة؛ ليكون له منهم جيش يحميه ويدفع عنه، حتى بلغ عدد مماليكه الخاصة في طباق القلعة ألفا ومائتين، غير مماليك الأمراء والوزراء وأصحاب الوظائف، ينفق عليهم جميعا من مال الدولة ويحتظيهم ويمكن لهم، على حين ترك القرانصة من مماليك السلاطين السابقين لا يجدون ما ينفقون، وانتزع ما كان بأيدي أولاد الناس - ذراري الأمراء السابقين - من إقطاعات خلفها لهم آباؤهم؛ ليهبها لمماليكه الخاصة أو يضمها إلى ملكه ...
وضاق الشعب بما يحمل من عبء الضرائب وعسف المماليك الخاصة.
وثار القرانصة لإيثار الجلبان عليهم بالخير والنعماء.
وغضب أولاد الناس لهوانهم بعد عزة وفقرهم بعد غنى.
ورآها العربان وفتيان الزعر فرصة سانحة للشغب وإثارة الفتنة؛ ليفسدوا على هؤلاء الجراكسة أمرهم، وينالوا الثأر من حكومة المماليك.
رجل واحد كان يحمل هم ذلك كله على كتفيه، فلولا أنه صديق الشعب والقرانصة وأولاد الناس، ولولا إحسانه وبره وتواضعه ورقة قلبه، ولولا أنه صوفي بين المتصوفة، وفتى بين فتيان الزعر، وأعرابي بين الأعراب، ولولا أنه سفير هؤلاء جميعا إلى السلطان، وسفير السلطان إليهم، ولولا أن له عينا ترى، وأذنا تسمع، وقلبا يحس ويدا تعطي، ولسانا يبين، لانتقض غزل السلطان الغوري ولم يبلغ تمام أمره، ذلك هو الأمير طومان باي، وإنه يومئذ لشاب لم يبلغ الثلاثين ...
على أن ذلك الأمير الشاب - على ما يحمل من أعباء هذه الهموم جميعا - كان ينوء بهم آخر من هموم نفسه، يجثم على صدره كالجبل الراسخ في موضعه لا يتحلحل، ذلك هو همه وهم شهددار.
يا له مما يلاقي من ذلك الهوى!
منذ بضع سنين لم يزل يحمل من حب تلك الفتاة ما يحمل صابرا ينتظر فرجة من أمل، وبصيصا من نور، وقد خيل إليه ذات يوم أنه مستطيع أن يظفر برضا عمه عن زواجه ببنت أقبردي، وماذا يمنعه من ذلك وقد مات أقبردي، فانقطع ما بينه وبين الأحياء من أسباب العداوة، وقد بلغ الغوري حيث أراد وولي العرش، فليس بينه وبين ذلك الماضي سبب ولا وشيجة من حب أو من بغضاء، فهل يأبى اليوم أن يحقق أملا لابن أخيه وأحب الأمراء إليه؟
وهم أن يتحدث إلى عمه بما أراد حين ابتدره عمه قائلا: طومان، لقد أبليت بلاءك يا بني في تثبيت قوائم هذا العرش، فأنت حقيق بأن تبلغ مني أدنى منزلة، وقد اخترتك لابنتي جان سكر، فهي مسماة عليك منذ اليوم ... فإن شئت فليكن زفافها إليك بعد أن يقدم الحاج في المحرم، أو لا فليكن ذلك في يوم عرفة قبل أن يشتد القيظ.
فنكس طومان باي رأسه بين الخجل والحيرة، وقال وصوته لا يكاد يبلغ أذنيه: مولاي!
فابتسم الغوري ابتسامة ماكرة وهو يقول: عرفت يا بني ما في نفسك، فما بك من حاجة إلى أن تشكر، وإنك لولدي ومن حقك علي أن أختار لك، وما كانت نفسي لتطيب بها لأحد غيرك.
فرفع طومان باي عينيه برهة في وجه عمه، ثم أطرق صامتا وصدره يكاد ينشق غيظا مما به. «ما به حاجة إلى أن يشكر!» عجبا! أفتراه كان يريد أن يقول له: «إنك لا تملك معي إلا الرضا والطاعة، فليس من حقك أن تأبى!» ولكنه اصطنع أسلوبه في السياسة فأبدل عبارة بعبارة؟ وهل كان الغوري يجهل ما في نفس طومان باي وما أجمع نيته عليه؟ ولكن ماذا يملك طومان باي الآن إلا أن يطأطئ رأسه في صمت وصدره يكاد ينشق غيظا مما به؟!
يا له مما يلاقي! ويا لشهددار!
وشاع في القصر ما كان من خبر طومان باي وبنت السلطان، وعرف كل مملوك في القصر وكل جارية أن جان سكر بنت السلطان هي منذ اليوم خطيبة طومان باي ... وعرف خشقدم الرومي عتيق السلطان.
وذاع الخبر حتى بلغ شهددار، فأوت إلى مقصورتها تبكي في صمت، ويئست بعد أمل، فأسلمها اليأس إلى الهم، فأسلمها الهم إلى فراش الضنى ... وما كان لشهددار أن تسترسل في أحلامها بعد ما كان؛ فإن طومان باي منذ اليوم صهر السلطان، وما كان له أن يروع بنت السلطان بضرة، وأن تكون هذه الضرة هي بنت أقبردي الدوادار ...
وقال خوند مصرباي لصديقها خاير بك: لقد كنت أتوقع أن يكون مثل هذا، ولكن من يدري! فقد يجمع الله الشتيتين ...
فزفر خاير بك زفرة عميقة وهو يقول: نعم ...
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
ذلك كل ما أهتف به من الشعر في خلواتي يا مصرباي، فهل تهتفين به في خلواتك؟
فاستضحكت ثم قالت وقد برقت عيناها بريقا خاطفا، وافتر ثغرها عن ثنايا كاللؤلؤ الرطب: لا يا صديقي، وماذا يدعوني إلى الظن بألا تلاقي؟
لقد تعودت أن أتمنى فأجد، وإنما أتغنى في خلواتي بشعر الشاعر:
فيا رب كل اثنين بينهما هوى
من الناس والأنعام يلتقيان
فيقضي حبيب من حبيب لبانة
ويرعاهما ربي فلا يريان
ومست ألحان مصر باي قلب خاير بك، فمال نحوها يقول: وماذا يكون إن رئيا يا مصرباي؟
ومد إليها يدا، فكفته وهي تقول: الحفاظ والمروءة يا خاير ... ألا يراهما ذو عينين.
وأخذا في حديث طويل، فلولا أن بين خاير بك وصديقه خشقدم الرومي موعدا قد أزف، لظل يحدث صاحبته ويستمع إليها حتى الصباح.
لم يفارق خشقدم الرومي سيده الغوري منذ دخل في رقه، فعاد معه من حلب إلى القاهرة عزيزا مكرما، ولم يطل عهده في الرق، فقد أعتقه مولاه ووهب له خيلا ومالا وجعله في بطانته، ولم يأله منذ كان إكراما وبرا، فهيأ له أسباب الإمارة، وزوجه بنت جاني باي الأستادار، وأقطعه دارا، وأجرى له رزقا، واعتده من خاصة مماليكه، ولكن خشقدم مع كل ذلك لم ينس أنه رومي بين الجراكسة، وأنه كان يوما ما رفيقا لطومان باي، ذلك الجركسي الشاب الذي يهتف اليوم باسمه الأمراء والسوقة، وينفذ أمره في القصر وفي الديوان ... ولم يزل خشقدم حيث كان: عتيقا ليس له إقطاع ولا إمارة! «لماذا تفاوتت المقادير بينهما هذا التفاوت البعيد؟ ألأنه ابن أخي الغوري فيما يزعم؟ وما هذا في دولة المماليك ؟ أترى أولئك الذين يتأمرون منهم ويحكمون، قد بلغوا مرتبة الحكم والإمارة لأن آباءهم كانوا من الأمراء أو من السلاطين؟ فمالهم يجعلون الأنساب سببا لغير مسبب، ودستور هذه الدولة إنما يقوم على حق «المملوكية» لا على الأنساب؟ ...»
كذلك كان خشقدم يدير هذه الأسئلة بينه وبين نفسه حينا بعد حين، فلم تلبث المنافسة بينه وبين طومان باي أن انقلبت إلى حسد، وتطور الحسد فإذا هو حقد وضغينة، وتضاعف الحقد حتى صار هما مقيما مقعدا، كأن له عند طومان باي ثأرا يطلبه، فلا يزال يتحين له الفرصة ليبلغ منه مبلغه.
ودارت المقادير بخشقدم في فلكها الدائر، فإذا هو يلقى خاير بن ملباي ذات يوم وجها لوجه، وما التقيا قط منذ افترقا في حلب منذ بضع عشرة سنة، فما كادا يلتقيان حتى ألف بينهما هوى مشترك، فلم يلتقيا بعدها إلا على ميعاد.
الفصل الحادي والعشرون
بأي أرض تموت!
قالت أم السعد لأختها جليلة وقد قصدت إليها تزورها في دار زوجها بالشرابشيين: هنيئا لك يا جليلة، فقد والله انشرح صدري لمرأى دارك هذه في رونقها الجديد، إنها لتبدو للعين كأنها دار جديدة غير تلك الدار، التي كانت في ذلك الزقاق الخرب كجحر الضب؛ فإنها اليوم لتشرف على الطريق السلطاني، قد تخللها الهواء والنور من جميع جهاتها، وانبسط بين يديها الفضاء، فلولا أنني دخلت حجراتها ورأيت ما فيها من الأثاث ورأيتك أنت، لحسبتها دارا غير دارك تلك!
قالت جليلة باسمة: كذلك يقول زوجي، أما أنا فلم أخرج إلى الطرق منذ خرجت دارنا هذه إلى الطريق، وانهدم ما بين يديها من دور الناس، فلم أر منها إلا ما كنت أرى وهي في ذلك الزقاق، ولكنني أرى ما بين يديها من الفضاء حين أطل من شرفتها، وأرى هؤلاء الفعلة والبنائين يبنون جامع السلطان ...
قالت أم السعد وقد نهضت إلى الشرفة لترى ما تصف أختها: والله لقد اختار السلطان الغوري فأحسن الاختيار، حين خط مسجده ومدرسته في هذا الحي، واختار الله لك حين هدم ما بين يدي هذه الدار من بيوت الناس، فأخرجك من ذلك الزقاق الخرب إلى الطريق السلطاني ...
قالت جليلة وفي صوتها رقة وعطف: اسكتي بالله يا أم السعد ولا تثيري أشجاني، فهل كان ما كان من ذلك إلا على حساب البائسين من أهل ذلك الزقاق، الذين انهدمت دورهم فأصبحوا ولا مأوى لهم؛ ليتهيأ للسلطان أن يوسع مدرسته ومسجده ويشرع هذا الطريق! وماذا ينفعه المسجد والمدرسة أو يدفعان عنه من غضب الله، وقد شرد الناس وأخرب بيوتهم، وفضحهم وكانوا في ستر وتصون! ثم ماذا أجدى علينا ذلك إلا الحسد وعيون الناس، ثم هذه الضريبة التي فرضها علينا علي بن أبي الجود؛ لأن دارنا قد برزت من جحرها إلى الطريق السلطاني، وكنا والله من ذلك الجحر في نعمة!
قالت أم السعد منكرة: يا أخية! إنك لا تشكرين النعمة أبدا، ولو قد رأيت دارك اليوم حين يترامى إليها النظر من بعيد مجصصة مبيضة كدور بعض الأمراء، لعرفت قدر النعمة وشكرت!
قالت أختها: مبيضة مجصصة يترامى إليها النظر من بعيد! ليتك تعرفين مقدار ما تكلفنا من الجهد والمال في تجصيصها وتبييض وجهها طاعة لأمر السلطان، لقد أنفقنا في ذلك يا أختي ما لا طاقة لنا به، ولو كان الأمر بيدنا ما جصصنا ولا بيضنا، ولكان عندنا اليوم ما ننفق ... وتلك الأنظار التي تترامى إلى دارنا من بعيد، قد حرمت علي أن أقف إلى هذه الشرفة برهة لأتروح مما بي من الهم ... ادخلي يا أم السعد، إن عينين تنظران نحونا وأخاف أن يرانا أحد في الشرفة أو يعرف زوجي، وإنه كما تعلمين لغيور ...
وكان البناءون دائبين في عملهم، والفعلة طالعين ونازلين على تلك المصاعد الخشبية المشدودة إلى الحيطان، يحملون الآجر والحجر وهم يغنون أغنياتهم، يستعينون بالغناء على ما يجدون من عناء العمل الشاق، وقد ارتفع البناء واستطال وبدا المسجد لعيني من يراه - وإن لم يتم تمامه بعد - آية من آيات الغوري يجري حديثها على كل لسان ...
وجلست الأختان في بهو الدار تتمان ما بدأتا من الحديث.
قالت أم السعد: فكيف صنعت خالتي أم أيوب وقد انهدم نصف دارها، وانكشف سائر ما فيها لعيون الناس؟
قالت جليلة: اسكتي بالله يا أختي فإنني أريد أن أنسى ... لم يبق لنا بعد خالتي أم أيوب جارة ولا جار ... وقد ذهبت أم أيوب تحمل على رأسها أنقاض دارها، وتجر وراءها سلسلة من الأحزان، فلم يبق منها إلا ذكرى!
قالت أم السعد: فأين ذهبت؟
قالت جليلة وقد برقت في عينيها دمعة: ذهبت إلى الله وهي تتمتم بدعاء على السلطان لم تسمعه أذنان؛ فإن علي بن أبي الجود لم يدعها لما نابها، وقد انهدم نصف دارها وانكشف سترها للناس، فجاء عامله ليجبي منها الضريبة السلطانية، ومن أين لها أن تدفع الضريبة وهي لا تملك ما تتبلغ به؟! ولكن الجابي لم يرفق بها وإنها لعجوز كجدته، فشد وثاقها وساقها إلى الحبس، فلم يطلقها إلا حين استوفى الضريبة ببيع ما بقي من الدار. وخرجت المسكينة من محبسها لترى نصف دارها في الطريق، ونصفها في يد مالك جديد ... واختار الله لها وسترها فانتقلت إلى الدار الآخرة ... وعلى شفتيها دعاء لم تسمعه أذنان!
مصت أم السعد شفتيها محزونة وهي تقول: مسكينة! اللهم احفظنا يا رب!
وسمع نقر على الباب، فخفت إليه جليلة لتفتحه فتستقبل زوجها عز الدين، وكان عز الدين هذا تاجرا يبيع طرائف الثياب وألوان القز، قد اتخذ متجره في سوق مرجوش على بعد قريب من داره، ولم يكن يدخر مالا، فلولا أنه لا ولد له ولا يعول إلا زوجه لضاق به العيش، على أنه لم ير قط إلا ضاحك السن وعلى وجهه مسحة الرضا والقناعة، ولكنه في هذا المساء قد عاد إلى داره عابسا مطبق الشفتين، فحيا وجلس بين زوجته وأختها، فلولا حق هذه الضيفة عليه لظل مطبق الشفتين في مجلسه لا ينبس بحرف.
قالت أم السعد وقد أنكرت هيئته تريد أن تحمله على الحديث: هنيئا لك الدار والجار يا عز الدين!
فابتسم عز الدين بعد عبوس وقال: أما الدار فليست جديدة علي، وأما الجار فلست أدري ما تعنين يا أم السعد، إلا أن يكون قصدك هذا المسجد الحرام!
وضحك، وضحكت زوجه، وابتسمت أم السعد وهي تقول: المسجد الحرام!
قال ولم يزل يضحك: نعم، إنه المسجد الحرام من دون مساجد المسلمين جميعا، فقد أسس على الظلم والغصب، ونهب أموال الناس، وترويع الآمنين، وماذا يكون الحرام إلا ذلك؟
قالت أم السعد: إن لسانك لا يطاق يا عز الدين، أفلا تشكر للسلطان أن بني مسجده ومدرسته هذين لتكون له جارا؟!
قال: والله لقد كان جوار أم أيوب ومختص الطواشي أحب إلي من جوار هذا السلطان، أما أم أيوب فقد أخرب دارها وتركها تلفظ آخر أنفاسها على الطريق، وأما مختص الطواشي فقد أعجب السلطان مسجده الصغير الذي بناه بالمال الحلال ليكون فيه مدفنه حين يموت، فاغتصبه وأوسعه مما حوله من بيوت الناس وبناه مسجدا باسمه، وشق لنفسه فيه ضريحا يدفن فيه إذا حان الأجل، مكان الضريح الذي كان يريده مختص الطواشي لرمته، كأنما حسده السلطان على مكانه ميتا، وكان خليقا أن يحسده على مكانته في الآخرة لا في القبر!
ومصت أم السعد شفتيها ثانية وهي تقول: مسكين! حتى على القبر!
قال عز الدين: ليس مسكينا، فقد نفاه السلطان إلى مكة، فلعله أن يجد - حين يموت - في تلك الأرض الطاهرة مدفنا يضم رفاته خيرا من مدفنه هنا في أرض الفساد والرجس!
ثم أردف ضاحكا: وقد سمعته بأذني وهو في طريقه إلى منفاه، يدعوه الله ألا يجعل للغوري في بطنها مدفنا يزار، ولعل الله أن يستجيب له، وما تدري نفس بأي أرض تموت!
قالت امرأته وهي تهز كتفها: وأين يدفن الموتى إلا في بطن الأرض، أيخطفه طير الجو أو تبتلعه سمكة في جوف البحر؟
قال عز الدين جادا: اسكتي يا جليلة، إنها دعوة مظلوم!
وسكت برهة وهو يحدق بعينيه مفكرا، ثم أطرق وهو يهمس وقد بدا في وجهه الهم: كم يدعو مظلومون ولا يستجيب الله!
وسمعته زوجته فصاحت به منكرة: ماذا قلت يا عز الدين! ...
ثم استدركت وقالت بلطف: ماذا بك اليوم فإن على وجهك سحابة هم، أليس يسرك أن ترى أختي؟
وخجل عز الدين فرفع رأسه وأقبل على أم السعد باسما وهو يقول مازحا في تكلف: ليتك يا أم السعد ذات ولد!
وكانت أم السعد عقيما كأختها، فقالت متظاهرة بالرضا: وما حاجتي إلى الولد وإنه لمشغلة وهم، وما رأيت أما شاكرة ...
قال وقد زادت ابتسامته: نعم، ولكن الناس جميعا يطلبون السعد ...
قالت وقد فهمت ما يعنيه وغلبها الضحك: ولكن السعد ما نحن فيه يا عز الدين، ولو كانت الأسماء على مسمياتها ...
فقاطعتها زوجته قائلة: لو كانت الأسماء على مسمياتها لكنت عزا للدين، أو لكان اسمك اليوم عباس!
قال الرجل ضاحكا: نعم، ولكان اسم علي بن أبي الجود: خراب الديار!
وأمسكت المرأتان عما كانتا فيه من الحديث حين جاء ذكر علي بن أبي الجود، وأوشكتا معا أن تعرفا لماذا كان عز الدين اليوم على غير ما يعهدان فيه من البشر والطلاقة، فما أذكره الساعة علي بن أبي الجود إلا شر عظيم. وأي الناس في القاهرة قد سلم من عسف علي بن أبي الجود، حتى لكأنه شريك كل ذي مال في ماله، يقاسمه ما يملك باسم السلطان، ثم يعود فيقاسمه ما بقي، ثم يعود ... ويسمي ذلك ضرائب لبيت المال، وما هو إلا السلب والنهب والطمع فيما في أيدي الناس!
قالت زوجته مشفقة: فما لك ولعلي بن أبي الجود اليوم؟
قال: بل اسألي: ما له ولي! فلا يزال عماله يطلبونني بما لا حق لهم فيه، حتى لقد أوشك متجري أن يخرب كما خربت متاجر، وكم يدعو الله مظلومون ولا يستجاب لهم!
قالت زوجته مستنكرة: أف! الفقر ولا الكفر يا عز الدين، إن الله يمهل ولا يهمل!
ثم نهضت لتهيئ العشاء!
وقال الرجل وهو يدير عينيه بين ألوان الطعام: هلا بعثت يا جليلة فاشتريت بعض ما يبيع مماليك السلطان عند باب القلعة من زبادي اللحم، ورقائق الخبز التي تفضل عن حاجتهم من أرزاق السلطان؛ احتفالا بزيارة أم السعد؟
قالت زوجته: وهل حسبت يا عز الدين أن السلطان في هذه الأيام يصرف لمماليكه من الرزق زبادي لحم أو رقائق خبز تفضل عن حاجتهم فيبيعونها؟! هيهات! قد كان ذلك في عهد مضى، فإن مماليك السلطان اليوم ليأكلون أرزاق الناس!
الفصل الثاني والعشرون
شعب وحكومة
كان بدر الدين بن مزهر الأنصاري سيدا من سادات المصريين وذوي الجاه فيهم، وقد تولى - كما تولى آباؤه من قبله - عدة وظائف سنية لعديد من السلاطين، فكان ناظر الخاص، ومحتسبا، وكاتب سر، وهي وظائف تداني مرتبة الوزارة في نظام الحكومة لذلك العهد، وكانت تربطه ببعض أمراء المماليك صلات من المصاهرة جعلته قريب المنزلة من ذوي السلطان، وكان إلى كل ذلك مليحا وسيما، عريق النسب، كثير المال والنشب، عربي الوجه واليد واللسان، فبلغ بذلك كله منزلة من المجد لم يبلغها مصري في ذلك العهد ... وكانت داره في بركة الرطلي ملتقى الصفوة من الرؤساء والأعيان، وأمراء المماليك وأصحاب الوظائف وقادة الجند.
وكانت الإمبراطورية المصرية لذلك العهد مبسوطة الرقعة بين بلاد الروم وصحراء ليبيا شرقا وغربا، ومن حدود اليمن على ساحل بحر الهند إلى سواحل بحر الروم جنوبا وشمالا، وكانت تنعم باستقلال تام وحرية كاملة، فليس لدولة من دول الشرق أو الغرب عليها سيادة أو سلطان، فهي سيدة نفسها وسيدة ما يليها من البلاد، لا تصدر ولا ترد إلا عن رأي حكومتها المركزية في القاهرة، وقد تعاور عرشها طوائف من الملوك والسلاطين، فيهم الترك من بني طولون وبني الإخشيد، وفيهم العرب من خلفاء العبيدين الفاطميين، وفيهم الكرد من بني أيوب، وفيهم هؤلاء المماليك. ولكن هذه الإمبراطورية - على اختلاف أجناس الأسر الملوكية التي تعاقبت على عرشها - لم تدخل تحت سيادة دولة أجنبية قط، منذ استقل بها عن الدولة العباسية أحمد بن طولون في القرن الثالث ...
على أن المصريين في هذا العهد الذي نقص من تاريخه، لم يكونوا راضين عن نظام حكومة الجراكسة رضا يفرض عليهم لها الطاعة والولاء؛ فقد ضاقوا بما يحملون من مظالم المماليك ضيقا شديدا، فإنهم ليتمنون - لو استطاعوا - أن يخلعوا عن أعناقهم إصر هؤلاء السلاطين الذين يتوارثون عرش مصر سلطانا بعد سلطان، منذ ثلاثة قرون أو قريب من ذلك، فلم يعدلوا في الحكومة، ولم يقسموا بالسوية، ولم يحققوا للشعب معنى من معاني الحرية والإخاء، أو يهيئوا له عيشة ناعمة رخية، وإنما كان كل همهم أن ينعموا بحياة مترفة قد بلغت الغاية من البذخ والرفاهية، والشعب يعاني ما يعاني من ألوان الحرمان والمذلة، ويقاسي آلام المرض والعري والجوع. بلى، قد حفظ أولئك السلاطين لمصر هيبتها بين دول الشرق والغرب، وصانوا لها حريتها واستقلالها، ولكن ما جدوى الحرية والاستقلال إذا لم يكن أفراد الشعب أحرارا مستقلين في ذات أنفسهم، لهم رأي واعتبار ومشاركة في الحكم، ولهم حق المحكومين على الحكام في أن يهيئوا لهم حياة إنسانية كريمة؟
ما جدوى الحرية والاستقلال إذا لم يحس كل فرد في الدولة المستقلة الحرة أنه مستقل حر؟
كانت هذه الخواطر تلم بقلوب المصريين، فيسرونها حينا ويجهرون بها حينا آخر، ولم تكن عصائب فتيان الزعر، أو غارات الأعراب المتوالية على حدود المدن، إلا تعبيرا صامتا عن تلك العاطفة التي تغلي بها نفوس المصريين على اختلاف عناصرهم، كما يغلي الماء في القدر فيترشش على حافة الوعاء!
وكانت الأعوام التي تلت عهد قايتباي - بما ثار فيها من الفتن، وما سفك من الدم، وما كان بين الأمراء من الحرب - سببا إلى انتعاش آمال المصريين في حكومة مصرية خالصة تنقذهم من جور هذه الأسرة المالكة التي لا يجمعها نسب، ولا تربطها أبوة، وليس بينها إلا آصرة المملوكية التي نزحت بهم راضين أو كارهين من بلادهم وراء جبال القبج؛ ليتوارثوا عرش مصر.
وكان السلطان الغوري سعيدا بما بلغ من آماله حين رأى نفسه سلطانا على العرش، وقد تفانى الأمراء العظام فأمن غدرتهم، ولكن المصريين - على ما بهم من الضيق والضجر - كانوا أسعد منه بهذه الحال، فقد انكسرت شوكة الجركس وانحلت عروتهم، فلم يبق منهم ذو قوة إلا السلطان الشيخ وإنه لهامة اليوم أو غد!
وفي دار بدر الدين بن مزهر في بركة الرطلي، كانت تتوالى اجتماعات المصريين ليدبروا أمرهم ، وكان يشهد اجتماعهم أحيانا أمراء من المماليك الطامحين أو الساخطين، يأملون أن يكون لهم نصيب من غنائم المعركة حين تنشب المعركة، أو يطمعون في إدراك ثأر ... لا يكادون يدركون أنهم يعينون على أنفسهم حين يعينون على إخوانهم من الجركس!
كان ذلك في القاهرة، أما في مضارب الأعراب بين الشرقية وقليوب، فكانت تتوالى اجتماعات أخرى في دار ابن أبي الشوارب، يشهدها زعماء القبائل العربية الضاربة في الشرقية والبحيرة وبوادي الصعيد ... وإن لهم - كأولئك - أصدقاءهم من أمراء المماليك.
والغوري مشغول عن كل أولئك بما يجمع من المال بالمصادرة والتعذيب وكبس البيوت، وبما يحشد من المماليك الجلبان في طباق القلعة، وبما اجتمع له من أسباب الرفاهية والنعمة، التي لم ينعم بمثلها سلطان من سلاطين الجركس، حتى كانت أدوات المطبخ تصاغ من خالص الذهب والفضة ...
والأمير طومان باي يرى ويسمع ما يجري من الأحداث والأحاديث في المدينة، ويشارك فيما يتمتع به السلطان من ألوان النعيم في قصر القلعة، ولكن له مع ذلك همومه الخاصة قد أقفل عليها صدره وأمسك لسانه، فلم يطلع على غيبة أحد؛ فهو موزع القلب بين أسباب الهوى وتقاليد الإمارة وفضول الشباب ...
إنه ليود أن يجلس إلى عمه فيتحدث إليه حديثا صريحا ويفضي بما يحتقب من أسرار، لعله أن يطأطئ رأسه فيرى تلك الهاوية تحت قدميه ... ولكن من أين له؟! إنه متهم عند عمه بحب شهددار بنت أقبردي فلن يستمع إليه، وهل يفرغ العاشق لغير حديث الهوى والشباب؟ هل يحسن شيئا من أسباب السياسة وتدبير شئون الملك، وإن العشق لمذلة وهوان! كذلك يراه عمه السلطان!
وابتسم طومان باي ساخرا على ما به من الألم والضيق، أفيمتنع أن يكون الفتى عاشقا وطالب مجد؟ وماذا يمنع؟ إن العاشق ليرقى أحيانا إلى أسباب المجد على معراج من شعاع عيني معشوقته، بل إنه ليمتنع أن يعشق الفتى النبيل، ولا يطلب أسباب العلاء والمجد. ولكن من أين للغوري الشيخ أن يدرك هذه الحقيقة؟! من أين له وهو أبو جان سكر التي يريد أن تكون هي لا غيرها معشوقة طومان باي؟!
وابتسم طومان باي ابتسامة أخرى ساخرة ... ولكن من نفسه، إنه هو الذي رضي لنفسه أن يكون من عمه بهذا المكان، لو شاء لأبى وأسرع عجلان إلى بيت صاحبته شهددار ليقول لها: إنك أنت وحدك لي ولو غضب السلطان.
ما هذا؟ ... فيم يفكر الساعة وإن الأمر لأجل وأخطر من أن يشتغل عنه بمثل هذه الخواطر، إن لحديث الحب ساعة أخرى، أما الآن ... أما الآن فإن عليه فرضا آخر؛ ليدرك هذا العرش قبل أن ينهار ... - عمي! - ماذا يا طومان؟ - إن لي إليك حديثا، فهلا فسحت صدرك لي! - حديث جد يا طومان أم حديث دعابة؟
عبس الفتى وهم أن يجيب جوابه، ثم عض على شفتيه واستدرك قائلا في وقار: حديث جد كله يا مولاي، فهل عرفت يا عم ما يتحدث به الناس في القاهرة عن علي بن أبي الجود، ذلك السوقي الذي أسلمت إليه الزمام وأطلقته يعيث باسمك في بيوت الناس؟! - لا تزال يا طومان تقسو على ذلك المصري الذي يخلص في خدمتنا ما لا يخلص أبناء الجركس، فهل علمت أنني إنما احتظيته وأدنيته لأتألف به من وراءه من المصريين؟ - علمت، ولكنه سوقي لا يعرف قدر ما أنعمت به عليه يا مولاي، فهو لا يرى هذه الوظيفة التي أسندتها إليه إلا سببا إلى البغي والتسلط والبطش؛ ليجمع لنفسه ما يجمع من المال، فليس يرى نفسه بين المصريين مصريا منهم، بل سيدا قد سلط على عبيد لا تساس إلا بالسوط، كأن لم يكن يوما بياع الحلواء والمشبك عند حمام شيخو ... بل لعله يزعم أن هذه الوظيفة التي يتولاها من قبلك هي من بعض ديونه عليك، وإن له عليك ديونا ... فيما يزعم لنفسه، وفيما يسر إلى أصدقائه من الحديث!
قال الغوري غاضبا: ماذا تقول يا طومان؟!
أجاب طومان هادئا: ذلك بعض ما سمعت من حديث الناس في المدينة، وقد أطلقت يده يا مولاي فيما يفرض على الناس من الضرائب وما يحصل؛ فإن له على كل تاجر ضريبة الجمعة، وضريبة الشهر، وضريبة السنة ، يقتضي كل أولئك سلفا قبل موعده، كأن له على الناس ديونا أخرى كديونه عليك، حتى أوشكت أن تخرب أسواق القاهرة، وتخلو من الباعة والمشترين، فاحسب يا مولاي ما يدخل خزانتك من هذا كله وما يحتجزه لنفسه! إن له المغنم من ذلك كله وعليك وحدك دعاء الناس!
قال السلطان منزعجا: يدعون علي؟ وماذا صنعت بهم، ومن أجل حمايتهم من العدو الطارق أجمع هذا المال؟! أفلم يأتهم نبأ ابن عثمان الذي يتربص بنا على الحدود؟ أم لا يعرفون ما نبذل من المال لحماية سواحل بحر الهند من غارات لصوص البحر من البنادقة والفرنجة، أم لم يشهدوا ما أنشأنا في القاهرة من المساجد والمدارس، وما بنينا على الثغور من القلاع والبروج، أم لم يروا هذه المنشآت التي جملنا بها القاهرة، حتى صارت زينة الحواضر في الدنيا وقصدها القصاد من كل فجاج الأرض؛ ليروا بأعينهم ثم يعودوا إلى بلادهم فيتحدثوا بما رأوا ليكبتوا الأعداء ويفلوا عزائمهم فلا يستخفهم الطمع فينا، أم لم يشهدوا ما حشدنا من المماليك في طباق القلعة ليكون لمصر جيش قاهر لا يثبت له عدو في الهجوم ولا في الدفاع ... فمن أين لنا أن نقوم بذلك كله إلا من المال الذي يدفعه ذلك الشعب؟!
هز طومان رأسه موافقا، ثم قال: كل ذلك قد رآه المصريون بأعينهم وعرفوه وشهدوا آثاره، ولكنهم يطلبون الغذاء والكساء والمأوى والأمان يا مولاي، فلا عليهم إن أنكرت أعينهم كل ما ترى؛ لأنهم جياع عراة، لا مأوى لهم ولا أمان من بطش عمال السلطان، ولقد كان في طوقهم أن يشبعوا من جوع ويكتسوا من عري، ويأووا إلى دار الطمأنينة والسلام، لو أن عمال السلطان اقتصروا فيما يجبون من الضرائب على ما يدفعون إلى خزانة السلطان، ولكن عمال السلطان لا يقنعون؛ فإن الذهب والفضة ليملآن حجرات بيوتهم مما جمعوا بالقهر والبطش والتعذيب باسم السلطان، فهل جاءك يا مولاي أن علي بن أبي الجود اليوم يملك مئات الآلاف يختزنها في القدور، فلو شاء لاشترى العرش بماله وعاش سلطانا، وكان - لولاك - حتى اليوم سوقيا يبيع الحلواء والمشبك في دكانه عند حمام شيخو، وهو مع ذلك لا يستحي أن يتحدث مباهيا بأن له دينا على السلطان؟!
قال السلطان مغيظا: ماذا قلت؟! علي بن أبي الجود يملك مئات الألوف يختزنها في القدور؟! - نعم يا مولاي، ولو شئت لرد إلى الناس ما اغتال من أموالهم!
دار رأس الغوري فنسي كل ما سمع من حديث طومان، فلم يبق منه في أذنيه إلا أن عامله علي بن أبي الجود يملك مئات الألوف يختزنها في قدور، فسالت نفسه طمعا وأرسل يدعوه إليه.
ومثل ابن أبي الجود بين يديه، فسأله أن يدفع إلى خزانة السلطان ثلاثمائة ألف دينار من ماله.
قال علي بن أبي الجود معتذرا: يا مولاي! ...
قال الغوري غاضبا: هو ما قلت، فإما دفعتها، وإما شنقتك على باب زويلة!
وسيق علي بن أبي الجود إلى السجن حتى يفي بما فرض عليه السلطان، وبيعت وظيفته بمال، وتعهد مشتريها أن يكون أكثر وفاء من سلفه، فيحمل إلى خزانة السلطان ضعف ما كان يجبيه علي بن أبي الجود، وزاد دخل الخزانة السلطانية بما قبض السلطان من ثمن الوظيفة ... وبما تضاعف على الشعب من الضرائب ...
وحين كانت جثة علي بن أبي الجود معلقة على باب زويلة، كان خلفه يجوس خلال الأسواق في طائفة من جنده يجبي من التجار ضريبة جديدة باسم السلطان؛ ليفي بما تعهد به!
وقال طومان باي لنفسه أسفا: آذنت والله هذه الدولة بالانحلال، كأنني لم أتحدث إلى السلطان هذا الحديث إلا لأغريه بعامله، وأزيده هو نفسه ضراوة وجشعا إلى المال!
الفصل الثالث والعشرون
وراء الأكمة
قال بدر الدين بن مزهر لصديقه الأمير قايت الرجبي كبير أمناء السلطان الغوري: والله إنك لتحمل أوزار هذا السلطان يا أمير، فما كان لولا معونتك شيئا يؤبه له؛ وإني لأعجب كيف رضيت وأنت بهذه المنزلة أن يتسلطن هذا الشيخ وقد كنت أحق بها؟!
قال قايت: وهل كنت يا صديقي أقدر أن يطيش الغوري هذا الطيش، ويغلبه هواه على عقله وقد جاوز الشباب ، لقد كان أزهد الأمراء في العرش والجاه والسلطان على ما بدا لي، فما أدري والله كيف استبدل بتلك الرقة غلظة، وبذلك الزهد شرها وضراوة واستكلابا على جمع المال.
قال بدر الدين: اعتذر بما شئت فإن على رأسك وزره!
قال قايت وقد أطرق أسفا: قد كان ما كان يا صديقي، فلا سبيل إلى الرجوع بعد.
قال فتى من فتيان المماليك قد اتخذ مجلسه إلى جانب بدر الدين: بل إن بين يديك السبيل يا أمير، فلو شئت لبلغت ...
قال كبير الأمناء باسما: كذلك تزعم أنت يا خشقدم، فمن أين لي المال أكسب به طاعة الجند ورضا الأمراء؟ وكيف أتوقى طعنة في الظهر من يد سيباي نائب الشام، أو خاير بن ملباي حاجب الحجاب، أو جان بردي الغزالي، وإن كلا منهم ليمد عينيه إلى العرش على حذر وتربص، يريد أن تسنح له فرصة، ثم من أين لي أن آمن عيون طومان باي، تلك التي تنفذ إلى ضمائر الناس فلا يكاد يخفى عليه سر؟
قال خشقدم حانقا: حتى أنت يا أمير تخشى عيون ذلك الفتى؟! لقد صار ذلك الغلام شيئا ...
قال بدر الدين بن مزهر: خل عنك يا خشقدم ...
ثم التفت إلى قايت وأردف قائلا وفي لهجته صرامة وحزم: اسمع يا أمير، إن كان ذلك كل ما تخشاه فقد كفيتك هذه المئونة، أما مال البيعة فعلي أن أبذل لك ما تشاء حتى يرضى الجند والأمراء، وأما سيباي وخاير بك وجان بردي الغزالي، فأرجو ألا يشغلك من أمرهم شيء، بل لعلهم أن يكونوا أطوع لك وأحرص على نفاذ أمرك، فهم اليوم على نية العصيان والثورة، وسيلتقون في الشام على خطة قد أحكم تدبيرها، فإذا رضيت عن تدبيري فستخرج إليهم على رأس حملة تأديبية، ثم تعود سلطانا كما عاد العادل طومان باي، وينتهي أمر ذلك السلطان الشيخ؛ فقد كفاه ما تمتع به من عز السلطنة هذه السنين، وكفى الشعب ما نال من أذاه وشحه، وحرصه على جمع المال ...
قال خشقدم: وأما طومان باي ...
فالتفت إليه بدر الدين مغضبا وهو يقول: دعني وما أريد يا خشقدم!
ثم عاد إلى قايت يتم حديثه: أما طومان باي فإنه في شغل بنفسه وببنت أقبردي عن كل ما هنالك، ولعله في عماية هواه أن يكون لك عينا على عمه، ذاك الذي يريد أن يحول بينه وبين شهددار؛ ليزفه كارها إلى ابنته جان سكر. ولعل خشقدم الرومي أقدر على تدبير هذا الجانب من الخطة؛ فإن له وسائله في قصر السلطان، وبينه وبين طومان باي آصرة!
ثم مال إلى خشقدم يتحبب إليه باسما وهو يقول: أليس كذلك أيها الرومي الفتى؟
قال خشقدم وعلى وجهه مسحة من الرضا: بلى يا سيدي، وسيكون صهري جاني باي الأستادار عونا لي في كثير من الأمر، فإنه ليبغض ذلك الفتى المتغطرس كأن بينهما ثأرا لا يغسله إلا الدم!
كان يوم الخميس الثامن من رجب سنة 909 يوما من أيام القاهرة المشهودة، فقد ازينت المدينة كلها بأمر السلطان احتفالا بدوران المحمل، وكانت هذه العادة قد بطلت منذ بضع وثلاثين سنة، حتى نسيها الناس أو كادوا، ولم يبق منها إلا ذكريات على ألسنة العجائز والشيوخ، يستمع إليها الشباب في لهفة وشوق ... فما كاد الغوري يأمر أمره بالرجوع إلى تلك العادة، حتى شمل مصر كلها فرح غامر، فلم يبق في المدينة على سعتها عجوز ولا شيخ، ولا فتاة ولا فتى، إلا تهيأ لاستقبال ذلك اليوم والاشتراك في ذلك المهرجان، فازدحم النساء والفتيات على سطوح الدور ووراء أستار النوافذ، وزغاريدهن تتجاوب أصداء من شرق المدينة إلى غربها، أما الرجال شيوخا وفتيانا فقد احتشدوا على جانبي الطريق كتلا متراصة، وامتلأت بهم الدكاكين وشرفات الدور، حتى استؤجرت أسطح البيوت والمصاطب والشرفات بالثمن الربيح، وانثالت وفود المصريين من الخانكاه وبلبيس، ومن قريب ومن بعيد؛ لتشهد ذلك اليوم الفريد، وبلغ الزحام غايته كأن المدينة كلها في عرس. على أن ساحة الرملة - حيث يطل السلطان من شرفته بالقلعة على الرماحة، وهم يعرضون فنونهم ويعتركون بالرماح بين يديه في براعة وخفة - كانت أشد ميادين القاهرة زحاما وأكثرها اكتظاظا بالخلق . وفي انتظار ساعة العرض احتشد العامة راقصين يغنون أغنيتهم التي صنعوها احتفالا بهذا اليوم، والنساء من وراء الأستار يغنين معهم:
بع اللحاف والطراحه
حتى أرى ذي الرماحه
بع لي لحافي ذا المخمل
حتى أرى شكل المحمل
وفي ذلك اليوم الذي كانت المدينة تموج فيه بالخلائق، قد اشتغل كل منهم بما يرى وما يسمع عن نفسه وحاجة أهله، كان فتى وفتاة يجلسان وراء شرفة من تلك الشرفات التي تطل على موضع قريب من ذلك الميدان، قد شغلهما أمر ذو بال عن كل ما اشتغل به الناس من أسباب اللهو والفرجة ... كأنما قد شبعا من هذا المنظر وما شاهداه قبلها قط، ولا رأيا مثله في الأحلام ...
قالت الفتاة: أعرف هذا يا طومان، وما دعوتك إلى مجلسي في هذا اليوم لأحاول أمرا يفسد ما بينك وبين عمك السلطان، ولست من الحمق بحيث آمل أملا لا سبيل إليه ... ولكن ...
وغصت بكلماتها فأمسكت، ولمعت في عينيها دمعة. ودنا منها طومان وقد غلبته أشجانه، فمس ظهر كفها براحته وهو يقول: بعض هذا يا شهددار، إني لأعلم ما في نفسك وإن حاولت كتمانه، وأحسبك تعلمين ما في نفسي ...
قالت وقد مالت بوجهها إلى ناحية؛ لتستر الدمعة التي تدحرجت على وجنتيها: ليس هذا ما أريده يا طومان، وإنما دعوتك لأفضي إليك بسر انكشف لي من أمر خاير بن ملباي ...
ثاب طومان إلى نفسه سريعا وقال في لهفة: خاير بن ملباي! - نعم يا طومان، وإنك لتعلم ما بينه وبين مصرباي، ومنها وقفت على بعض سره، فقد كانت تتحدث إلي حديثا عن خاير، فانطلق لسانها ببعض ما كانت تريد أن تخفي، ثم استدركت فصمتت ... وعلمت من وقتئذ أن بينها وبين خاير سرا أعمق مما كنت أحسب، وأيقنت أنها شريكته في ذلك التدبير ...
قال طومان وقد بدا القلق واللهفة في لحن صوته ونظرة عينيه: أي تدبير تعنين يا شهددار؟
قالت: إن خاير يا طومان يشارك في أمر خطير من أمور السياسة لست أعرف ما يكون، ولكن صلة ما بينه وبين بدر الدين بن مزهر وسيباي نائب الشام، وما يجتمع الثلاثة على أمر هين، ومن يدري؟ لعل خاير يأمل أملا يتقرب به إلى قلب مصرباي ويكون أدنى إليها منزلة!
هز طومان رأسه وزم شفتيه قائلا: لست أفهم ما تعنين يا شهددار، وما شأن مصرباي وسيباي، وبدر الدين بن مزهر؟
فابتسمت شهددار وقالت: لست أدري، وإن مصرباي لأعمق غورا وأحرص على كتمان سرها، وإن لها غدا مأمولا حدثها به أبو النجم الرمال ذات يوم منذ سنين، فلم تزل منذ ذلك اليوم ترقب مطالع النجوم وتنتظر كل مساء مشرق الصبح ... فإذا شئت يا طومان أن تقطع ما بينها وبين خاير بن ملباي وتحول بينها وبين ما تدبر من كيد، فاخطبها لعمك الشيخ ... أو لا فدعها وما يداعب نفسها من أماني، ولا تسألني عن شأنها وشأن سيباي وبدر الدين بن مزهر!
قال طومان منكرا: أتمزحين أم تجدين يا شهددار، فإني لأسمع منك اليوم ما لا أكاد أفهم!
قالت: بل هو الجد كل الجد يا طومان!
قال: أفتقترحين جادة أن أخطب مصرباي لعمي الشيخ؟
قالت ضاحكة: نعم، وماذا يمنع؟ وهل تحسبها تأبى أن تكون سلطانة، ولو كان سلطانها شيخا قد حطم السبعين، وهي شابة لم تبلغ الثلاثين؟ وهل يأبى عمك؟
قال طومان ولم يزل في حيرته: ولكنها لم تزل زوجة الظاهر قنصوه، فهو زوجها وإن كان سجينا في برج الإسكندرية!
قالت: آه يا طومان! لقد فكرت فيما لم تفكر فيه مصرباي وخاير، حين تواثقا على أمل مشترك يرقبان له مطالع النجوم، وينتظران كل مساء مشرق الصبح، كما قال أبو النجم الرمال ذات يوم لمصرباي ...
قال طومان: آه! أحسبني قد فهمت ما تعنين يا شهددار ...
قالت شهددار: نعم، إنها لتطمع أن تعود سلطانة على العرش، وإن خاير بن ملباي ليطمع مثلها ...
قال طومان منكرا: بالله إلا ما أخبرتني يا شهددار: أتتحدثين جادة وعن بينة؟ أتظنين أن يبلغ خاير يوما هذه المنزلة؟
قالت وقد تجهم وجهها: إلا يكن خاير يطمع فإن مصرباي خليقة بأن تطمعه، وإلا فما شأن خاير بسيباي وبدر الدين بن مزهر؟ وما ذلك السر العميق الذي تحرص مصرباي على كتمانه، فلم تكد تلفظه شفتاها حتى أمسكت؟
قال طومان وقد بدا في وجهه الغضب: ويل لذلك الخائن! لا بد أن يدرك عاقبة تدبيره، ويلقى جزاء كفره بنعمة السلطان!
قالت شهددار منزعجة: ماذا نويت يا طومان؟ هل هو إلا ظن يوجب الحرص والحذر؟ فكيف تتعجل الأمر قبل أن تعرف مصدره ومورده؟
قال طومان هادئا: اطمئني يا شهددار، إن طومان لا يعجل قبل أن يتثبت ...
ثم سكت وسكتت، وسرحت خواطرهما إلى بعيد، وافترقا على التوهم ثم التقيا. ولما مد إليها يده للوداع بعد فترة، كان في عينيها عبرة وفي عينيه مثلها، فشد على يدها بعنف وهو يقول في حسرة: لماذا أجبت دعوتك يا شهددار وكنت خليقا أن أتوارى عن عينيك حتى لا ينتكئ الجرح؟
قالت وقد أفلتت يدها من يده: بل اسألني يا طومان لماذا دعوتك وكان حقا علي أن أتصبر؛ ليحملك تصبري على الصبر والسلوان، ويفرغ قلبك لما تحمل من هم الدولة؟
ثم فرت عجلى من بين يديه وخلفته في أشجانه، فلما توارت عن عينيه استدار على عقبه، واتخذ طريقه إلى الباب في صمت، ويكاد قلبه يثب من بين ضلوعه وجدا ولهفة!
الفصل الرابع والعشرون
حمامة السلام
قال أبو النجم الرمال في خاتمة حديثه وقد جمع أطراف منديله فطواه ودسه في جيبه: هو ما قلت يا مولاي وما أنبأتني به الطوالع، وما كذبتني قط في نبأ ... وسيطول عهدك يا مولاي ويمتد حتى تبلغ أقصى العمر، ثم يكون هذا العرش لصاحب ذلك الاسم الذي ترمز إليه النجوم، وأوله من حروف الهجاء س ...
قال الغوري: ولكنك لم تنبئني بكل ما تعرف، إن لم تخبرني صريحا باسم ذلك السلطان الذي يكون له عرش مصر من بعدي!
قال أبو النجم وقد ضيق عليه: ومن أين لي أن أعرف يا مولاي غير ما حدثتني به النجوم، وإن للغيب أسرارا لا تنكشف إلا حين يوفى الأجل، وإنما لي من النجم شعاعه دون جرمه وكثافته، فلست أعرف من اسم ذلك السلطان إلا أول حرف منه!
قال الغوري غاضبا: أشعوذة وكذبا أيها الرمال؟! فبالله لآمرن بك فتساق إلى السجن إن لم تخبرني ما تمام ذلك الاسم الذي تخوفني به، فما أنت وهذا الصمت إلا أحد رجلين: دجال يفتري على الله الكذب، أو مارق من طاعة السلطان يعصيه فيما يأمره، ويخفي عنه ما يعلمه، وليس لك عندي على الحالين شيء مما كنت تأمل من المثوبة والأجر، وإنما هو السجن والعذاب حتى تفيء إلى الطاعة وتتوب من المعصية!
ثم دعا غلاما من غلمانه فأمره أن يسوق الرمال مقيدا إلى سجن القلعة حتى يرى فيه رأيه.
يا للرجل! كم أمير من أمراء هذه الدولة، وكم سلطان نال أبو النجم الرمال من جوائزهم ما لم يكن يحلم به، وما احتفل لمرضاة أحد منهم كما احتفل لمرضاة هذا السلطان الشحيح الكز، الذي لم يكفه أن يحرمه جائزته بل حرمه حريته كذلك، ومن يدري! لعله يدعه في ذلك السجن حينا حتى يشتري حريته بمال!
وقال الغوري لنفسه وقد خلا به المجلس: إنه ليخيل إلي أن ذلك الرمال صادق فيما يحدث به عن نجومه، ولكن من ذلك الأمير الذي سيكون له من بعدي هذا العرش وأول اسمه س؟ لو كان ولدي لهدأ بالي، أو لو كان طومان! أما والله لو أنعم علي بولد لسميته سعيدا، وجعلت له ولاية العرش قبل أخيه البكر، فأفسد بها على ذلك الدجال نبوءته!
وسرح السلطان الشيخ في أوهامه، فلم يعد من سرحته إلا حين قدم حاجبه ينبئه بمقدم بريد الشام ... «سيباي نائب الشام يشق عصا الطاعة ويتمرد!»
ماذا؟! وعاد إلى الرسالة التي جاء بها البريد من الشام يقرؤها ثانية وثالثة، فلم يزده ما قرأ إلا يقينا بهذه الحقيقة المروعة: سيباي نائب الشام يعصي!
إذن فهو ذاك، وأول اسمه س، وإنه لأهل لأن يتطلع إلى العرش! - لا لا، لن يكون ذلك يا سيباي، ولو اجتمعت إليك عسكر مصر والشام!
ودعا الغوري حاجبه فأمره أن يطلق سراح أبي النجم الرمال، ثم أرسل يدعو وزراءه وأصحاب مشورته إلى اجتماع بالقلعة؛ للمشاورة في أمر سيباي العاصي، الذي يطمع في ولاية عرش مصر بعد السلطان، كما أنبأه بذلك أبو النجم الرمال!
دار الغوري بعينيه في القاعة يبحث عن طومان باي، فلم يره بين المجتمعين من أمراء البلاط، فعبس وهو يقول لنفسه همسا: لا يزال ذلك الفتى يشغله هواه عن نفسه!
ثم التفت إلى كبير أمنائه يقول: هيه! ماذا وراءك من أخبار ذلك العاصي يا أمير قايت؟
قال قايت الرجبي: إن سيباي يا مولاي يطمع فيما ليس من أهله، وقد اجتمع إليه دولات باي - أخو العادل طومان باي - يطمع أن ينال ثأر أخيه، وأحسب أن علاء الدولة أمير مرعش يمد له يد المعونة، وأن لابن عثمان ملك الروم أصبعا في هذه الفتنة، فالأمر جد خطير كما ترى يا مولاي، ولا بد أن نقضي على الفتنة في مهدها قبل أن يستميل سيباي أمراء الأطراف، فيجتمعوا إليه ويستقل بالشام!
قال الغوري: هو ما قلت يا أمير، وسأرميه بك لترده إلى الطاعة بالإحسان أو بالسيف، فخذ الأهبة لتكون على رأس تلك الحملة، وستجد من معونة خاير ما يسهل لك الأمر، فقد رسمت اليوم بأن يلي إمارة حلب؛ ليكون عونا لك على سيباي، وسيخرج إليها قبل الحملة بأيام ...
خفق قلب قايت فرحا، وتدانى له الأمل البعيد، هذه هي الخطة كما أحكم تدبيرها بدر الدين بن مزهر، لا يكاد السلطان يخامره ريب في أمر القائمين بها، فلم يتكلف قايت شيئا من المئونة في تنفيذ ما اعتزم واعتزمه المتآمرون معه، وتمثل له في الخيال موكبه حين يعود من الشام سلطانا، يشق القاهرة من باب النصر إلى الشرابشيين، إلى باب زويلة، إلى باب الوزير؛ حتى يبلغ الرملة فيثب إلى العرش، ويجلس إلى يمينه بدر الدين بن مزهر؛ ليكون كبير الأمناء مصريا من هذا الشعب لأول مرة في تاريخ حكومة المماليك ... ويساق السلطان الشيخ مقيدا إلى برج الإسكندرية أو قلعة دمياط؛ ليقضي ما بقي من أيامه يرسف في الأغلال، أو تسبق إليه طعنة من يد جركسي يطلبه بثأر ...
وطال صمت قايت، وتتابعت على عينيه صور شتى، فلم ينتبه إلى مكانه من مجلس السلطان إلا حين عاد الغوري يقول في صوت رفيق: ماذا قلت يا أمير؟ إنك لتفكر في الأمر طويلا، وما أحسبه بحاجة إلى كد الخاطر؛ فإن حملة يقودها الأمير قايت لا بد أن تعود منصورة مظفرة ولم تلق كبير عناء!
قال قايت باسما: بتأييدك وكريم معونتك يا مولاي، فإن شئت فسأكون على الأهبة بعد أيام ...
قال الغوري: لا تعجل؛ فإن الأمر أهون من ذلك، ثم إني أريد أن يسبقك إلى حلب نائبها الجديد خاير بن ملباي، وأن يتبعه ابن أخي طومان باي، فإن له تدبيرا أرجو أن يتم به النصر سريعا إن شاء الله!
قلق قايت حين سمع اسم طومان باي وانطفأ بريق عينيه، ما شأنه وشأن هذا الفتى؟ وأي تدبير يدبره؟ ما له ولذلك وإن له من أمر نفسه ما كان حقيقا بأن يشغله؟!
ثم خطرت له صورة خشقدم الرومي، فسري عنه وزال ما به من القلق، إن هذا الفتى الرومي ليستطيع بما يملك من أسباب الحيلة أن يشغل طومان باي عن أمره بأمر آخر أحب إليه، فيقوده بزمام الهوى ليعدل عن ذلك الطريق ... - ولكن أين هو طومان باي الساعة؟
سؤال واحد خطر على قلب السلطان وكبير أمنائه في وقت معا، أما السلطان فقد قلق أشد القلق لغيابه وانتابه الهم؛ لأنه لم يخطر على قلبه إلا سبب واحد لغياب طومان باي: هو أن يكون الساعة في دار أقبردي الدوادار!
وأما قايت فاستراح واطمأنت نفسه؛ لأنه لم يخطر على قلبه سبب آخر لغياب طومان غير ذلك السبب الذي خطر على قلب السلطان ...
وفي اللحظة نفسها كانت فتاة مستلقية على أريكتها تسأل نفسها في شك وحيرة: ترى أين طومان باي الساعة؟
فإنه لغائب عن القاهرة منذ بعيد، فلم يره ذو عينين منذ يوم المحمل، ولم يشهد اجتماع الأمراء في القلعة - كما أنبأتها جاريتها - وما تخلف قبلها قط عن شهود مجلس الأمراء !
ونالها من القلق على غياب طومان باي أكثر مما نال السلطان وكبير أمنائه، فإن مكانته من نفسها لأدنى من مكانته في نفس السلطان وكبير الأمناء، وإنها لأحب إليه لأنها شهددار بنت أقبردي!
قال أبرك لمولاه: كأن قد عرفت يا مولاي ما يعنيك من أمر بدر الدين بن مزهر وعصابته، وإني لأكاد أنكر ما سمعته أذناي!
قال طومان: فماذا تنكر مما سمعت وماذا تصدق يا أبرك؟
قال الغلام ساخرا: إن بدر الدين بن مزهر يا مولاي، يطمع أن يقتعد عرش الغوري يوما ما، لا تكاد تخفى سريرته تلك على أحد من خاصته، وإنه لذو جاه ومال، فهل يصدق مولاي أنه يطمع أن يصطنع بماله وحيلته قايت الرجبي، وخاير بن ملباي، وجان بردي الغزالي، وخشقدم ...
قال طومان: نعم، وسيباي، ودولات باي ...
قال أبرك: أما سيباي فلا، وما أظن بدر الدين بن مزهر يعنيه من أمر سيباي إلا أن يستغل عصيانه لتدبيره أمره، فإن سيباي أكرم نفسا من أن ينقاد لمشيئة مصري كبدر الدين، ولكن خاير بن ملباي قد تعهد أن يضطلع بهذا الجانب من المكيدة المبيتة، فهو على نية السفر إلى حلب عما قريب لتنفيذ ما اعتزم.
قال طومان: لعلك لم تبعد عن الحق يا أبرك، ولكني أريد أن أستجمع للأمر فأحوزه من أطرافه، وسأغيب عن عينيك يومين أو ثلاثا، فاحذر أن تتحدث إلى أحد بشيء مما تعرف!
ظهر طومان باي بعد غيبة طالت أياما، وكان عمه من الغيظ والقلق لغيبته قد ذهبت به الهواجس كل مذهب، فما كاد يراه مقبلا عليه حتى تجهم وجهه، وبادره بالقول مغضبا: وأخيرا ها أنت ذا تعود، ولكن حين لا حاجة إليك، أما حين يجد الجد وتعوزني إليك الحاجة، فليس يدري أحد أين يلقاك، حتى ولا عمك، ولا ابنة عمك، أو لعل عمك وابنة عمك هما كل من تحرص على كتمان أمرك عنهما من دون الناس جميعا، حين تستخفي عن أعين الناس!
غامت سحابة من الهم على وجه طومان وحضرته أشجانه، فلم يخف عليه ما يقصد إليه عمه من وراء ذلك التعريض. إن عمه ليظن كل غيبة يغيبها لا بد أن تكون في شأن بنت أقبردي ... وماذا عليه في ذلك لو كان صحيحا؟ أليس من حقه أن يختار لنفسه؟ ولكنه مع ذلك لم يفعل وترك زمامه في يد عمه يقوده حيث يشاء، لم يعصه، ولم يأب عليه، ولم تأب صاحبته شهددار، وإن قادهما إلى الهلاك! وإن شهددار لتعلم ماذا يدبر لها السلطان من ألوان الكيد، وإنها مع ذلك لتخلص له وتمحضه النصح؛ ولاء له، أو حبا لابن أخيه الذي يريد السلطان أن يحول بينها وبينه! فهل عرف السلطان فيم كانت غيبة طومان أياما، وقد جد الجد وأعوزت إليه الحاجة؟ وهل عرف أن غيبته هذه كانت في شأن من أخطر شئون السلطان، وأنها كذلك بسبيل من حب شهددار بنت أقبردي؟
هل علم أنه لولا ذلك الحب الذي يتأجج في صدره وفي صدر شهددار، لما بقي الغوري على عرشه، ولا سلم رأسه، ولانتهت هذه المؤامرة إلى الخاتمة الدامية التي دبر أمرها قايت، وبدر الدين بن مزهر، وخاير بن ملباي؟!
قال الغوري وقد طال حديث طومان باي إلى نفسه حتى غفل عن عمه، وعما يتوجه به إليه من الحديث: لم تحدثني يا طومان فيم كانت هذه الغيبة البعيدة، وقد أوشك أمر سيباي أن يكون خطيرا ...
قال طومان جادا: من أجل سيباي يا مولاي كانت غيبتي هذه البعيدة، وإن سيباي لأهل لأن تصطنعه بالمعروف فتكسب حليفا يعين وقت الشدة ... وإنما زين له الأعداء أن ينتقض ويعصي؛ لينفذوا من وراء ذلك إلى غاية قد أعدوا عدتها وهيئوا لها الأسباب!
قال الغوري منكرا: أصطنعه بالمعروف وهو يطمع أن يخلفني على العرش! ماذا تقول يا طومان؟! - هو ما سمعت يا مولاي، وما كان لسيباي أن يعصي لك أمرا لولا دسيسة بدر الدين بن مزهر وقايت الرجبي ...
هب الغوري مذعورا كأنما لدغته أفعى، ودنا من ابن أخيه فأسند يده على كتفه وهو يقول: قايت الرجبي كبير أمنائي!
قال طومان هادئا: نعم يا مولاي ، يريد أن يخرج له في حملة تأديبية؛ ليعود إلى القاهرة سلطانا في مثل موكب العادل طومان باي، حين هم أن يثب على جانبلاط!
دارت عينا الغوري في محجريهما، وانتفخ منخراه، وفح فحيح الثعبان وهو يردد القول: قايت الرجبي!
ثم استدار فانحط على كرسيه تائه الوعي، لا يكاد يصدق كلمة واحدة مما ألقي إليه.
وخطا إليه طومان باي خطوة، ثم مد يده إلى جيبه فأخرج حزمة من الرسائل دفع بها إلى عمه وهو يقول: وهذا دليل الخيانة فيما كتب كبير أمنائك من الرسائل بخطه إلى الأمراء يستعينهم على أمره ...
قال الغوري وهو يمر بعينيه سريعا على سطور الرسائل: نعم إنها رسائله وهذا خطه، ولكن كيف تأتى لك يا طومان أن تلقف هذه الرسائل في طريقها إلى الأمراء ... - قال طومان باسما: ذلك سر حمامتي البيضاء! - حمامتك البيضاء! ماذا تعني؟ - أمهلني يا مولاي ساعة حتى أستأذن شهددار بنت أقبردي، ثم أقص عليك النبأ!
تعاقبت على وجه الغوري ألوان من العاطفة، ثم فاء إلى الهدوء وقال وفي صوته نبرة عتاب: لا تزال تمزح يا طومان حيث لا يطيب المزاح، فما شأن بنت أقبردي الساعة فتقحمها في ذلك الحديث؟
قال طومان وفي وجهه أمارات العزم، وفي عينيه بريق السلام: ذلك هو السر يا مولاي، فلولا شهددار ما عرفت سر تلك المؤامرة، فمضيت أقص آثارها من قريب ومن بعيد، حتى عرفت ما يحاول قايت، وما يريد أن يكاتب به الأمراء، فنفذت إلى برج الحمام الزاجل في داره فأبدلت بحماماته حمائم أخرى، فلما حملها رسائله إلى الأمراء طارت بها فألقتها إلي، ولولا حمامتي البيضاء في دار أقبردي الدوادار، لأوشك أن يكون ذلك الأمر ... فهل يأذن لي مولاي أن أذهب إلى دارها فأشكر لها؟
ثم مضى لشأنه غير مكترث بما خلف وراءه، قد رضيت نفسه واستراح ضميره؛ لأنه استطاع أخيرا أن يقول الكلمة التي لم تلفظها شفتاه منذ سنين ... وانتصف لنفسه!
ومات بدر الدين بن مزهر تحت العذاب!
وسيق قايت إلى برج الإسكندرية معتقلا يرسف في أغلاله!
وعاد ما بين سيباي والسلطان الغوري إلى الصفاء، واستقر أميرا على الشام، وإن لم يزل يحيك في نفس الغوري شيء من الريبة في إخلاصه؛ لأن كلمات أبي النجم الرمال لم يزل يرن صداها في أذنيه، فلا يزال يحسب حسابه ويتوقى ...
أمير واحد أفلت من يد طومان فلم يستطع أن يحمل السلطان على مجازاته، ذلك هو خاير بن ملباي نائب حلب، فلم يزل موضع الثقة عند السلطان، ونفسه تنطوي على شر ما تنطوي عليه نفس من البغضاء، لطومان باي، وللغوري، وللجراكسة جميعا؛ لأن وراءه مصرباي الجميلة الفاتنة، لا تزال تمنيه الأماني وتقدح في قلبه شرارة الطموح ... وتسعر نار البغضاء!
قالت شهددار: بلى، قد أنصفتني يا طومان وانتصفت لنفسك حين قلت ما قلت بين يدي السلطان، ولكن هل قدرت ما وراء ذلك مما تنفعل به نفس عمك الشيخ ونفس ابنته، فإني لأخشى أن يكون لذلك عاقبة لا ترضاها!
قال طومان: هوني عليك يا شهددار، لقد قلت ما قلت وأنا أعنيه، وأي عاقبة تخشينها شر من هذا الذي يراد بي وبك، وكيف تهنؤني النعمة وأنت بعيدة عني!
فأطرقت شهددار وقد اصطبغت وجنتاها، وقالت في صوت خافت: ولكن الغد لك يا طومان، فاحرص على غدك، وحسبك من شهددار يقينك بأنها لن تنسى ...
قال طومان وقد اهتزت نفسه: لا يا شهددار، قد يكون ذلك حسبك أنت من هذا الحب، أما طومان فقد أجمع أمره منذ اليوم على ألا يدع شهددار تغيب عن عينيه!
ثم هب واقفا ومد إليها يمينه يودعها إلى لقاء قريب ...
الفصل الخامس والعشرون
أدراج الرياح
قالت الجركسية الملثمة لمسعود صاحب خان حلب: ولكنك تعرف يا سيدي أين يمكن أن يكون جقمق قد ذهب بغلمانه!
قال الرجل ضجرا: يا سيدتي، ومن أين لي أن أعرف وقد مضى عمر طويل، فلو كان جقمق اليوم حيا لاستطاع أن يهديك إلى طريق ذلك الغلام وأخته، ولكن جقمق قد مات منذ سنين، وأنا شيخ كبير كما ترين، قد ضعف بصري وانمحى ذلك الماضي من ذكرياتي، وقد كان جقمق - رحمه الله - يرتاد هذا الخان منذ عهد الأشرف قايتباي، يصحبه في كل مرة غلمان وفتيات قد جلبهم من بلاد الروم وأرمينيا وما وراء الجبال، فكيف ترينني أذكر وجه غلام واحد بين مئات من الغلمان، وقد انقضى ذلك العمر المديد؟!
قالت: ولكن طومان لا ينسى، لقد كان فتى ولا كالفتيان!
ثم انهملت عيناها واستبقت على وجنتيها الدموع.
قال مسعود محزونا: ليتني أعرف يا سيدتي أين ذهب جقمق بولدك طومان، إذن لهديتك الطريق ليجتمع به شملك، ولكن ...
وأمسك برهة يفكر ثم انهل قائلا: تقولين إن ولدك كان يصحبه فتاة جركسية وغلام من الروم؟
قالت مستبشرة: نعم، بذلك حدثني أبو الريحان الخوارزمي يوم لقيته في خان يونس بقيسارية!
قال الرجل فرحا: كأن قد عرفت يا سيدتي، وقد كان ذلك منذ بضع عشرة سنة، وإني لأعجب كيف نسيت أمر ذلك الفتى وأخته كل تلك السنين ... ذلك الغلام الذي أوشك ذات يوم أن يذبح شابا من أصحابه بسكين؛ دفاعا عن صاحبته الصغيرة!
فلولا أن غريمه قد فر من بين يديه لسال بينهما دم، وظل خبره وخبر صاحبته تلك حديث نزلاء الخان أسابيع، لقد كان فتى ولا كالفتيان!
انزعجت نوركلدي وسألت في لهفة: ماذا قلت؟! هل جرح ولدي طومان أو أصابه شر؟
قال مسعود هادئا: لا يا سيدتي، وأظنك ستلقينه في نعمة وعافية!
فاض البشر على وجه المرأة، وازدهر كأنما عادت إلى الشباب، وهتفت فرحانة: بالله! أتقول الحق يا سيدي؟ أتلتقي نوركلدي وطومان بن أركماس بعد بضع وعشرين عاما من الفراق؟
ثم مالت على يد مسعود الشيخ تقبلها وتبللها بالدمع، وقد شدت عليها بأصابعها المرتعشة لا تريد أن تفلتها، ثم رفعت إليه عينيها ضارعة وهي تقول في صوت مختنق: ولكن أين ... أين ألقاه يا مسعود؟
قال الشيخ وقد أعداه ما بها حتى كاد يحتبس صوته: سيهديك إليه يا سيدتي تاجر المماليك جاني باي، فقد دفع جقمق إليه ولدك وصاحبته الجميلة الحسناء؛ ليبيعهما في أسواق دمشق أو القاهرة!
عبست المرأة بعد طلاقة وقالت: أفذلك كل ما تعرفه من أمر ولدي يا سيدي؟ وهل يستطيع أن يدلنا على مكانه في دمشق أو في القاهرة صديقك جاني باي؟ - نعم يا سيدتي، وسيكون جاني باي هنا بعد أسابيع، فهو لم يزل دائم التردد بين حلب والقاهرة في هذه الأيام، لأمر من أمر نائب حلب الأمير خاير بك ...
ثم عض على شفتيه وأردف قائلا مستدركا: سيدتي، أظن أميرنا خاير بك يعرف كذلك من أمر ولدك ما لا أعرف، فقد كان في تلك القافلة التي ذهب فيها مع جاني باي!
قالت نوركلدي ملهوفة: أمير حلب يعرف أين ولدي! فسأذهب إليه لأستنبئه إذا دللتني على الطريق إلى دار الإمارة أيها الرجل الكريم.
ولكن مسعودا لم يستمع إلى نوركلدي حين توجهت إليه بذلك الرجاء، فقد عاد ثانية إلى ذلك الماضي يسترجع ذكرياته وهو يفكر ...
لا لا، إن ذلك الفتى الصغير الذي فارق أمه منذ بضع وعشرين سنة، لم يذهب فيمن ذهب مع جاني باي تاجر المماليك، لقد صحبته تلك الفتاة وحدها، فذهب بها جاني باي فيمن ذهب في طريقه إلى دمشق والقاهرة، وبقي ذلك الفتى وصاحبه الرومي في حلب، لا يدري مسعود أين ذهب بهما جقمق ذات صباح ثم عاد بعد قليل فارغ اليد ... كيف غاب عنه قبل اليوم أن ذلك الشاب الذي أوشك طومان أن يذبحه بسكينه دفاعا عن صاحبته هو خاير بك نفسه - نائب حلب اليوم - وأنهما قد افترقا منذ ذلك اليوم البعيد، فسافر خاير وإخوته وأبوه في ركب جاني باي، وظل ذلك الفتى وصاحبه الرومي في حلب؟! - سيدتي! - سيدي! - لقد كنت أريد أن أهديك الطريق ... - نعم، وستصحبني إلى دار الأمير، وبمعونتك - أيها الرجل الكريم - سألقى ولدي، وسندفع إليك جزاء معروفك!
قال مسعود أسفا: يا ليت يا سيدتي! ولكني غير مستطيع ...
لقد خدعتني الذاكرة فنسيت أن ولدك لم يذهب فيمن ذهب مع جاني باي في طريقه إلى دمشق والقاهرة، ولكنه بقي هنا في حلب، فلا الأمير خاير بك، ولا جاني باي، يستطيعان أن يدلاك على مكانه اليوم، لقد افترقا منذ ذلك التاريخ البعيد وما أحسبهما قد التقيا بعدها قط ... وقد عاش ولدك بعدهما هنا في حلب، ولعله لم يغادرها، ولعلك أن تلتقي به يوما في سوق من أسواق هذه المدينة على غير ميعاد، إن كان مقدرا لكما أن تلتقيا ... فهل تعرفينه يا سيدتي حين ترينه؟ إنه اليوم شاب قد جاوز الثلاثين، وأحسبه قد استدارت لحيته وكان صبيا أمرد مصقول الخد ... فأين منه صبيك الذي تنشدينه وتعرفينه بصفته.
كان الرجل يتحدث والمرأة تستمع إليه ساهمة مذهولة، قد انفرجت شفتاها وبرقت عيناها في محجريهما لا تطرفان ... وكأنما أصابها المسخ فلم تتحرك حركة ولم تنبس بحرف ... إنها الساعة امرأة أخرى غير التي كانت منذ لحظات، حين خيلت لها الأماني أنها لقيت ولدها بعد ذلك الفراق، أو أوشكت أن تلقاه، فكأنما رأته بعينين وسمعته بأذنين، واستمعت إلى نجواه، ثم ها هي ذي تفقده ثانية ... ويفر من خيالها كما فر به النخاس ذات مساء في ليلة حالكة السواد منذ بضع وعشرين سنة ...
وأفاقت من ذهولها بعد قليل لتهتف جازعة: لا لا، إنك تعرف أين ولدي ولكنك تأبى ...
هز الرجل رأسه مشفقا وهو يقول: الصبر يا سيدتي! لقد أنبأتك بما عرفت، وإن همك ليحزنني ويعصر قلبي، إنني أنا مثلك أب وذو ولد، وليس الأمر من الحرج بحيث يدعو إلى اليأس، إنك يا سيدتي على الطريق منذ بضع وعشرين سنة، قد لقيت في هذه السنين من البأساء والضر ما لقيت صابرة، فهلا صبرت إلى هذه السنين بضعة أسابيع، أو بضعة أشهر حتى تلقيه أو يلقاك؟ لقد أوشكت أن تبلغي آخر الطريق إليه، ولا بد أن تلتقيا، فإذا كان تعاقب السنين قد غير صورته، فإن نور الأمومة في قلبك يهديك، وما أرى صورتك قد تغيرت في مرأى عينيه، إنك اليوم يا سيدتي في المدينة التي تخلف فيها ولدك دون أصحابه، ومن يدري؟ فقد يكون الساعة على مد الشعاع من عينيك، لولا هذه الجدران التي تفصل بين بيوت الناس!
قالت المرأة وقد ثاب إليها الهدوء وفاءت إلى الرضا: شكرا يا سيدي ، ومعذرة إليك، فهلا أتممت معروفك، فدللتني على بيت في هذه المدينة يشرف على الطريق العام؛ لأعيش فيه حتى يأذن الله لي في لقاء ولدي!
قال الرجل: لك علي ما تطلبين يا سيدتي، وسأكون لك منذ اليوم أخا وجارا إن أذنت لي، حتى تلقي ولدك إن شاء الله!
الفصل السادس والعشرون
لغز الحياة
لم يكد ركب المحمل يفصل عن القاهرة وينتهي رمضان حتى دهم القاهرة شر عظيم، فقد ظهر الطاعون في أحياء متفرقة من المدينة، ثم لم يلبث أن انتشر، ففي كل زقاق نواح على ميت، وفي كل دار مطعون يرقبه أهله مشفقين وجلين. وازدحمت الجنائز في الطريق حتى لا تنقطع مواكبها، وتجاوبت أصوات النوادب ودفوف النائحات من شرق المدينة إلى غربها، وشمل أهل المدينة الخوف والفزع؛ حتى ليظن كل حي أن الموت مصبحه أو ممسيه في نفسه أو في أحد من أهله، وحتى بلغ عدد الوفيات في المدينة كل يوم أربعة آلاف مطعون.
وفزع الناس إلى الله تائبين نائبين، وخفف السلطان من غلوائه وأشفق على نفسه من يوم قريب، فنادى مناديه في القاهرة بإبطال ضريبة الجمعة، وضريبة الشهر، وحرم بيع الخمر، وحظر على النساء أن يخرجن من دورهن إلا مؤتزرات منتقبات، وأغلق بيوت البغاء، ومنع النواح على الموتى بالدفوف، ولجأ إلى الله في خلواته يستجير من هذا البلاء النازل.
واستمر الوباء يحصد الأرواح، لم يمنعه دعاء الداعين ولا توبة التائبين، فلم يدع بيتا في القاهرة إلا دخله، وما دخل دارا إلا عاد إليها، حتى قصر السلطان نفسه - على رغم من يحيط به من الحراس الأشداء الغلاظ - لم يسلم من ذلك الوباء، فماتت سرية من سراري السلطان مطعونة، ومات ولدها الذي كان الغوري يرجوه لولاية عهده، وماتت ابنته العروس الشابة جان سكر قبل أن يغيب هلال شوال، وقبل أن يبلغ الحاج منتصف الطريق إلى البلد الحرام!
وحمل نعش جان سكر على أعناق الرجال يتبعه أمراء المماليك، وقادة الجند، ومماليك الخاصة، وطومان باي يسير بينهم مطأطئ الرأس، حتى بلغوا الجامع الأزهر فصلوا صلاة الجنازة ووزعت الصدقات، ثم حملت العروس العذراء على سريرها إلى قبة الغوري حيث أودعت التراب، وعاد طومان باي ينفض يديه من ترابها ويتلقى تعزية الناس شاكرا، فلما انفض الجمع أوى إلى غرفته بالقصر صامتا لا يريد أن يتحدث إلى أحد أو يحدثه أحد ...
أحزين هو لأنه قد فاته صهر السلطان؟ أم هو راض شاكر؛ لأن الحجاب قد زال بينه وبين الأمنية الغالية التي يتمناها منذ أزمان؟ أم هو بين الأسف والرضا في نوع من القلق والحيرة، لا طاقة له باحتماله ولا صبر؟
بلى، إن جان سكر بنت عمه قد ماتت وكانت مسماة عليه برغمه، وكانت تحول بينه وبين أمنية غالية يتمناها منذ أزمان، ولكنه حزين، وصاحبته شهددار اليوم أبعد عن خاطره مما كانت في أي يوم مضى، إنه لا يطيق أن يفكر الساعة في شأنه وشأنها؛ لأن نفسه تأبى أن تعبر الطريق إلى مسراتها على جسر من آلام الناس ... تلك العروس التي كانت مسماة عليه برغمه لم يزل جسدها دافئا تحت صفائح القبر، فليس يجمل به أن يفرح ويشتهي ويتمنى، ولم يزل يرن في أذنيه منعاها، لقد كان لتلك العروس الميتة كذلك أفراح وأماني وشهوات، ولعلها - على ما كان بينها وبين طومان من الجفوة - كانت تأمل فيه أملا، فماتت قبل أن تبلغ شيئا مما كانت تشتهي وتتمنى وتأمل!
وتطورت خواطره فانتقلت به من حال إلى حال، فإذا صورة جان سكر التي طواها الموت منذ لحظات تملأ صفحة خياله، فليس له فكر إلا فيها، فيها وحدها، وإذا صورة صاحبته شهددار تتوارى عن عينيه، أو هو نفسه قد واراها طائعا، لا يريد أن يجمع في خياله صورتين لا يجتمع مثلهما في قلب رجل، إلا اجتمع معهما الشماتة والحقد والبغضاء، وإنه لأرفع نفسا عن مثل تلك الدناءات.
وطالت غيبته عن عمه، فإذا عمه يسعى إليه في غرفته ليسأله عما به، أو لعله أراد أن يعزيه في مصابه، ومصاب الرجل في صاحبته أحق بالعزاء من مصاب الأب في ابنته ... إن الأب هو يصنع بنيه وبناته، فهم كالثمرة من شجرته، تسقط الثمرة عن فرعها، والشجرة هي الشجرة لم تنقص شيئا في رأي العين، ولكن المرأة هي تصنع رجلها وتبنيه فترتفع به أو تنزل، كما يبنيها رجلها ويرتفع بها أو ينزل، فكلاهما من صاحبه هو النفس الثانية، أو الشخص وصورته في المرآة، أرأيت المرآة تملك أن تمسك الصورة لو زال ذلك الجسد الذي كانت تتراءى صورته في مائها، فذلك مكان المرأة من رجلها ومكان الرجل من امرأته، ولا كذلك مكان الآباء من بنيهم وبناتهم.
قال الغوري وهو يربت على كتف طومان: آجرك الله يا بني وألهمك الصبر ورزقك حسن العوض، إنك لم تزل بعيني يا طومان وإن ذهبت تلك؛ لأنك ذكراها الباقية لي على الزمان!
ودمعت عين الشيخ فجاوبتها دمعة من عين الفتى، ثم اصطحبا ذراعا في ذراع يجوسان خلال غرفات القصر وقد صفا ما بينهما، كأنما كانت تلك التي ماتت هي الحجاز بين قلبيهما، أو كأنما ألفت بينهما المصيبة حين لم تؤلف بينهما نعماء الحياة، ولا تزال النفس البشرية لغزا من ألغاز الكون يستعصي فهمه على الأحياء، وإنما مفتاح هذا القفل في يد الموت، هو وحده الذي يفتح ذلك الصندوق المقفل على ما فيه من غيب الله!
وقال الغوري لنفسه ذات يوم وقد خلا إلى نفسه: إن طومان لفتى يعتز به، وإنه لولدي ولا ولد لي غيره، إلا ذلك الطفل الذي يدرج بين يدي حاضنته، وإنه لأهل لأن أعتمد عليه في مهماتي، فلماذا لا أجعله أدنى إلي منزلة؟
وفكر وقدر، وذهب به الفكر مذاهبه، وتذكر شهددار بنت أقبردي: فدعا إليه طومان يسأله: أتريدها لك زوجا يا طومان؟
وازدحمت في رأس الفتى خواطره وغلبته أشجانه، وغص بأنفاسه فلم تخلص من بين شفتيه كلمة، فارتمى على صدر الغوري، ودفن رأسه في طيات ثيابه وهو يجهش باكيا ... وسقطت دمعتان على وجه الغوري ثم انحدرتا حتى توارتا في لحيته، وقبض أصابعه في لحم الفتى وهو يضمه إلى صدره بعنف وحنان، وهتف: يا ولدي!
كما ناداه ذات يوم في حلب حين التقيا لأول مرة منذ سنين بعيدة!
في هذا اليوم الراهن، وفي ذلك اليوم البعيد ... كان هذا العناق الدافئ تعبيرا بليغا عن سعادة طومان باي باجتماع شمله بعد تفرق ... مرة في حلب حين وجد له عما بعد يأس من لقاء الأهل، وهذه المرة في القاهرة حين وجد شهددار بعد يأس من اللقاء!
واجتمع بالقلعة القضاة الأربعة، وأمراء المماليك، وأعيان الناس؛ ليشهدوا عقد الأمير الشاب طومان باي على شهددار بنت أقبردي ...
فلما كان بعد بضعة أشهر، زفت العروس الفاتنة إلى عروسها الشاب، وشهدت القاهرة كلها مهرجانا لم تشهد مثله منذ سنين، وحمل الحمالون جهازها الحافل بين عزف الموسيقى ونقر الدفوف، يتخللون به دروب القاهرة، وشق موكب الأمير الشاب المدينة يحيط به الأمراء والوزراء وأمناء البلاط، في أيديهم الشموع الموكبية، يرقص لهبها على ألحان المزامير وعزف الشبابات، وغناء المغنين والمغنيات، حتى انتهى إلى القصر ... ونعمت القاهرة بليلة سلطانية ساهرة كأنها من ليالي الأحلام.
وكانت مصرباي جالسة وراء الستر في شرفتها تشاهد ذلك المهرجان، وهي تردد بيتا من الشعر حفظته عن خاير بن ملباي، فلم يزل على لسانها منذ فارقها خاير إلى حلب، فإنها لتتمثل صورته في نبرة كل حرف ونغمة كل مقطع وهي تنشد:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن ألا تلاقيا
واكتملت سعادة الأمير طومان باي وعلا نجمه، فهو الدوادار الكبير، وهو الأستادار، وهو كاشف الكشاف وأمير أمراء الشمال والجنوب، وهو مشير السلطنة وصاحب الحول والتدبير ...
وهو إلى كل ذلك حبيب المصريين، وصديق المماليك، وحامي العربان، وهو مريد من أخلص المريدين في حلقة الشيخ أبي السعود الجارحي ...
شيء واحد كان ينغص على طومان باي هذه السعادة التي اجتمعت له أسبابها، ذلك هو أن عمه السلطان لم يزل على ما رسم لنفسه من أساليب السياسة منذ ولي العرش، فإن أهم ما يعنيه هو أن يجمع المال من كل سبيل فلا ينفق منه شيئا، وأن يحشد المماليك الجلبان في القلعة، فيؤثرهم بنعمته دون غيرهم من القرانصة وأولاد الناس، وأن يستمتع بكل ما يتاح له من أسباب النعيم والترف، والشعب يطلب الغذاء والكساء والمأوى فلا يكاد يجد ... ولا يكاد يجد الأمان من الجباة والولاة وعمال السلطان!
لولا هذه الهنات لهدأ بال طومان باي وتمت سعادته، ولكن من أين له أن يهدأ وهو دائب الحركة ليصلح بين المماليك والسلطان، وبين القرانصة والجلبان، وبين أولاد الناس والشعب، ثم ما بين أولئك جميعا وبين الجباة وعمال السلطان!
الفصل السابع والعشرون
نذير العاصفة
- مولاي! - ما تريد يا طومان؟ - لست أريد شيئا لنفسي، فقد غمرتني نعمتك يا مولاي حتى لا أطمع في مزيد، ولكن أمرا ذا بال يشغلني ... - اعرض ما شئت من أمرك يا طومان! - إنه أمر هؤلاء الروم الذين يتخذون متاجرهم في خان الخليلي، فيخالطون المصريين والجركس، وأعراب البادية، ويطلعون من أحوالنا على ما لا ينبغي أن يطلع عليه الغرباء ... - ولكنهم ليسوا غرباء يا طومان، إنهم يعيشون بيننا منذ سنين، وقد اتخذوا مصر وطنا وأهلها أهلا، ولهم بيننا صهر ونسب، فماذا يشغلك اليوم من أمرهم؟ - لا شيء، ولكن ابن عثمان ملك الروم اليوم على الحدود قد زين له الطمع ما زين من أوهامه، فإني لأخشى أن يضيق هؤلاء التجار الروم بما يفرض الجباة على التجارة في مصر من ضرائب فادحة، وبما يلقون من عسف عمال السلطان، فيلتمسوها زلفى إلى ابن عثمان، ويضمروا لنا الغدر ويكاتبوا سلطان الروم بما يعرفون من أحوال مصر؛ انتقاما لما ينالهم من أذى الجباة والعمال! - وماذا يحملك على هذا الظن يا طومان، وأي شيء يدفعهم إلى هذا الغدر وهم في خفض ونعمة، لا يتمتع بمثلهما كثير من المصريين؟ - إنما هو حديث حدثني به اليوم يا مولاي بعض غلماني، يزعم أن جاني باي الأستادار قد أحفظ صدر هؤلاء الروم بما يفرض عليهم من الضرائب الثقيلة، وبما يلقون من عنت عماله وغلظتهم في سبيل ما يحصلون من هذه الضرائب؛ حتى ليتحدث بعضهم إلى بعض جهرا، يعلنون عن سخطهم ونقمتهم، ويلتمسون السبيل إلى الخلاص من جور المحصلين والجباة ... بمكاتبة ابن عثمان ملك الروم! - إذن فلينالوا جزاءهم، وسأرسم اليوم بحبسهم وقبض ما في خزائنهم من المال؛ ليكونوا عبرة لمن يعتبر! - مولاي! - ماذا يا طومان؟ - أفلا يكون سبيل الإحسان أن تنظر في شكواهم فتعاقبهم على قدر الذنب؟ إنهم فيما أعلم ليلقون - كما يلقى الناس جميعا - من الجور وسوء المعاملة ما لا طاقة لهم بحمله؛ وقد أسرف جاني باي فيما يفرض من الضرائب حتى ليبيع الناس أقواتهم وثيابهم ومتاع بيوتهم ليفوا له بما يطلب، فخربت الأسواق، وفر الزراع من أراضيهم وتركوها غبراء مقفرة ليس فيها زرع ولا شجر، وأوشك الشعب أن يموت جوعا.
قال الغوري: إن جاني باي إذن لذو مال!
وصمت برهة يفكر، ثم رفع رأسه قائلا: وسأقبض معهم على جاني باي الأستادار؛ حتى يؤدي إلى خزانة السلطان ما اغتال من أموال الناس.
قال طومان في قلق: مولاي! فهل ترد إلى الناس ما اغتال جاني باي وعماله من أموالهم؟
قال الغوري وعلى شفتيه ابتسامته: ما زلت يا طومان تحسن الظن بما ترى من حال ذلك الشعب ... إن هؤلاء الناس يا أمير ليخفون ثرواتهم وراء هذه الرقع الملفقة التي يسترون بها أجسادهم متظاهرين بالفقر والحاجة، وإن السلطان بما يدبر من أمورهم لأحوج منهم إلى ذلك المال.
ثم لم يلبث السلطان أن دعا طائفة من جنده، فرسم لهم أن يقصدوا دار جاني باي فيأتوا به في الأغلال.
كانت سورباي بنت جاني باي الأستادار شابة في نضارة العمر، مليحة، رشيقة، قد جمعت إلى جمالها الجركسي خفة الروح المصرية، فقد كانت أمها مصرية صريحة النسب، رآها أبوها جاني باي في شبابه، فأحبها، فتزوجها، لم يأبه لتلك التقاليد التي كانت تحرم على الجركس ومماليك السلطان أن يصهروا إلى المصريين، فجاءت بنتها سورباي مزيجا مصريا جركسيا يوقظ الفتنة النائمة ...
وتزوجها خشقدم الرومي عتيق السلطان الغوري، فكانت إنسان عينه وحبة قلبه وشغاف روحه، وولد له منها بنون وبنات، فاجتمعت منهم ومن أمهم في داره آيات الحسن الثلاث: مصرية ورومية، وجركسية.
وكانت سورباي وحيدة أبويها، فاتخذت خشقدم زوجا وأخا، واتخذ هو أبويها أبا وأما ، وصفت لهم الحياة.
وعلى حين بغتة حلت بهم الكارثة، حين قبض السلطان الغوري على جاني باي وألزمه أن يدفع إلى خزانة السلطان ما اغتال من أموال الناس، وأسلمه إلى عماله يفتنون في تعذيبه كل فن، بالكي، ودق المسامير في جسده، وعصر أصداغه بالمعاصر، وبالجوع والظمأ والبرد القارس في حجرات السجن المظلم، وبتخويفه بالنار والخازوق والشنق على باب زويلة ... حتى يدفع إلى خزانة السلطان ما طلب منه أن يؤديه.
وطال به العذاب ولم يدفع كل ما طلب منه، وطال عذاب أهله لما يناله، وطال عذاب ابنته سورباي وزوجها خشقدم الرومي عتيق السلطان الغوري.
وقالت له زوجته ذات مساء: خشقدم! حبيبي! إن لك مكانا عند السلطان، فهلا شفعت عنده لأبي!
فما عتم خشقدم أن استجاب لدعائها، فذهب إلى مولاه يتشفع لصهره، وكأنما ذهب ليذكره من نسيان، فما كاد السلطان الغوري يسمع قوله حتى هتف به مغضبا: حتى أنت يا خشقدم! حسبتك من حزبي.
قال خشقدم ضارعا: إنني أنا، وزوجتي، وبني وبناتي، وجاني باي، كلنا من حزبك وصنائع معروفك، ولو كان جاني باي يملك غير ما أدى إلى خزانة السلطان، لأنقذ نفسه من الهلكة وخرج عن كل ماله.
قال الغوري مغضبا: فتدفع أنت من مالك ما يعجز عنه جاني باي.
فبسط خشقدم كفيه قائلا: وماذا يملك عبدك يا مولاي إلا ما تفضل عليه من معروفك؟!
قال الغوري ساخرا: أو ما يفضل عليه صهره مما اغتال من أموال الناس باسم السلطان!
واحمرت عينا الغوري وانتفخ منخراه، وصاح بعتيقه الماثل بين يديه: اسمع يا خشقدم، لا يمكن أن تكون لي ولجاني باي في وقت معا، فاختر أمان السلطان أو صهر جاني باي ...
قال خشقدم منزعجا: مولاي ...
فقاطعه السلطان صائحا: اسكت، إنما هو ما قلت لك، فإما طلقت بنت جاني باي لتخلص لي، وإما نالك ما يناله!
اصفر وجه خشقدم واختلجت أطرافه، وقال مسترحما: وبني وبناتي يا مولاي، ما خطبهم وما خطبي؟ وما ذنب زوجتي المسكينة؟ لقد حلت النقمة على أبيها، فادخرني لها يا مولاي واجعلني بعض إحسانك إليها وإلى هؤلاء البنين والبنات.
قال الغوري ولم يزل في سورته: لقد حكمت، فاختر لنفسك!
ثم ولى وجهه ليؤذن عتيقه بالانصراف، فمضى يتعثر في خطاه، وقد دارت به الدنيا وثقل رأسه بما يحمل من الهم، فلولا أنه جلد لانهار على الطريق ليس له وعي ولا رشاد ... - ماذا وراءك يا خشقدم؟ - الخير يا سورباي إن شاء الله! - هل قبل مولاي شفاعتك؟ - نعم! - وهل يطلق أبي؟ - نعم! - متى يا خشقدم؟ - يوم يحين أجله!
دقت المرأة صدرها يائسة وهي تقول: ماذا قلت يا خشقدم؟ أليس يريد السلطان أن يطلق أبي؟ أحكم عليه بالموت في هذا العذاب؟
قال خشقدم وعيناه عند موطئ نعله: سيموت أبوك في هذا العذاب، وستخرجين من داري مطلقة لا زوج لها، وسيعيش بنونا وبناتنا في هذه الدار أطفالا بلا أم، أو يصحبونك حيث تكونين ليعيشوا معك يتامى بلا أب! بهذا حكم السلطان.
ثم هب واقفا وقال وقد ارتفع صوته واختلجت ألفاظه كأن فيها نبضات قلبه: ولكن شيئا من ذلك لن يكون ... ستعيشين لي وتبقين في داري، وسيعيش بنونا وبناتنا تحت جناح الرحمة من عطف الأب وحنان الأم، وسيعلم الغوري أين منقلبه!
ثم عاد إلى مقعده هادئا ثابت الجأش، فأسند رأسه إلى راحته وراح يفكر، وطال تفكيره، وطال استناد رأسه إلى راحته، وتعاقبت الساعات وهو لم يزل في مجلسه ذاك وفي هيئته تلك، وزوجته بين يديه صامتة ترمقه بعينين فيهما قلق وإشفاق، لا تكاد تتحرك في مكانها، ولا يكاد هو يراها أو يحس أنها منه في مكان قريب، فلما أوشك الظلام أن يبسط رداءه، رفع خشقدم رأسه وألقى إلى زوجته نظرة مطمئنة، ثم قال في صوت هادئ: تأهبي منذ الغد يا سورباي لرحلة طويلة!
ثم نهض فأصلح هيئته وخرج إلى الطريق، فلم يعد إلى داره إلا حين أوشك الصبح.
ومضى يومان، ثم أبصر الناس في ميناء دمياط مركبا شراعيا يتأهب لرحلته، وقد جلس في صدره شاب في عنفوانه إلى جانب زوجته، وبين يديهما بنون وبنات، يتبعه مركب آخر قد احتشد فيه طائفة من المماليك كأنهم حاشية ذلك الفتى ...
وقطع الملاحون حبال المرساة وشدوا القلاع، فاتخذ المركبان طريقهما نحو الشمال حتى ابتعدا عن الساحل، ثم غير الملاحون وجهتهم نحو الشرق، يقصدون بلاد ابن عثمان ...
ورفت ابتسامة على شفتي ذلك الفتى وهو ينشد لنفسه:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكن أخلاق الرجال تضيق
الفصل الثامن والعشرون
أول الطريق
عاد أبرك من حلب مغاضبا لأميرها خاير بن ملباي، وكان أبرك نائبا لقلعة حلب من قبل السلطان الغوري، وعينا على أمير المدينة من قبل مولاه طومان باي الدوادار الكبير ...
ومثل أبرك بين يدي السلطان ليقص عليه أسباب الخلاف بينه وبين الأمير، ولكن السلطان لم يكن بحاجة إلى أن يسمع شيئا عن خاير، فهو يثق به ثقته بنفسه، ويوليه من بره وعطفه ما لا مطمع بعده لمستزيد، فما كاد يرى أبرك ماثلا بين يديه حتى انهال عليه تقريعا وملامة، فلم يأذن له في كلمة أو يقبل منه معذرة، فغادر مجلس السلطان لا يكاد يتبين موضع خطاه من الغيظ والحنق؛ فقد كان السلطان في حال شديدة من الغضب، فلولا أن أبرك هو غلام الدوادار الكبير، لكان حقيقا بأن يناله من غضب السلطان في ذلك اليوم شر عظيم!
قال أبرك لمولاه: فو الله يا سيدي ما غاضبته إلا إشفاقا على هذه الدولة من عاقبة ما يدبر لها، وإن خاير اليوم لذو تدبير وحيلة!
اعتدل طومان باي في مجلسه وقال: ماذا تعني يا أبرك، فما علمت قبل اليوم أن لخاير تدبيرا يصيب، إلا أن يكون ذلك بسبيل امرأة!
قال أبرك: فهذا من ذاك يا مولاي، وما تزال الرسل والرسائل تترى بينه وبين مصرباي الجركسية، منذ عاد من رحلته إلى القاهرة آخر مرة، وقد أجدت له هذه الرحلة أماني ومطامع، فهو اليوم رجل آخر غير الذي تعرفه يا مولاي ...
قال طومان قلقا: ولكنك لم تحدثني يا أبرك عن تدبيره ذاك ما شأنه وما غايته؟
قال أبرك: ذاك ما لا أعرفه على التحقيق يا مولاي، ولكن مكانه في تلك الإمارة البعيدة على الأطراف، قد أتاح له صلات من الود بينه وبين جيرانه من أمراء ابن عثمان، فهو يهدي إليهم ويهدون إليه، والرسل بينه وبينهم لا تكاد تنقطع، وبينه وبين جان بردي الغزالي أمير حماة صلات أخرى ...
قال طومان وقد زاد به القلق: جان بردي الغزالي! - نعم يا مولاي، وإن جان بردي ليتعبد له كأنه مولاه، ثم هناك علاء الدولة أمير مرعش وديار بكر، وأنت تعلم يا مولاي ما بينه وبين ابن عثمان من القطيعة والجفوة، فإن بين خاير وبينه من أمارات العداوة، على قدر ما بينه وبين ابن عثمان من المودة، كأن أمير مرعش وديار بكر ليس مثله أميرا من أمراء مصر على بلد من بلاد السلطان الغوري، أو كأن خاير أمير من أمراء ابن عثمان!
هب طومان باي واقفا وراح يذرع الغرفة ذهابا وجيئة، قد بلغ به القلق مبلغا بعيدا، وراح يتحدث إلى نفسه همسا لا يكاد صوته يبلغ أذنيه، ولكنه مما يصطرع في رأسه من الهواجس، يخال أن لذلك الهمس صدى يتجاوب بين جدران الغرفة الأربعة، فيرتد إلى أذنيه ضجيجا صاخبا لا يكاد يطيقه!
ثم عاد فاستقر في موضعه وهو يقول لغلامه: ثم ماذا يا أبرك؟
قال أبرك: لا شيء يا مولاي إلا ما علمت منذ قريب من أمر خشقدم الرومي، فقد بلغ في بلاد الروم منزلة ومكانة، وله أخ في حاشية السلطان سليم قد هيأ له مكان الحظوة والجاه عند السلطان؛ فهو اليوم من جلسائه وأصحاب سره، وقد استفاض بين الناس أن خشقدم قد زين للسلطان سليم أن يغير على بلاد السلطان الغوري، وكشف له عن عوراتها وأطلعه على أسرار الدفاع، ولا يزال الناس على بلاد الحدود في هم منذ استفاضت بينهم هذه الأخبار ... وبين خشقدم اليوم وخاير بن ملباي رسل ورسائل ومودة وثيقة.
هز طومان باي رأسه حنقا وهو يقول كأنما يحدث نفسه: كذلك تضيق حلقاتها على عنق السلطان، والسلطان في غفلته لا يكاد يفطن إلى ما يدبر له، ولقد رأيت خاير في زيارته الأخيرة للقاهرة ، وهو يشهد موكب السلطان في أبهته وتمام زينته، فكأن قد رأيت في عينيه وقتئذ خيال أمنية يتمناها مما بهره من جلال ذلك الموكب، وكأن قد سمعت من ورائه صوت مصرباي هاتفة: إلى العرش يا خاير! فإن مصرباي تتمنى أن تعود سلطانة.
ثم ابتسم ابتسامة خابية وهو يقول: ولكن السلطان لا يخشى تدبير خاير؛ لأن أبا النجم الرمال لم يخوفه إلا سيباي أمير الشام، فهو دائم الحذر منه تصديقا لنبوءة ذلك الدجال ...
قال أبرك: فهل سماه له الرمال باسمه يا مولاي؟
قال طومان ساخرا: أحسبه قال له: إن عرشه سيكون من بعده لأمير أول اسمه س!
قال أبرك في همس وقد زاغت عيناه وحال لونه: أول اسمه س؟ فما أحراه يا مولاي أن يأخذ حذره من السلطان سليم ابن عثمان، ويقطع ما بينه وبين خاير من علائق المودة!
قال طومان غاضبا: اخسأ عليك اللعنة! وهل هانت مصر حتى يكون عرشها لسليم بن بايزيد! إنما هي شعبذة دجال وأوهام شيخ مريض!
ثم سكت برهة يفكر وعاد يقول في هدوء: لا عليك يا أبرك مما نالك من غضب السلطان، وستعود بإذنه إلى قلعة حلب؛ لتكون لنا عينا وأذنا، ولن ينفذ لخاير بن ملباي تدبير وعلى ظهرها طومان باي!
ثم شيع غلامه إلى الباب وعاد إلى مجلسه يفكر ...
كانت مرعش وديار بكر وما يليها من تلك البلاد إمارة مصرية، وكان يحكمها من قبل سلطان مصر الأمير سوار، ولكن هوى سوار كان مع بني عثمان، فجرد السلطان قايتباي حملة فهزمه وفرق جنده وقاده أسيرا إلى القاهرة، ثم أمر به فشنق على باب زويلة، وجعل إمارة مرعش من بعده لأخيه علاء الدولة، وفر أبناء سوار إلى ابن عثمان فأقاموا في جواره، ينتظرون أن تسنح فرصة تعود بهم إلى كرسي الإمارة ويخلعون عمهم علاء الدولة، وعاش علاء الدولة أميرا على تلك البلاد خائفا يترقب، والشر يتربص به من ثلاث جهات، فوراءه أبناء أخيه يأملون أن يعود إليهم عرش هذه الإمارة، وعن يمينه ابن عثمان ملك الروم لا تزال نفسه تراوده ليبسط سلطانه ويوسع رقعة ملكه، وعن يساره الشاه إسماعيل الصفوي - أمير العجم - يطمع أن يحتاز هذه البلاد؛ ليتخذها قاعدة للهجوم على الشام ومصر. وفي نفس علاء الدولة مع ذلك كله أمل في الاستقلال عن سلطان مصر!
وكان السلطان بايزيد العثماني يحكم بلاد الروم قبل أن يغلبه على العرش ولده سليم، وكان سليم فتى في عنفوانه واسع الطموح بعيد مطارح الآمال، فما كاد يثب على عرش أبيه حتى توجس إخوته الشر، فتفرقوا في البلاد فرارا من بطشه، فمنهم من استجار بالشاه إسماعيل الصفوي، ومنهم من عاش في جوار السلطان الغوري، فاشتجرت أسباب الخلاف بين الدول المتجاورة، وكان لا بد من بعدها أن تشتجر الرماح.
وعبأ السلطان سليم جيشه يقصد بلاد الصفوي، وما كان له أن ينفذ إلى حيث يريد، وفي الطريق علاء الدولة أمير مرعش وديار بكر، فكتب علاء الدولة إلى السلطان الغوري يؤذنه بنية السلطان سليم ويلتمس معونته، وكتب إليه السلطان سليم يشكو إليه عامله علاء الدولة ويسأله حق المرور، وكان الغوري يخشى السلطان سليما، ويحذر الصفوي، ولا يأمن غدرة علاء الدولة، فكأنما عاوده داؤه القديم، وخيل إليه أنه مستطيع بسياسته التقليدية العتيقة أن يغري بعض أعدائه ببعض، ويخلي بينهم حتى يتفانوا، فكتب إلى علاء الدولة يأمره أن يعترض سبيل ابن عثمان، وكتب إلى ابن عثمان يغريه بعلاء الدولة، ويصفه بالعصيان والمروق من الطاعة ... وأيقن أن الغالب منهما سيولي وجهه شطر إسماعيل الصفوي، فيخلص من الثلاثة أو يكسر شوكتهم في وقت معا ... ووقف ينتظر.
وكان أبناء سوار في جيش السلطان سليم، فتدانت لهم الآمال في العودة إلى الإمارة التي كانت لأبيهم في يوم ما قبل أن يليها علاء الدولة، فتقدموا الصفوف يطلبون الثأر ... وانحاز إليهم من انحاز من جند علاء الدولة، ولاء لأبيهم، ودارت الدائرة على علاء الدولة، وسيق هو وأمراء جنده أسرى إلى السلطان سليم، فاحتز رءوسهم وأرسلها هدية إلى السلطان الغوري في القاهرة. ووثب ابن سوار إلى عرش أبيه ... تؤيده جند السلطان سليم!
ورفرف لواء الدولة العثمانية على أول أرض مصرية، وتلبث السلطان سليم ينتظر رجع الصدى، فلم يتقدم إلى شمال أو إلى يمين.
قال خشقدم الرومي: أما إنك يا مولاي قد حميت ظهرك من إسماعيل الصفوي بتولية ابن سوار على هذه الإمارة، فلو شئت لمضيت في طريقك حتى تغلب على حلب ودمشق، وتحتاز الشام من أطرافها فلا يقف في سبيلك شيء.
قال السلطان سليم ضاحكا: إنك يا خشقدم لتتعجل الأمر قبل أوانه، ومن أين لنا الجند والعتاد حتى نتغلب على حامية حلب، فننفذ منها إلى دمشق والشام، ونحتاز البلاد من أطرافها كما تأمل، وفي حلب قوة مصرية لا يثبت لها جيش من الروم؟!
قال خشقدم منكرا: أفلا يزال مولاي يشك في ولاء خاير بك، على ما قدم من المواثيق وأمارات الطاعة، أم أن مولاي لا يراه أهلا للوفاء بما وعد من نصرة جيش الروم؟!
قال السلطان: بلى، ولكن خاير جركسي كما تعلم، فلست آمن أن ينتقض علينا حين يجد الجد؛ انتصارا لبني جنسه.
قال خشقدم ضاحكا: وهل علم مولاي لجركسي من هؤلاء المماليك عاطفة تحن به إلى أهله أو تربطه بوطنه، وإنما يقتل بعضهم بعضا ليبلغوا العرش، يستمتعون به حينا حتى يأتي من يقتلهم ليبلغ من بعدهم ذلك العرش، ويتخلق بدم السلطان القتيل! ثم هنالك يا مولاي جان بردي الغزالي أمير حماة، فقد عقد لي المواثيق والأيمان، وهنالك سيباي أمير الشام.
فقاطعه السلطان سليم قائلا: أما سيباي فلست آمن جانبه، على ما تصف مما بينه وبين الغوري من أسباب العداوة والبغضاء.
قال خشقدم: نعم، ولكنه إلا يكن معنا فلن يكون علينا، فنحن على الحالين في أمان منه.
قال الوزير أحمد بن هرسك: يا مولاي! إنها أماني تهتز لها النفس، ولكنها لا تغني من الحق شيئا؛ لقد كنت أمير الجند في تلك الحرب التي كانت بين جيش أبيك وجند قايتباي في ذلك التاريخ البعيد، وكأني أرى بعيني الساعة مصارع جندي على تلك الغبراء، لا يكاد يثبت جندي منهم لطعنة مصرية، وقد رأيتني يومئذ وأنا أقاد أسيرا في الأغلال إلى مجلس السلطان قايتباي في القاهرة، فيعفو عني ويمن علي بالحرية، وهو يقول لي باسما: «كيف رأيت جيش مصر يا أمير؟» وأقسم لمولاي صادقا أنني لم أومن في حياتي بحقيقة، كما آمنت يومئذ ولا أزال أومن حتى اليوم بأن جيش مصر لا يغلب، وقد آليت من يومئذ ألا أرفع سيفي في وجه مصري من أهل القبلة ... فإن شاء مولاي فقد بذلت له النصح.
قال السلطان ضاحكا: اسكت يا شيخ! إنك لتحمل على كاهلك من أعباء السنين ما لا تقوى معه على حمل الراية على رأس جيش السلطان سليم!
مثل سفير ابن عثمان بين يدي السلطان الغوري يبشره بما فتح الله على السلطان سليم، وما أتاح له من النصر على علاء الدولة صاحب مرعش، ويقدم له رءوس القتلى ...
وخفق قلب السلطان الشيخ خفقة ذعر، واختلج ضميره اختلاجة ندم، وتخيل علاء الدولة وقد تفرق من حوله جنده وأسلموه إلى عدوه يحتز رأسه، فكأن قد رأى نفسه في مثل موقفه ذاك في يوم ما ... فشحب وجهه وبردت أطرافه، ثم استجمع قوته ليقول لسفير ابن عثمان: إنني لسعيد بما أفاء الله على السلطان سليم من النصر والغنيمة، ولعله أن يجد من توفيق الله في قتال الصفوية، مثل ما لقي في قتال ذلك الخارجي العاصي ...
وعض على شفتيه وعاد قلبه يخفق، وأحس وخز ضميره.
وغادر السفير مجلس السلطان، فدعا الغوري أمراءه ليشاورهم في الأمر: إن قلبه ليحدثه بأن شرا يتربص به على حدود الدولة، حيث خيمت جنود ابن عثمان في انتظار ما يصدر إليهم من أمر، إما إلى الشرق وإما إلى الغرب.
واجتمع الأمراء في مجلس السلطان يتبادلون المشورة، وقال الغوري: ليس بي من خوف، وإن أمراءنا على الحدود لأهل حمية في الدفاع، وما أخشى منهم إلا أن ينتقض سيباي نائب الشام.
قال الدوادار الكبير طومان باي: ولكني يا مولاي أخشى غدرة خاير بن ملباي نائب حلب أكثر مما أخشى سيباي، إن سيباي لذو حفاظ ومروءة، وإن خيل لمولاي ما خيل من أمره، أما خاير ...
فقاطعه الغوري قائلا: لا تزال يا أمير تسيء الظن بخاير بك، وما أراه أهلا لموجدتك، على أننا لم نجتمع الساعة للمشاورة في شأن خاير أو سيباي، ولكنني أخشى غدرة ابن عثمان!
وتشاور الأمراء ساعة ثم انتهوا إلى الرأي، واتفقوا على إنفاذ حملة احتياطية إلى حلب، تنتظر ما يكون من أمر ابن عثمان والصفوي، وتعد عدتها للدفاع ... وإيفاد رسول إلى بلاد ابن عثمان يستطلع الأنباء ويقتص الأثر ...
ومضت أشهر قبل أن تخرج الحملة المصرية إلى حلب، وقبل أن يسافر رسول السلطان، وكان سفراء ابن عثمان لا يزالون يفدون إلى القاهرة سفيرا بعد سفير ثم يعودون، فيولم لهم السلطان ولائمه ويكرم وفادتهم، وعيونهم مبثوثة في كل حي من أحياء القاهرة وآذانهم مرهفة للسمع ...
ثم بدأت طلائع الحملة المصرية تخرج إلى الشام في طريقها إلى حلب؛ انتظارا لما يكون من أمر الغوري والسلطان سليم، وكان على رأسها الأمير أبرك صاحب الدوادار الكبير طومان باي.
الفصل التاسع والعشرون
شعاع من النور
استدار المملوك الشاب على عقبيه، وفي وجهه أمارات غيظ شديد، فالتقت عيناه بعيني تلك الجركسية الملثمة التي تلاحق خطاه منذ خرج من دار الإمارة في حلب، فأقبل عليها مغضبا يقول: ما شأنك وشأني يا أماه، ولماذا تطاردينني كذلك على طول الطريق كأنما مطلتك بدين؟!
قالت نوركلدي وقد اخضلت عيناها وبدا في وجهها الانكسار والذلة: لا تعجل علي بالغضب يا بني، إن أنا إلا أم فقدت وحيدها فبرزت إلى الطريق تتفرس وجوه الناس؛ آملة أن تجد فتاها الذي تفتقده منذ عمر مديد!
قال المملوك وقد زاد به الغيظ والغضب: وتحسبينني ذلك الفتى أيتها الجركسية، أم أنت تحاولين أن تخدعيني كأنني لا أعرف من تكونين؟
ثم عاد فأولاها ظهرها ومضى في طريقه، وتركها في مكانها لا تنقل قدما ولا تحاول حركة، وقد تعاقبت على نفسها ألوان من العاصفة، وغمرتها موجة من الشك والقلق وهي تقول لنفسها في حيرة: إذن فهو يعرف من أكون ... فهل يعرف أين ألقى ولدي طومان!
ثم هرولت إليه تناديه في لهفة لا تبالي نظرات الناس، وما ارتسم على وجوههم من أمارات السخرية والدهشة، وما تلفظ شفاههم من عبارات الاستنكار.
امرأة في خريف العمر قد جف عودها وأدبر عنها الشباب، لا يزال يراها الناس في حلب منذ سنين، تجوس خلال أسواق المدينة تتفرس في وجوه الرجال بعينين ظامئتين فيهما لهفة وحنين، وتعترض سبيل الشبان في الأسواق بوجه ليس فيه حياء، فلو قدرت لاستوقفت كل عابر في الطريق، وكل جالس على دكانه تتحدث إليه ...
وعرفها كل فتى في المدينة وكل رجل، تلك الجركسية الملثمة التي تبرز للرجال في حنايا الدروب، على شفتيها ابتسامتها وفي نظراتها الحنين واللهفة! مجنونة!
ها هي ذي تعدو في أثر ذلك الفتى من مماليك الأمير خاير، تناديه وهو ماض في طريقه لا يلتفت ولا ينظر كأن لم يسمع نداءها، والناس ينظرون إليها ساخرين أو منكرين! هل فيهم من يعرف حقا من تكون تلك الجركسية الملثمة التي تعترض الفتيان بكل سبيل، وتقعد لهم في كل مرصد؟
وغاب المملوك الشاب عن عينيها في زحمة الطريق، فأمسكت عن العدو ووقفت لاهثة وهي تدير في وجوه الناس نظرات حائرة فيها القلق والحيرة، وفيها الحنين واللهفة.
ذلك مملوك من بطانة الأمير خاير بك كانت تأمل أن يهديها إلى طريق ولدها طومان باي، أليس مسعود الخاني قد أنبأها منذ بعيد أن أمير حلب كان في يوم ما رفيقا لولدها طومان؛ فإن الأمير أو غلاما من بطانته يستطيع أن يكشف لها عن شيء من خبر ولدها الذي تفتقده منذ سنين، لقد كان مسعود يستطيع أن يصحبها إلى دار الإمارة ويجمع بينها وبين الأمير نفسه فتتحدث إليه وتسمع منه، ولكن مسعودا قد أبى عليها أن تسلك هذا السبيل حين خيل إليه أن ولدها طومان يعيش في حلب؛ لأنه لم يفارق حلب يوم فارقها خاير في ركب تاجر المماليك جاني باي، وإذن فلا بد أن تلقاه أمه يوما ما في سوق من أسواق هذه المدينة على غير ميعاد. وفسح لها مسعود في ذلك الأمل حتى اعتقدته حقا، وعاشت منذ ذلك اليوم في حلب، تجوس خلال الأسواق وتتفرس في وجوه الرجال، وتعترض سبيل كل شاب؛ حتى ليخيل إليها أن تستوقف كل عابر في الطريق، وكل جالس على دكانه لتتحدث إليه وتسأل عن ولدها طومان باي.
وأيقنت بعد لأي أن طومان باي ليس في حلب، لقد فارق هذه المدينة في يوم ما قبل أن تهبط إليها أمه، فإنها لتكاد تعرف كل شاب في هذه المدينة وكل رجل، وما منهم واحد إلا لقيته مرة أو مرات، فما وقعت عينها منذ بعيد على وجه جديد، إلا وجوه هؤلاء الجند الذين وفدوا إلى حلب منذ قريب، يتهيئون للدفاع عن حدود الدولة حين يدعوهم قائدهم إلى الدفاع!
ولكن أين ذهب طومان حين ذهب من حلب؟! إنها لتحس إحساس الأمومة الملهمة أنه لم يزل حيا يعيش في مكان ما، فمن ذا يدلها على مكانه ذاك؟ لا أحد إلا الأمير خاير نفسه، أليس قد كان في يوم ما رفيقا لولدها طومان كما حدثها مسعود؟ فمن ذا يصحبها إلى دار الإمارة ويجمع بينها وبين الأمير خاير لتتحدث إليه وتسمع منه، فلعله قد لقي طومان باي ثانية بعد ذلك الفراق، ولعله يعرف أين تلقاه!
وهذا مملوك من مماليك الأمير خاير قد فر من بين يديها قبل أن تسمع منه، وإنه ليعرف من تكون، هكذا سمعته يقول قبل أن يولي وجهه، وإذن فهو يعرف أنها أم طومان، ويعرف طومان نفسه وأين يكون.
لماذا فر من بين يديها ذلك المملوك مغضبا عجلان وأبى أن يتحدث إليها؟ ولكنها لا بد أن تلقاه ثانية وتتحدث إليه وتسمع منه، وتعرف أين تلقى ولدها طومان باي.
ومر بها مملوك آخر وهي في موقفها ذاك تتحدث إلى نفسها ذلك الحديث، فأتبعته عينين فيهما لهفة وحنين، وانطبعت على شفتيها ابتسامتها، ونظر إليها الفتى وابتسم، فخطت إليه خطوة تهم أن تستوقفه، فقال الفتى ساخرا: ابعدي أيتها العجوز! قد عرفتك!
وضحك، وجاوبته ضحكات طائفة من أصحابه على مقربة، وقال له واحد منهم: أرأيت؟ كذلك تستوقف كل شاب يعبر الطريق، وإنها لعجوز في خريف العمر!
قال فتى آخر: لست أشك أنها مجنونة!
قال ثالث: لو كانت مجنونة لتساوى في مرأى عينيها الشيوخ والشباب، وإنما هي مفتونة!
قال رابع: إن من حقها أن يفتنها جمال الشباب، فإن في وجهها أمارات تنبئ أنها كانت ذات يوم شابة فاتنة!
وكانت نوركلدي منهم بحيث تسمع وترى، وعرفت لأول مرة بماذا يتحدث عنها أهل تلك المدينة ... أفذلك رأي الناس عنها وتلك أحاديث الشيوخ والشباب، فقد عرفت إذن لماذا ترف هذه البسمات على شفاه الناس حين يرونها!
وازدحمت في رأسها ذكريات بضعة وعشرين عاما مرت بها بطيئة متثاقلة، تتعاقب فيها على نفسها ألوان من الهم والأسى لم يخطر مثلها على قلب بشر، واحتشدت في مرأى عينيها صور ذلك الماضي الحافل بالآلام وأوجاع النفس، وما احتملت من مشقات الحياة راضية في سبيل ما تنشد من أمل، وضاق صدرها عن ذلك القلب الذي يختنق بذكريات الماضي وأماني المستقبل، فكأنما رفرف بين ضلوعها بجناحي طائر، وهم أن يثب ليخرج من قفصه إلى فضاء الله، ثم ارتد من عجز كسير الجناح ... وهوت العجوز الشابة على الطريق ليس لها وعي ولا حراك!
وأسرع إليها الفتيان ينظرون ما بها واستداروا حولها حلقة، ثم حملوها جسدا ساكنا إلى دار قريبة وراحوا يعالجونها بالعطر والبخور، ويذكرون في أذنيها اسم الله ...
وأفاقت ودارت بعينيها فيما حولها ثم أطرقت ... ومضت ساعات قبل أن تجد في نفسها القوة؛ لتعود إلى الدار التي اتخذتها مأوى في هذه المدينة التي ليس لها فيها حبيب ولا نسيب.
وصحبها على الطريق شيخ من شيوخ المماليك إلى حيث تذهب، وكان اسم ذلك الشيخ: جاني باي! - إذن فأنت جاني باي صاحب الأمير خاير بك؟ - نعم يا سيدتي! - وكنت تعرف رجلا من تجار المماليك في بطانة قايتباي اسمه جقمق؟ - نعم يا سيدتي، وقد كان - رحمه الله - أخي وجاري!
وبلعت المرأة ريقها وهمت أن تسأله سؤالا آخر ثم أمسكت، لقد عاودها الأمل في لقاء طومان باي، وإنها بهذا الأمل لسعيدة ، وإنها مع ذلك لخائفة، تخشى أن تذهب سعادتها هذه الطارئة لو سألته فأجاب ... فيردها جوابه ذاك إلى اليأس والعذاب!
قال جاني باي وقد ضاق بذلك الصمت: ولكن ما شأنك يا سيدتي وشأن جقمق؟
فعادت المرأة إلى نفسها وقالت باسمة: ذلك ماض بعيد، فهل تذكر أن جقمق قد باعك ذات مرة في حلب فتاة جركسية اسمها مصرباي، فرحلت بها في قافلتك إلى القاهرة؟ - نعم، أذكر ذلك يا سيدتي، وكيف أنسى خوند مصرباي أرملة الناصر بن قايتباي، وزوجة الظاهر قنصوه، وصديقة أمير حلب خاير بك؟
فغرت المرأة فمها مدهوشة وقالت: خوند مصرباي! - نعم يا سيدتي، وكانت قبل أن تصعد إلى العرش رقيقا في يد جاني باي، ومن قبله في يد جقمق، فأين منها اليوم جقمق وجاني باي!
قالت المرأة وأطرقت برأسها تغالب ما في نفسها من القلق والإشفاق: وطومان باي ...
قال الرجل في دهشة: وتعرفين الأمير طومان باي الدوادار يا سيدتي! - الدوادار! - نعم، ابن أخي السلطان، ودواداره الكبير، وصاحب سره ونجواه! - طومان! - نعم، وكان رقيقا تحت يد جقمق، قبل أن يشتريه قنصوه الغوري فيعرف أنه ابن أخيه، وكأني أراه الساعة هو وخشقدم الرومي في يد جقمق بالبهو الكبير في خان مسعود، لا يعرف ماذا يخبئ له الغد من المجد والسعادة!
قالت المرأة هامسة وكأنما تهذي من حمى، وقد غاب سواد عينيها ومال رأسها إلى ناحية: طومان، ابن أخي السلطان!
وانهار عزمها فهوت في مكانها وعاودها الداء، ثم استفاقت، وكان لم يزل إلى جانبها جاني باي الشيخ ...
قال الرجل وقد فاءت المرأة إلى نفسها، وعادت إلى مجلسها بين يديه صامتة تحدق فيه بعينين شاكرتين، وعلى شفتيها ترف ابتسامة هادئة: ماذا بك يا سيدتي؟
قالت وكأنما تتحدث إليه من مكان بعيد: لا شيء، إنما هو داء يعتادني إذا ضاقت نفسي، ولكن قل لي: من أخبرك أن السلطان هو عم طومان، وما أعلم لأبيه أخا؟
قال الرجل مدهوشا: أفأنت تعرفين طومان وأباه يا سيدتي؟
فعضت المرأة على شفتيها واستدركت قائلة: لا، وإنما حسبته لا عم له !
قال جاني باي: وكذلك كان يحسب طومان باي نفسه فيما قص علي، ولكن حديثا جرى على لسانه ذات يوم في مجلس قنصوه الغوري بحلب، عرف منه قنصوه أن طومان باي ابن أخيه، فأعتقه واتخذه ولدا، وهو اليوم دواداره الكبير وصاحب تدبيره، وما أراه إلا سلطان مصر في غد، وقد خلفته منذ أسابيع في القاهرة وليس بها أحد أعز منه جانبا وأرفع شأنا ...
وصمت جاني باي برهة ثم قال: ولكنك يا سيدتي لم تحدثيني ما شأنك وشأن جقمق ومصرباي، والأمير طومان باي الدوادار؟!
قالت المرأة في هدوء: لا شيء هناك يا سيدي، ولكني لقيتهم ذات يوم منذ سنين في خان يونس بقيسارية، فطاب لي أن أسأل عن خبرهم صديقا كريما مثلك ...
ثم أمسكت لحظة تفكر، وعادت تسأل جاني باي: إنني على أن أذهب في رحلة إلى القاهرة بعد أيام، فهل تعرف قافلة أصحبها في ذلك الطريق؟
قال جاني باي: أما الآن يا سيدتي فلا، إن جيوش السلطان الغوري اليوم لتزحم الطريق بين حلب والقاهرة، فلا سبيل إلى تلك الرحلة إلا بعد أن ينتهي ما بين ابن عثمان وسلطان مصر، وما أظنه ينتهي عن قريب، فقد تركت السلطان الغوري في القاهرة يتأهب لحرب طاحنة، قد حشد لها كل ما في طوقه أن يحشد من الجند وعدة القتال، وأظنه اليوم على الطريق إلى حلب في جيش كثيف يحجب غباره وجه السماء ...
قالت نوركلدي: وطومان باي معه؟ - لا يا سيدتي، فقد اختار الغوري أن ينيب عنه بالقاهرة في أثناء غيبته طومان باي الدوادار الكبير!
الفصل الثلاثون
بوادر المعركة
لم تكد الحملة الاحتياطية التي بعث بها السلطان الغوري إلى حلب تستقر فيها أياما، حتى نشأت بينها وبين أهل المدينة جفوة، فقد كان الجند في حاجة إلى الغذاء والمأوى، فغلت الأسعار، وازدحمت الدور بسكانها، وكان ما لا بد أن يكون بين المحاربين والمدنيين حين تضيق المدينة بأهلها والطارئين عليها، فتنشأ أسباب الخصام والبغضاء، وطالت إقامة الجند في حلب فارغين لا عمل لهم، فزينت لهم البطالة ما زينت من الشهوات، فانطلقوا فيما زين لهم من الباطل حتى غضب الخاصة والعامة، وغضب أمير المدينة ...
واستحكم العداء بين الجند والشعب، فآثر كثير من هؤلاء وأولئك أن يغادروا حلب؛ فرارا بأنفسهم من فتنة توشك أن تندلع نارها بين طائفتين من رعايا السلطان، وكان تدبيرا مبيتا لتفريق القلوب المؤتلفة وتقريب عوامل الهزيمة ...
كان ذلك في حلب، أما في القاهرة فكانت الأنباء تترى من الشرق بما أعد السلطان سليم من الجند والعتاد، فإن حديثه ليدور على ألسنة المصريين جميعا حيث يلتقون في المساجد للصلاة، وحيث يجتمعون في الأسواق للبيع والشراء، وحيث يتنادون للسمر واللهو في دور الأمراء والسادة وفي مجالس الغناء ...
قال بدر الدين شيخ قبة يشبك: أما أنا فلا أحسب سليم ابن عثمان يقصد مصر، إنه لأبعد نظرا من أن يرمي بجنده إلى الهلكة في غير مطمع، إن مصر لأعز جانبا وأعظم قوة!
قال جركسي من القرانصة في المجلس: أفما سمعت بما اجتمع له من الجند، وما هيأ من أدوات القتال؟ أفتحسبه قد أعد ذلك كله من أجل إسماعيل الصفوي؟
قال بدر الدين: نعم، وليس يغيب عنك أن له ثأرا عند الصفوية يطمع أن يناله، ثم إنه - ولا ريب - يعلم علم اليقين قوة بأس السلطان الغوري وشدة مراسه، وأين سليم بن بايزيد من الغوري؟!
تململ أرقم الرمال في مجلسه وقال منكرا: لا تزال يا سيدنا تذكر الغوري بما ليس فيه، فكيف يغيب عنك قوة سليم ابن عثمان وشدة مراسه، وإنه لشاب لم يزل في يديه غده؟!
قال بدر الدين مغضبا: اسمع يا أرقم: أما أن تقحم ما بينك وبين الغوري من عداوة في الأمر، وتنسى حق بلادك عليك فهذا ما لا صبر عليه! قد يكون سليم ابن عثمان على نية الحرب لمصر، وقد يكون استعداده لحرب الصفوي، وقد يكون الغوري على ما تصف من سوء التدبير وضعف النفس وفساد الضمير أو لا يكون، ولكنه - على ما يكون من صفاته - سلطان مصر التي يتربص بها العدو على الحدود، فاليوم تنمحي كل أسباب البغضاء لنذكر حق هذا الوطن ...
اختلج أرقم في مجلسه اختلاجة ظاهرة وهم أن يجيب، ثم أمسك حين ابتدر الحديث واحد من الجماعة يقول: ليس في مصر أحد يزعم أن الغوري - وقد جلس على عرش مصر ستة عشر عاما - قد حكم فعدل، وساس فأحكم السياسة، ورعى هذا الشعب فأحسن رعيته، ولكن الأمر اليوم ليس هو أمر السلطان الغوري، ولكنه أمر مصر التي توشك أن تطأها خيل الروم، وقد أجمعت أمري - على ما بي من الكره لهذا السلطان - أن أتطوع للحرب جنديا في المقدمة أو في المؤخرة، يوم تسول للسلطان سليم نفسه أن يغزو مصر أو يكون له في بلادنا أمر ...
قال الجركسي: فقد سولت له نفسه ... فهل نراك غدا يا صديقي فارسا على السرج أو راجلا في الصف؟
قال الرجل: بل إنني كذلك منذ اليوم ومن ورائي بني وإخوتي وأهلي!
قال أرقم الرمال باسما: ومن ورائك أرقم الرمال ... ولا يحسب سيدنا أنني أقل حفاظا على حق الوطن وإن كنت أكره ذلك السلطان!
قال الجركسي: أما أنا فلن أحمل السيف حتى أعرف كم ينفق علي الغوري مما اجتمع في خزائنه، فلست أرضى أن أكون في جيشه جنديا بلا نفقة، وهو ينفق على جلبانه ما ينفق ولا يندبهم لحرب؛ حتى لكأني به يريد أن يستأصل القرانصة لتخلص له ولجلبانه مصر كلها يأكلون الحرام مما اجتمع لهم من مالي ومال الناس بالغصب والعذاب.
قال الشيخ بدر الدين منكرا: أخ!
فأجاب الجركسي في حدة: لا أخ ولا بخ يا سيدنا، إنه هو الحق يقال ...
قال أعرابي في أقصى المجلس وهب واقفا يتهيأ للانصراف: نعم إنه الحق وإن غضب الشيخ، لقد أكلنا الغوري شحما ولحما ويطمع أن يحارب عدوه منا بعظم معروق، حسبه أن يكون في جنده أرقم الرمال إن كان عنده للقتال عزم!
ثم غادر المجلس تشيعه الأنظار، فلم يكد يبتعد حتى ارتدت أبصار الجماعة إلى أرقم الرمال ... ذلك المسيخ المشوه الخلق الأحمش الساقين المستكرش البطن، كأنه صرة ثياب على عصوين من قصب ... أيريد ذلك المسيخ - على ما به من الهرم والضعف والوهن، وعلى ما يضمر من الكره والبغضاء للغوري - أن يكون جنديا تحت رايته ليدفع عن مصر؟!
وكأنما ألم بالجماعة خاطر واحد حين التقت أعينهم في لحظة معا بعيني ذلك المسيخ الهرم، وهو متكور في مجلسه إلى يمين الشيخ، فابتسموا، وكأنما ألم الخاطر نفسه بأرقم، فانفرجت شفتاه عن شيء يشبه الابتسام، ثم حدق بعينيه فيما أمامه وانسرح في واد من الأوهام!
وعاشت القاهرة في هم ناصب بضعة أشهر، ولم تزل الأنباء تترادف على مصر بعظم استعداد ابن عثمان على الحدود، فأجمع السلطان أمره على الخروج ... وأصدر أمره إلى الأمراء، وإلى القرانصة والجلبان، وإلى الفلاحين وأولاد الناس، وإلى أعراب البادية ... ودعا إلى صحبته الخليفة العباسي، ودعا شيوخ الصوفية الأربعة، ودعا قضاة القضاة ونوابهم، وحشد العمال والصناع وذوي الحرف وأصحاب الفنون، ولم ينس أن يكون في ركبه طائفة من المغنين والمغنيات، وناقري الدفوف ونافخي الشبابة وأصحاب المزامير.
واجتمع للغوري جيش لم يجتمع مثله لقايتباي ولا لسلطان مصري قبل قايتباي أو بعده، وحمل معه خزائنه بما اجتمع له فيها من المال منذ ولي العرش، وحزم نفائسه ومقتنياته الغالية محمولة على البغال والنجائب. واحتشدت القاهرة كلها تشهد جيش السلطان الغوري خارجا للقاء ابن عثمان ...
وبقي في القاهرة نائب السلطان الأمير طومان باي الدودار ...
وترادفت الكتائب على الطريق كتيبة وراء كتيبة تحمل أعلامها ويشيعها الناس بالدعوات، وخرج موكب السلطان آخر الركب تظله رايته ويختال من تحته فرسه، وقد حف به أتباعه وبطانته وخاصة أمرائه، وكان يتبعهم على الطريق فارس على سرجه، كأنه صرة ثياب مشدودة إلى ظهر حصان قد تدلى منها على الجانبين عصوان من قصب ...
وأشار الناس بالأصابع إلى ذلك الفارس هاتفين في عجب ودهشة، أو في إعجاب وتقدير: أرقم الرمال!
ولكن أرقم لم يكن وقتئذ في حالة من الوعي بحيث يرى هذه الأصابع مشيرة، أو يسمع هذه الأصوات هاتفه، بل كان في سبحة من سبحاته الخيالية البعيدة تكاد تتراءى في عينيه بعض صورها.
وانتهى الجيش إلى دمشق ، فانضم إليه سيباي أمير الشام بجيش من جنده، وانضم إليه جان بردي الغزالي أمير حماة.
واستأنف الجيش سيره حتى بلغ حلب.
وتلبث السلطان قليلا حتى تأتيه الأنباء.
وجاءه سفير من قبل السلطان سليم ابن عثمان، يستهديه بعض طرائف مصر ويسأله شيئا من السكر والحلوى! فاطمأنت نفس الغوري وثاب إليه الهدوء، وبعث مع السفير بما طلب ... وأرسل وراءه سفيره مغل باي يقتص الخبر.
قال خاير بك أمير حلب: يا مولاي، إن ابن عثمان ليضمر لك المودة ويحفظ لك الأبوة، وإني لكفء للدفاع إذا آثر مولاي أن يعود إلى حاضرته آمنا موفورا ويدع لي حماية الحدود!
قال جان بردي الغزالي: وعبدك جان بردي يا مولاي من وراء الأمير خاير بك يمده بما يحتاج إليه من الجند والعتاد، وما أراه في قتال الروم بحاجة إلى مدد من الجند أو العتاد!
وصرت أسنان سيباي ولم ينطق، فمال إليه السلطان يسأله: وماذا ترى أنت يا أمير سيباي؟
قال سيباي وفي وجهه أمارات الجد: فيأذن لي مولاي في خلوة لأتحدث إليه فلا أغشه!
فأنغض السلطان رأسه ولم يجب ...
ثم خلا لهما المجلس بعد حين فأسر إليه سيباي برأيه ...
قال السلطان مدهوشا: تريد أن أقتل خاير بك يا أمير؟ ومن يبقى لي من أمراء الجند بعد مقتل خاير بك؟! - يبقى لك الجند مجتمعة قلوبهم على الولاء لك، لا يسعى بينهم ساع بدسيسة عثمانية تفرقهم شيعا حين يجد الجد وتنشب المعركة!
قال الغوري قلقا: أتظن خاير بك يسعى بالدسيسة بين المماليك؟
بل أنا مستيقن يا مولاي، وذلك الشغب الناشب بين القرانصة والجلبان من أجل النفقة ليس إلا تدبيرا من تدبيره؛ ليهيئ لابن عثمان فرصته ... - وترى خاير أهلا لهذا التدبير يا أمير؟ - بل هو لا يحسن إلا مثل هذا التدبير، يريد أن يبتدر الوسيلة ليخلص إلى العرش يا مولاي. - خاير يطمع في عرش الغوري؟ - نعم، وقد واثق ابن عثمان على أن يؤازره في سبيل هذه الغاية.
قهقه الغوري ومال برأسه إلى الوراء وهو يقول: ولكن أصحاب الطوالع لم يذكروا لي أن العرش من بعدي يكون لأمير أول اسمه خ، فإن صح ما حدثوني به فإن لك مأربا من وراء هذه الوقيعة بيني وبين الأمير خاير.
ثم قطب وكشر عن أنيابه وأردف: وأظنك يا سيباي قد استنبأت أصحاب النجوم فأنبئوك، فخيل إليك ما خيل من تلك الأوهام، وإنما كانوا ينظرون في نجوم آفلة!
بدت الدهشة في وجه سيباي واحتبس لسانه فلم يدر بماذا يجيب؛ لأنه لم يفهم شيئا مما عناه السلطان. وهم أن يسأله توضيح ما قاله حين رأى جان بردي الغزالي مقبلا من بعيد فأمسك، وأقبل جان بردي فحيا وجلس، وأطبق الصمت على المكان، وقال السلطان بعد برهة: وأنت يا جان بردي بماذا تشير علي في أمر خاير، وقد أشار سيباي بمقتله، ويراه يضمر لنا الغدر والخيانة؟!
اصفر وجه جان بردي وأمسك لحظة عن الجواب، وهو يقلب بصره بين السلطان وسيباي، ثم قال: وماذا يظن بنا العدو يا مولاي إذا بلغه أن السلطان الغوري يقتل أمراءه؟
ثم سكت وهو يردد بصره بينهما قلقا، ولم يزل في وجهه الشحوب، قال السلطان: صدقت! فماذا يظن بنا العدو يا جان بردي؟!
كان ذلك الحديث يدور في خيمة السلطان، وإن بين المماليك القدماء في مضاربهم حديثا آخر، يلقفونه فما عن فم لا يدرون من أشاع بينهم شائعته ونبههم إليه؛ فقد جاءهم أن السلطان قد أجمع خطته على أن يكون المماليك القرانصة في الصف الأول حين تنشب المعركة؛ لتحصدهم المنايا ويبقى مماليكه الجلبان بمنجاة من سيوف الروم ونيران بنادقهم ... «أفلم يكف السلطان أن جعل أرزاق الحرب ضعفين للجلبان، ولم يمنح القرانصة إلا القليل من النفقة؟ أعليهم وحدهم أن يموتوا بلا ثمن على حين يستمتع الجلبان بالرزق والسلامة؟!»
قال قائل منهم: احذروا الفتنة أيها الجند، فما أرى السلطان قد قدمكم في الصف الأول إلا إقرارا بشجاعتكم، وعرفانا بما اكتسبتم من الخبرة في الحروب وطول المراس، وإنكم لجديرون إذا غلبتم بأن تكون لكم وحدكم الغنيمة دون من وراءكم من الجلبان ...
ولكن ذلك القائل لم يكد يفرغ من حديثه حتى غرق صوته في ضجة صاخبة، قد انبعثت من كل جانب، يستنكرون دفاعه ذاك ويعبرون بالضجيج عن سخطهم على خطة السلطان، فقد وقر في نفوسهم منذ سمعوا الكلمة الأولى أن السلطان الغوري لا يقصد بهم إلا الشر.
وهمس مملوك منهم في أذن صاحبه: أحسبني قد عرفت من قالها وماذا أراد؛ فما هي إلا دسيسة عثمانية أرسلها في الجند خاير بن ملباي على لسان مملوك من مماليكه لأمر قد بيته بليل!
قال صاحبه: صه! هذان خاير وجان بردي الغزالي يتفقدان الجند.
الفصل الحادي والثلاثون
الثأر
هل كان سليم ابن عثمان يعبئ جيشه لحرب الصفوية أو للغارة على بلاد مصر؟
وهل كان مقدم الغوري في جيشه ذاك؛ ليحاول الصلح بين ابن عثمان والصفوي - كما زعم - أو ليتأهب للدفاع عن حدود بلاده؟
ذانك هما السؤالان اللذان كانا يترددان على شفاه العسكرين في تلك الأيام الشداد، وكان الغوري والسلطان سليم يحاول كل منهما أن يخدع صاحبه ليخفي عنه مقصده حتى يستكمل أهبته، ولكن الجواب الصريح لم يلبث أن جاء الغوري على لسان سفيره مغل باي، حين عاد من بلاد ابن عثمان حليق اللحية خلق الثياب على رأسه طرطور، وتحته حمار هزيل لا يكاد يقله، وكأنما لطمه السلطان سليم لطمة أطارت لحيته وعمامته، ورده إلى مولاه كسيرا يحمل إليه نذير الحرب.
وكان الموعد مرج دابق على مسيرة يوم شمالي حلب.
وإذن فهي الحرب لا مناص.
وخرج الغوري في حاشيته يرفرف عليه لواؤه السلطاني، ويحيط به الخليفة العباسي، وشيوخ الصوفية، وطائفة من الدراويش وأهل الصلاح والخير، وكان على ميمنته سيباي أمير الشام، وعلى الميسرة خاير بن ملباي أمير حلب، وفي المقدمة القرانصة من مماليك السلاطين الماضين، وقبع الجلبان مماليك السلطان الغوري في المؤخرة، يأملون أن يغني عنهم دفاع القرانصة الشجعان فلا يصلون حر القتال في الصفوف الأولى ...
وفي الجمع المحتشد من الصوفية والدراويش والفقهاء تحت لواء السلطان، كان شيخ مسيخ، مشوه الخلق، مائل الفك، مستكرش البطن، أحمش الساقين، قد لصق بظهر فرسه متكورا عليه كأنه صرة ثياب يتدلى على جانبيها عصوان من قصب، وكان في يده سيف مشهور يترقرق في مائه شعاع الشمس، وعيناه تدوران في محجريهما إلى يمين وإلى شمال، لا يريد أن تفوته حركة مما حوله ...
ذلك أرقم الرمال قد خرج في يوم الكريهة ليؤدي فريضته.
والتقى العسكران، وحمل الفرسان من جيش الغوري على عسكر الروم، فأثخنوا فيهم طعنا بالرماح وضربا بالسيوف يشقون الصفوف المتراصة، وتبعهم من تبع من الركبان والرجالة يحصدون الرءوس عن أيمانهم وعن شمائلهم، فلا يكاد يثبت لهم راجل ولا راكب، والغوري في موقفه يشهد المعركة راضيا قد خيل إليه النصر ... وكان على رأس أولئك الفرسان قائد الميمنة سيباي أمير الشام، وهتف الغوري في زهو وحماسة: سلمت يداك ولا عاش من يشناك يا سيباي!
وفجأة برق في الجو شعاع من نار، وثار غبار، وسمع دوي قاصف كالرعد، وخر مائة من المصريين صرعى من طلقة مدفع، ثم توالت الطلقات وانهالت قذائف البارود تحصد المصريين حصدا فلا تبقي ولا تذر ...
ما هذه النار الخاطفة كأنما انبعثت من طاق الجحيم؟ وما تلك الشظايا الملتهبة على الرءوس، كطير أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل؟!
هذا سلاح جديد في يد الروم، لم يحسب المصريون حسابه، ولم يتخذوا له أسبابه، وصاح صائح المصريين يستنفرهم: اقتحموا عليهم قبل أن يحاط بكم، فإن نارهم لا تنال إلا من بعد.
فاندفعت الميمنة إلى جيش العدو واقتحمت على الرماة، فأسكتت أفواه المدافع وهم العدو أن يرتد ...
وفي اللحظة التي حان فيها النصر وأوشكت أن تنتهي المعركة، تقهقر خاير بمن وراءه من الميسرة وحطم جناح الجيش، وأحيط بسيباي ومن معه من الفرسان، فسقطوا صرعى تنوشهم سيوف الروم من كل جانب.
وصاح خاير في الجند ليفل جموعهم: النجاة! النجاة قبل أن يحاط بكم فقد مات السلطان!
فتفرق الجيش المصري أباديد على ظهر البادية، وخلى أمراءه على الأديم صرعى، وخلى سلطانه على فرسه يصيح بمن حوله ليثبتهم فلا يستجاب له. وانطوى اللواء المنشور على رأس السلطان وفر حامله، فلوى عنان فرسه يطلب لنفسه النجاة فيمن نجا، فلم يكد يفعل حتى تراءت لعينيه صورة، ورن في أذنيه صوت ... فجفل الفرس وألقى براكبه على الغبراء، وراح يعدو خفيف الظهر ليدرك غبار الجيش المنهزم ...
وهم السلطان أن ينهض من كبوته فما أطاق، ورأى سيفا مسلولا يلمع على رأسه في يد شيخ مسيخ، مشوه الخلق، مائل الفك، بشع المنظر. وكأنما تجسد الموت بشرا، فكانت صورته هي ذلك المسيخ في يده ذلك السيف المسلول، وانعقد لسان السلطان من الرعب فلم ينطق، وهوى الشيخ بسيفه على رأس السلطان وهو يصيح في نشوة: خذها من يد أركماس!
فتح الغوري فمه مذعورا، واتسعت حدقتاه، ومد زراعيه أمامه كأنما يحاول أن يدفع بهما شبحا بغيضا يتراءى له، وقد انبعثت في خياله صورة ماضيه البعيد حية، كأن لم تمض دونها تلك السنون، وحرك فكيه وقد سال الدم إلى فمه من الجرح الغائر في جبهته، وهو يقول بصوت مختنق: أركماس!
صاح الشيخ في غلظة والسيف في يده يقطر دما: نعم، أركماس الذي ظننت يوما أنه مات تحت أخفاق البعير الهائج في دروب القاهرة وذهب إلى غير معاد، قد نشر اليوم من موت ليأخذ منك ثأر أبيه، الذي جاء يطلبك به من أقصى بلاد الأرض منذ أربعين سنة!
قال الغوري وقد ارتخت أجفانه وسقطت ذراعاه الممدودتان إلى جانبه، وامتلأ فمه بالدم حتى فاض: أنت ... أنت ... أرقماس ... أرقما ...
ومال رأسه وانطبقت أجفانه، ولفظ النفس ...
واحتز أرقم رأسه فألقاه في جب قريب، وخلف على الغبراء جسدا بلا رأس، لا يعرفه أدنى الناس إليه صلة وأقربهم مودة، ومسح الدم عن سيفه وهو يقول في شماتة: فليبق قنصوه الغوري في هذه المفازة طريحا، حتى يتخطفه الطير فلا يضم جسده ضريح في بطن الأرض ... كذلك دعاها عليه مختص الطواشي حين اغتصب الغوري قبره فخط عليه مسجده، وقد استجاب الله دعوته!
ثم استدار أرقم فاتخذ طريقه في أدبار الجيش المنهزم إلى حلب.
أوصدت حلب بابها في أوجه المرتدين من جيش الغوري؛ توقيا من مثل ما نالها من مظالم الجند قبل رحيلهم إلى مرج دابق، وضنا بأقواتهم أن يستنفدها هؤلاء المتبطلون، وحفاظا على أهليهم ودمائهم وأموالهم من الهتك والسفك والنهب، وطمعا فيما خلف عندهم أمراء المماليك والجند من الودائع الغالية، واستجابة لنصيحة أميرهم خاير بن ملباي ...
وتبعثر جند الغوري على الطريق بين حلب ودمشق، لا يملك أحد منهم زادا ولا مأوى ولا راحلة، واستسلمت قلعة حلب الحصينة للفاتح بلا قتال، وتسلم مفاتيحها جندي واحد من جند ابن عثمان، هزيل معروق أعرج ليس معه إلا سيف من خشب، فوضع يده على كل ما كان في خزائن القلعة من ودائع الغوري التي جلبها معه من مصر، وبينها من الذهب والفضة مقادير لا تكال ولا توزن ولا تعد، وبينها من أدوات القتال وعتاد الحرب ما لا يثبت له جيش في الأرض، وبينها من نفائس الآثار وتراث سلاطين الماضين ما لا يقوم بمال ولا يعوض بثمن ... ورفرفت الراية العثمانية على القلعة المصرية الأولى، وشهد الاحتفال برفع الراية خاير بن ملباي أمير المدينة!
والتفت السلطان سليم إلى وزرائه وهو يقول مشيرا إلى خاير مبتسما: ذلك فضل صديقنا خاين بك فاذكروه له!
فاختلج خاير وأحس في قلبه ألم الوخزة الدامية فلم يجب.
وقال خشقدم الرومي: إن اسمه خاير بك يا مولاي!
قال السلطان: نعم، أعرفه، وإنما هي نكتة مصرية، فقد سمعتهم يتندرون قائلين: السلطان سليم «خان»، وما «خنت» ولا غدرت، ولكنه اسمي ولقب ورثته عن أجدادي، فماذا على صاحبك في أن يسموه منذ اليوم: خاين بك!
وضحك، وضحك أصحابه، وأنغض خاير بك رأسه خزيان، ثم انصرفوا جميعا لتدبير ما يشغلهم من الأمر ...
ولم يطب المقام لكثير من أهل حلب في ظل الراية العثمانية، فغادروها على آثار الجيش المصري إلى دمشق والقاهرة، وغادرتها نوركلدي في قافلة من المهاجرين، تأمل أن تبلغ القاهرة فتلقى ولدها طومان باي، نائب السلطنة طومان، ذلك الصبي الظريف الذي فارقته ولم تزل تطلبه منذ ثلاثين سنة، لا تعرف أين ذهب به نخاسه، وإنها لتطمع أن تراه اليوم سلطانا على عرش مصر أو نائب سلطان !
أتراها تعرفه حين تراه؟ أم تراه يعرفها؟
أما هي فنور الأمومة يهديها، وأما هو ... فمن يدري؟! إنها لتتخيله الساعة كأنها تراه رأي العين: شاب مستدير اللحية في زي أمراء المماليك، على رأسه عمامته، وفي وسطه منطقة مرصعة بالجوهر يتدلى منها خنجر في جرابه، وبين يديه طائفة من المماليك السلطانية يسعون بين يديه، وعلى شفتيه تلك الابتسامة العذبة التي طالما تخيلتها على شفتي أبيه أركماس ...
آه! ها هي ذي تذكر أركماس الساعة، ترى أين هو؟ أحي فترجوه أم ميت لا رجاء في لقائه؟ أين هو الساعة ليرى ولده طومان باي سلطانا على عرش مصر أو نائب سلطان؟ طومان الذي لم ير أباه قط، ولم يره أبوه قط، ولا يعرف اسما يناديه به حين يلقاه؛ لأنه مضى لوجهه وخلفه جنينا في بطن أمه لا يعرف أتتمخض عنه ذكرا أم أنثى ... ليته اليوم حي ليراه ويعرفه ويناديه مرة واحدة: يا ولدي! ثم يعود ثانية إلى حيث كان ... ليته اليوم حي فيصحبها على ذلك الطريق إلى القاهرة لرؤية ولدها، فليس يكفيها أن ترى ولدها بعينين اثنتين، وليس يشفي ما بها من الحنين أن تسمعه يناديها: أمي! نوركلدي! ولا تسمع شفتيه تهتفان: أبي! أركماس!
ولكن من أين لها ... من أين لها أن تظفر بمثل هاتين الأمنيتين الغاليتين في وقت معا؟! إن الأقدار لبخيلة، إنها لتمنح النعمة أحيانا، ولكن في سبيل نعمة أخرى تسلبها، فكيف تطمع نوركلدي أن تنال أمنيتين عزيزتين في وقت معا؟ إن الطبيعة نفسها تأبى أن تجمع على الإنسان سعادتين، فأماني الشباب لا تتحقق في العادة إلا حين يؤذن الهرم، فتجيء أسباب السعادة التي يتمناها الشباب، ولكن حين لا شباب، فمع الشباب دائما الحرمان والشوق واللهفة، ومع سعادة الوجدان والظفر عجز الشيخوخة والهرم. هذه هي السنة، هي الطبيعة، وهذه سبيل الأقدار فيما تمنح وتمنع، وفيما تعطي وتسلب. إن الشارب المنتشي لا يجد لذته الكاملة إلا حين الكأس بين يديه فارغة من الشراب، فمع امتلاء الكأس الشوق واللهفة، ومع امتلاء النفس بالنشوة تفرغ الكأس ، فليست بعد ذلك إلا زجاجة للتحطيم!
إنها لتتخيله الساعة كأنها تراه رأي العين: شاب في زي أمراء المماليك على رأسه عمامته.
أتريد الطبيعة أن تعلمنا - في أسلوب من أساليبها الصارمة - أن السعادة حق السعادة هي الحرمان، والشوق، واللهفة؛ لأن مع كل ذلك الأمل، وأن الظفر والوجدان وحصول المطلوب المتمنى هو أول التعس والشقاء؛ لأنه آخر الأمل!
ما أقساها حقيقة لو علم الناس!
كذلك كانت نوركلدي تحدث نفسها حين خطر في خيالها أركماس، وقد هيأت أسبابها للرحلة الأخيرة ... إلى القاهرة، حيث تأمل أن تجد ولدها طومان باي.
إنها منذ ثلاثين عاما على الطريق، لا تفكر في غير طومان، ولا يتراءى لعينيها في اليقظة والمنام غير صورته، أما اليوم وقد أوشكت أمانيها في لقائه أن تتحقق فقد خطرت على قلبها صورة أخرى، فتذكرت أركماس، أركماس زوجها الحبيب الذي فارقها وخلف في أحشائها بضعة منه منذ أربعين عاما أو يزيد، لم تسمع عنه فيها خبرا أو تقف له على أثر ... يا ليتها وليته ... ولكن لا، إن مثل ذلك التمني ضرب من المحال، لقد عرفت في هذه السنين الثلاثين ما لم تكن تعرف من علم الحياة، حسبها من الأمل أن تلقى ولدها طومان باي!
وعلى الطريق بين مرج دابق وحلب كان شخص آخر يفكر من أمره في مثل ما تفكر فيه نوركلدي ...
ذلك هو أرقم - أركماس - لقد خلف وراءه في بلاد الغور منذ أربعين عاما أو يزيد، امرأة في أحشائها جنين يرتكض، امرأة كان يحبها ويتمنى لها ولنفسه الأماني، ولكن دم أبيه المطلول كان يصرخ دائما في أذنيه، يطلب منه أن يدرك ثأره من قاتله، فلما أمكنته الفرصة أو خيل إليه أنها ممكنة، خلف وراءه زوجته وجنينها وراح يقتص الأثر ليدرك الثأر، آملا أن يعود إليها بعد أن يغسل الدم بالدم، وقد مضت تلك السنون الأربعون وهو لا يفكر إلا في تلك الغاية التي غادر من أجلها بلاده، لقد شغله ما مر به من الأحداث عن ماضيه، وعن زوجته، وعن ذلك الجنين، وقد أشرف على الموت ذات مرة في سبيل ذلك الثأر، ولكنه نجا، أو لعله قد مات حقا ثم بعث؛ فقد ألقاه الفرس عن ظهره في اللحظة التي هم فيها أن يقد عدوه بالسيف قدا، وسقط تحت أخفاف البعير الهائج فهشم أضلاعه، وحطم فكه، ورضرض فخذيه، فلولا أن القدر كان يدخره ليدرك ثأر أبيه لصار يومئذ عجينة من لحم ودم، بل لقد صار يومئذ عجينة من لحم ودم، ثم نفخ فيه الروح ثانية وعاد إلى الحياة، وسأله منقذه عن اسمه، فنطق به ولم يكد، مما به من الضعف والإعياء، فلم يسمع محدثه من مقاطع اسمه إلا «أركم» وصار ذلك اسمه من بعد، لا يعرفه الناس إلا باسم أرقم المسيخ، ثم أرقم الرمال، وما كان ينبغي له أن يعود إلى اسمه الأول، فليس هو اسمه بعد، لقد مات أركماس تحت أخفاف البعير الهائج، فهو منذ ذلك اليوم شخص آخر. هذه السحنة المنكرة، وهذا الوجه البشع، وذلك الفك المائل، وهاتان الساقان، وهذا البطن ... ذلك كله ليس من أركماس الرشيق الخفيف الحركة المعتدل القد المشرق الخد، الدائم الابتسام وإن لم يبتسم، من ذا يراه الساعة فيظنه ذلك الفتى الذي كان؟ لا أحد، حتى لو أن أباه وأمه قد بعثا من موت لأنكرا صورته ولم يصدقا أنه أركماس، إنه ليخشى أن يظن أبوه في ذلك العالم الثاني أن ولده أركماس لم يدرك ثأره، وإنما أدركه شخص آخر؛ لأن أرقم الذي قتل قنصوه الغوري لا يمكن أن يخطر في وهم أحد أنه أركماس! ولكن الناس في العالم الثاني يعرفون من حقائق الأشياء ما لا يعرف الناس في هذا العالم ... فليس ينبغي أن يشك في أن أباه قد عرف الحقيقة ونعم باله؛ لأن ولده قد أخذ له بثأره.
إنه الساعة على الطريق إلى حلب؛ ليستجم أياما قبل أن يبدأ رحلته إلى ... إلى الغور من بلاد القبج، حيث يأمل أن يجد زوجته تنتظر، وأن يجد له ولدا أو بنتا، وأن تضمه وأسرته دار، بعد طول السفار!
ولكن لا، لا، لقد مات أركماس منذ بعيد، أما هو فإنه أرقم، أرقم المسيخ، أو أرقم الرمال، فلن يصدق أحد في بلاد الغور حين يراه أنه أركماس، فأين صورته اليوم من تلك الصورة التي يعرفها الناس؟! سينكره ولا ريب كل من يراه، حتى زوجته نوركلدي، وحتى ولدها الذي لم يره قط، سينكر كل منهما أن يكون ذلك المسيخ المشوه الخلق هو أركماس، وقد تعرفه نوركلدي ولا تنكره، فهل يرضيه أن يفرض عليها العيش معه، تطالع منه كل يوم هذه الخلقة البشعة، وهذا الوجه المنكر، وهي زينة بنات الغور، وأجمل نساء الحلة؟
زينة البنات! وأجمل النساء! ما هذا الهراء؟! لقد مضى منذ فارقها أربعون عاما أو يزيد، فإنها اليوم عجوز قد أشرفت على الستين أو جاوزتها ... نعم، ذلك حق، ولكن صورة أركماس مع ذلك لم تزل في خيالها صورة فتى رشيق، خفيف الحركة، معتدل القد، مصقول الخد، دائم الابتسام وإن لم يبتسم، وإنها لأعز عليه من أن يطلع في مرآتها بصورته هذه البشعة، فيمحو تلك الصورة الجميلة التي بقيت لها من سعادة ذلك الماضي البعيد.
لا لا، لقد مات أركماس، مات منذ بعيد تحت أخفاف البعير الهائج في دروب القاهرة، وإنما أنشره الله من موت لغاية واحدة، هي إدراك الثأر، وقد أدركه واستراح وأراح الناس من مظالم قنصوه الغوري، وليس في العالم اليوم من يذكر أركماس، غير امرأة وولدها، إن كانت هي وولدها لم يزالا كلاهما أو أحدهما في الأحياء، أما أرقم فإن كثيرا في القاهرة يعرفونه ويذكرون اسمه، وإن كثيرا منهم ليتمنون أن يعود، فليعد إلى القاهرة، وليجعل أول قصده إلى شيخه أبي السعود الجارحي يستغفره من بعض ما كان منه، ويسأله أن يأذن له في شرف الصحبة حتى يلقى الله، لقد مات قنصوه الغوري، فلا شيء هناك بعد يمكن أن يفسد بين شيخه وبينه، وقد انقطع ما بينه وبين الناس من أسباب المحمدة والمذمة ...
ولوى أرقم عنان فرسه فلم يدخل حلب، ولحق بقافلة من المهاجرين فصحبها على الطريق إلى دمشق، فالقاهرة ...
الفصل الثاني والثلاثون
أب وأم!
أناخ الركب على باب دمشق؛ ليتزود لما بقي من رحلته بعض الزاد من أسواق دمشق، ولكن فلول الجيش المنهزم لم تجد في دمشق زادا لمسافر ولا لمقيم؛ فقد خشيت المدينة العريقة أن تقع بين نارين من العدو الغازي، ومن الفلول المرتدة، فأغلقت أبوابها دون هؤلاء وأولئك جميعا؛ لعلها أن تجد في استقلالها بعض السلامة.
وخيمت القافلة على الطريق لتستريح يوما أو يومين، ثم تستأنف رحلتها إلى القاهرة، واجتمع الرجال لصلاة العشاء على ظهر البادية، ثم استداروا حلقات يسمرون قبل أن يأخذ النوم عيونهم، وجلس أرقم بين السامرين يتحدث وهم يستمعون إليه، وقد عرف منهم من عرف أنه أرقم الرمال صاحب الحلقة المشهورة في بساتين القبة.
ووجد أرقم نفاقا لبضاعته حين ظن أنه قد انقطع ما بينه وبين الناس من صلات، فجعل فنه ملهاة الفراغ ومسلاة الهم للقافلة المكدودة من مشقات السفار وأحداث الحرب، فكلما أناخ الركب في مرحلة من مراحل الطريق للراحة، فرش أرقم منديله وبسط عليه الرمل، وراح يتحدث إلى كل واحد من أصحابه على هواه، لا يرجو إلا أن يجفف دمعة المحزون، ويمسح على قلب البائس، ويهب لليائس الصبر والأمل، وذلك كل حسبه من الأجر على بضاعته.
وكان الركب على أبواب غزة، حين بدا لبعض نساء القافلة أن يدعون أرقم الرمال إلى خيمتهن؛ ليكشف لكل واحدة منهن عن بختها ...
ورأى أرقم بين النساء عجوزا في الستين أو هي جاوزتها، في عينيها بريق وعلى جبينها تاريخ مسطور، فلم تكد عيناه تلتقيان بعينيها حتى أحس كأنما تفضي إليه عيناها بسر من أسرار ماضيه البعيد، فحدق فيها مدهوشا لا يكاد يصدق أن شيئا مما يخطر في باله يمكن أن يكون، ثم أنغض رأسه وراح يخط بأصبعه في الرمل صامتا، وعيناه لا تطرفان، وخواطره تطوف به في الآفاق البعيدة ثم تئوب.
ورفع رأسه بعد فترة وهو يسأل نفسه: أتكون هي نوركلدي؟ فمن أين جاءت؟ وإلى أين؟ ولماذا؟
ثم أطرق ثانية وعاد يفكر، وطال إطراقه وفكره فلم ينتبه إلا بعد حين ، ثم رفع رأسه وحدق فيها بعينين جامدتين، وفي نفسه ريب وعلى شفتيه حديث طويل لم ينبس منه بحرف.
ولكن عيني العجوز لم تطرفا ولم تنفرج شفتاها عن كلمة. لئن كانت هي نوركلدي إنها إذن لا تعرفه. وطال تحديقه وطال صمتها، وانتابها القلق من وجهه الجامد وعينيه الشاخصتين، فسألته في لهفة: هل عندك ما تحدثني به يا سيدي من أنبائك؟
ورده صوتها من الشك إلى اليقين، فلم يدع الفرصة تفلت من يده وقال في صوت يختلج: نعم يا سيدتي: اسمك نوركلدي، من بلاد الغور وراء جبال القبج، وقد فارقك حبيب من أحبائك منذ سنين بعيدة، إلى حيث لا تعرفين ولا تطمعين أن تعرفي، ولعلك أن تلقيه يوما ...
شحب وجه نوركلدي وتتابعت أنفاسها وهي تقول في ذهول: نعم، فبحق من أنبأك الغيب يا سيدي إلا ما هديتني إليه، إنه ...
قال مقاطعا: إنه زوجك أركماس!
قالت المرأة وقد زاد شحوبها وأخذها البهر: نعم، زوجي أركماس، وولدي!
وكأنما أعداه ما بها من الشحوب حين لفظت كلمتها الأخيرة، فبدا وبدت كأنهما تمثالان من الكبريت الأصفر، وبردت أطرافه وتوقفت أصبعه عن الحركة وهو يقول: صه! لغير هذا المجلس يا سيدتي تتمة الحديث عن زوجك وعن ولدك.
ثم أخفى وجهه في راحتيه وأخذته مثل الغشية وهو يردد في همس خافت: ولدي! ولدي!
ثم ثاب إلى نفسه بعد برهة ليدير عينيه فيمن حوله من النساء قلقا، ثم يعود إلى صاحبته فيطيل النظر ... وما يزال الصدى يرن في أذنيه: ولدي!
وكأنما خشي أن يفتضح، فطوى منديله ونهض لم يتحدث إلى واحدة من النساء بشيء، وخلا بنفسه مطرقا لا يكاد يستجمع فكره من دهش المفاجأة؛ إذن فهي نوركلدي، وإن لها ولدا تفتقده كما تفتقد أباه ... إلى أي طريق تسوقه المقادير؟
فلما كانت العشاء الآخرة، نهض أرقم يدب على الأرض حتى بلغ خيمة نوركلدي، فناداها ...
وسمعت المرأة في هدأة الليل صوتا يهتف باسمها، فكأنما سمعت صوتا من وراء السنين أو من عالم الأحلام، فخفت إلى باب الخيمة فأزاحته ونظرت، فإذا أرقم الرمال.
وجلس وجلست تستمع إليه، وقد جمع أمره على أن يخفي من أمره ما لا بد أن يخفي؛ حتى لا يمحو من خيالها تلك الصورة الجميلة التي بقيت لها من سعادة الماضي، ولكنه أراد أن يعرف.
قالت نوركلدي في قلق: سيدي! إن لك أسبابا وثيقة إلى الغيب، وأنا امرأة مقطوعة بائسة، فهلا أنبأتني بما عندك من خبر أركماس، وطومان باي! - طومان باي! - نعم، ولدي طومان باي الذي فارقته منذ ثلاثين عاما أو يزيد، فلم أره ولم يرني! - ثلاثين عاما! - نعم، وأمه على الطريق ضالة مقطوعة، وهو على عرش مصر نائب السلطان! «يا ويحه! إذن فهو أبو طومان باي! وكان قنصوه الغوري يزعم أنه عمه ولا عم له ... وأبوه أركماس يتربص للغوري ليأخذ منه بثأره، وولده في حجره ... ويجتمع في مكان وتحت سقف ألد الأعداء وأعز الأحباب ... وينفذ عدل الله، ويجلس طومان باي على العرش سلطانا، وتلقاه أمه، ويلقاه أبوه، كما لقي يوسف الصديق أبويه على العرش، ولكن كم دون ذلك من الأهوال!»
كان أرقم كالمغشي عليه يناجي نفسه، تلك العجيبة التي انبثقت له من حوادث الأيام لم تكن تخطر له على بال، فكأنما طار صوابه فلم يفكر فيما يقول، ولم يذكر ما أجمع عليه رأيه من الكتمان، وفاضت عواطفه فاجتاحت كل ما أقام فكره من سدود وقيود، حتى المرأة التي تجلس بين يديه صامتة تصغي إليه، لم تكن في باله ولا في مرأى عينيه، فلم يبال ما يقول.
على أن نوركلدي لم تسمع ما سمعت منه على الوجه الذي أراد، ولم يخطر في بالها قط أنها تسمع حديث أب عن ولده، فلم يكن ذلك الشيخ الجالس بين يديها يحدثها إلا رمالا حاذقا يقرأ سطور الغيب، وقد رأت من أمارات اليقين في حديثه ما لا يدع في نفسها سبيلا إلى الشك فيما تسمع منه، فما يعرف أحد من الناس أن لها زوجا، وأن اسمه أركماس، وأن لها حبيبا قد فارقها منذ سنين بعيدة، وأن ولدها لا عم له ... كل ما يعرفه الناس مما حدثها به ذلك الرمال، أن اسمها نوركلدي، فمن أين لهذا الشيخ ما حدثها به من تلك الأنباء إلا أن تكون له أسباب وثيقة إلى الغيب؟ وإنها إلى ذلك لتسمع صوته فتطمئن إليه، إنه صوت لم تسمع مثله فيما تسمع من أصوات الناس، وإنها لتجد في نبره ذلك السحر الذي يجده العاشق في صوت محبوبه، فتحس خدرا لذيذا يهيئ نفسها لأن تصدق وتؤمن.
واستراحت إلى ما سمعت من نبوءة الشيخ، فشكرت له ونهضت إلى متاعها، ثم عادت وفي يدها دنانير تريد أن تدفعها إليه، فترقرقت دمعتان في عين الرجل، هذه الأم تريد أن تأجر زوجها على ما ساق إليها من البشرى بقرب اجتماع شملها وشمله، بولدها وولده، يا لها سخرية!
وقال أرقم في صوت مختنق وهو يدفع يدها: سيدتي ... هل تأذنين لي أن أكون منذ اليوم صاحبا لا يطمع في أجر على معروفه؟
قالت مترددة: سيدي ...
قال وفي صوته رجاء: إنه دين علي للأمير طومان باي، إنه ... إنه صديقي!
وجاوبته دمعتان من عيني المرأة.
واستأنف الموكب رحلته إلى القاهرة، وكانت راحلة أرقم تسير إلى جانب راحلة نوركلدي على طول الطريق، وخيمته إلى جانب خيمتها في كل منزلة، وكان طعامه مما تهيئ يدها ...
زوجان قد افترقا جسدا والتقيا في عاطفة، فإنه وإنها ليفكران في شيء واحد، وإنه وإنها لمجتمعان على أمل، وإن في خياله وخيالها صورة، وإن أحلام الليل لتطرقهما في وقت معا تعرض على عينيه وعلى عينيها جميعا صورة طومان باي، أما صورته في عيني أرقم فكما رآه وعرفه وجلس إليه وسمع حديثه، وأما صورته في عينيها فصورة صبي في العاشرة، قد استدارت لحيته وعلى رأسه عمامة وقد جلس على العرش.
الفصل الثالث والثلاثون
في زحام المعركة
قام الأمير طومان باي نائب السلطنة بتدبير أمر الملك في القاهرة قياما عظيما، فأبطل كثيرا من المكوس، وأفرج عمن في الحبوس من مظاليم الغوري، وضبط الأمن والنظام، وأشرف بنفسه على الصغير والكبير من أمر الدولة، وبث العيون يحصون على تجار الروم حركاتهم ، وقبض على جماعة منهم فأودعهم معتقلات الأسر ووكل بهم، وكان له كل يوم خرجة يجوس فيها خلال المدينة في كوكبة من جنده وبطانته؛ ليحفظ للحكومة المركزية هيبتها في عيون الناس، فلا يبيح أحد لنفسه أن ينتهز فرصة للشغب أو يحاول فتنة ما، وأصدر أمره إلى المماليك ألا يخرجوا إلى المدينة بسلاح؛ مخافة فتكهم وهتكهم وعدوانهم على الشعب، فصلح بذلك كله حال الناس، واستقامت الأمور، واطمأنت الحياة بالأحياء، وهتف المصريون جميعا باسم الأمير طومان باي ودعوا له في السر والعلانية.
لم يكن يقلق الناس إلا شيء واحد قد نغص عليهم هذه الطمأنينة التي كفلتها لهم حكومة الأمير طومان باي، ذلك هو انقطاع الأخبار عن حركات الجيش الذي خرج تحت راية السلطان للدفاع عن حدود الدولة، فلم يسمع عنه الناس منذ خرج إلا إشاعات تتطاير على الأفواه لا يدري أحد أين مصدرها، فتثير الإشفاق والقلق، وتبث الرعب في أنحاء المدينة، كأنما كان هناك من يعنيه أن تضعف القوة المعنوية في نفوس أهل هذه المدينة الصابرة وتنحل عزيمتهم، فينالهم بالرعب والفزع قبل أن ينالهم العدو بسيفه.
وبلغت تلك الإشاعات مبلغها من نفوس الناس، حتى أعظموا قوة ابن عثمان وشدة بأسه، وبالغوا في وصف عتاده وجنده، فآمنوا بالهزيمة قبل أن تبلغهم أنباء الهزيمة.
ثم لم تلبث الأنباء أن جاءتهم بما كان بين المعسكرين في مرج دابق، وهتف الناعي بأسماء القتلى والجرحى والمفقودين والمأسورين، ونعي إلى المصريين سلطانهم الشيخ فيمن نعي من الأمراء والقواد والجند والإخوة والأبناء، وقام في كل دار مأتم.
وأيقن المصريون يقينا لا شبه فيه أن دولتهم قد دالت، وأن خيل الروم ستطؤهم مصبحة أو ممسية، وستحصدهم مدافع البارود وقذائف النار حصدا، فلا تبقي منهم ولا تذر، ومن ذا يثبت للبارود والنار ذلك السلاح الجديد الذي يصفه من يصف ممن شهد موقعة مرج دابق، فكأنما يصف معركة قد نشبت في طبقة من طبقات الجحيم تتهاوى كرات النار فيها عن اليمين وعن الشمال، فتحصد الفرسان والرجالة وهيهات منها السلامة!
وضعفت نفوس المصريين وأصابها الوهن، حتى لو أن صيحة أخذتهم من جانب الوادي لمضوا على وجوهم فارين لا يردهم إلا البحر.
وفعلت الدعاية العثمانية بهم ما لا يفعل السيف والنار ... وكان الذي تولى كبر هذه الفتنة منهم طائفة من أصحاب خاير بك، وجان بردي الغزالي، وخشقدم الرومي، إلى طوائف من أبناء الروم قد اجتازوا الحدود متنكرين في زي الأعراب، فانبثوا في الأسواق والمساجد ومجتمعات السمر، يتحدثون فيسرفون في الحديث، والمصريون يستمعون إليهم فتنخلع قلوبهم من الرعب والفزع.
وكان النواح على القتلى والأسرى والمفقودين في كل درب من دروب القاهرة، كأنه تأكيد لما يتحدث به هؤلاء من الأنباء المروعة ...
رجل واحد لم يهن ولم يضعف ولم تنل منه تلك الأنباء، فراح يعد عدته للدفاع عن مصر والشام، ويستنفر المصريين والعرب والمماليك ليذودوا عن حرماتهم وأعراضهم وذراريهم، ويقفوا صفا في وجه ذلك العدو الزاحف بخيله ورجله، وبسيفه وناره ... ذلك هو الأمير طومان باي.
ولم يكن لمصر يومئذ سلطان، فاجتمع أمراء المماليك في القاهرة على مبايعة الأمير طومان باي؛ ليجلس على عرش مصر خلفا لعمه قنصوه الغوري، الذي غاب أثره بين رمم القتلى في البادية، فلم يعرف أحد أين كان مثواه الأخير.
ولكن من ذا يبايعه، والخليفة العباسي أسير عند ابن عثمان، وقضاة القضاة ومشايخ الإسلام قد خلا مكانهم في مصر منذ خرجوا في ركب السلطان فلم يعودوا، والأمراء العظام قد وقع منهم من وقع في الأسر، وسقط على الغبراء قتيلا من سقط، ولا تزال طائفة منهم على الطريق بلا زاد ولا راحلة.
وماذا يدفع طومان باي للجند من أعطيات البيعة وقد أفرغ الغوري خزائنه واحتمل ما فيها لتكون معه في رحلته تلك المشئومة، حتى اللواء السلطاني والتاج والحلة والخاتم ليس في القاهرة منها شيء.
ثم ماذا يغريه بالسلطنة اليوم وقد ذهب عزها، فلم يبق من معناها إلا تكاليف لعل أهونها أن يبذل دمه.
قالت زوجته شهددار: لمثل هذه التكاليف يا أمير تفتقد الملوك، ولست أهلا لحبك إن لم تحمل أعباءها راضيا موقنا أن أول الواجب أن تموت، وأن تذبح امرأتك وابنتك بين يديك فلا تهن ...
وبرقت في عينيه دمعة، وضمها إلى صدره وهو يقول: سأحملها راضيا يا شهددار، موقنا أن أول واجبي أن أموت لتعيشي وتعيش ابنتنا هذه نوركلدي الصغيرة! لتذكريني بها وتذكري أمي ... ولكني أرى التريث حتى يعود سائر الأمراء، ويعود مولاي الأمير محمد ابن السلطان، فإنه أحق بالعرش مني.
قالت مصممة: إن لم يكن محمد بن الغوري أحق بالعرش منك لأنه ابن السلطان، فإنه لم يزل صبيا لا ينهض بواجبها، وإنما السلطنة اليوم تكليف ومشقة، وأول واجبها الموت، ولأنت أحق بشرف الموت في سبيل الدفاع عن مصر من ذلك الصبي الناعم، فاحفظ فيه أباه ولا تقدمه إلى الموت وعلى رأسه التاج.
قال وأخفى في راحتيه عينين مغرورقتين بالدمع: سأحملها، سأحملها راضيا يا شهددار؛ لأدفع عن مصر وعنك، ولو بذلت دمي.
ثم نهض ليلقى أمراءه ويستمع إليهم ويبادلهم الرأي، وكان الأمراء على الإجماع في اختياره للعرش.
وفي كوم الجارح في خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي وبين يديه، بايعه الأمراء والجند، وبايعه ابن الخليفة نائبا عن أبيه، وبايعه نواب القضاة، وبايعه المصريون جميعا أشرافا وسوقة، ودان له الزعر والعربان، واجتمعت على محبته القلوب، ونادى المنادي في الأسواق باسم السلطان الأشرف طومان باي «الثاني»، فتجاوبت الزغاريد من طاق إلى طاق، ونسيت القاهرة ساعة من نهار ما تتوقع أن يحل بها من البلاء والشر.
كان ذلك في القاهرة، أما هنالك فكان السلطان سليم في مجلس وزرائه قد جلس بين يديه خاير بك، وجان بردي الغزالي، وخشقدم الرومي، يداولون الرأي بينهم فيما يكون من أمر الخطة التالية ...
قال السلطان سليم: أما أنا فحسبي أن ترفرف رايتي على ربوع الشام، ويكون أميرها من قبلي خاير بك؛ جزاء لما قدم إلينا من المعونة، وليس لي في امتلاك مصر أرب ومن دونها الفلاة وأهوال الطريق.
فزم خاير بك شفتيه قائلا: إن مصر اليوم يا مولاي على مد ذراعك، فلو شئت لكان لك ثمة العرش والقصر والقلعة، وبسطت سلطانك على ضفاف النيل ، وملكت الحرمين وسواحل بحر الهند، وهيهات أن تقوم لجيش مصر قائمة بعد تلك الهزيمة وقد تفانى أمراؤها؛ فليس هنالك إلا طومان باي، وما أراه أهلا للدفاع.
قال جان بردي: فإن كان طومان باي هو كل هم مولاي فسأكفيه أمره، وما أظنه يطمع أن يكون له العرش حين يتراءى له جان بردي الغزالي، فإن شاء مولاي كنت في غد على الطريق إلى القاهرة.
قال خاير بك قلقا: صبرا يا جان بردي، فسندخل القاهرة مجتمعين على رأي، فلا يشغلك من أمر طومان باي شيء، ولعله يكون أبعد أملا عن العرش حين يرى خاير وجان بردي معا ...
وتبادل الرجلان نظرتين لم يخف مغزاهما على السلطان، فقال باسما: دعه يا خاير بك وما يدبر من أمره، وليذهب إلى القاهرة إن شاء، فإني لآمل أن نبلغ بتدبيره ما نريد، فيكون لك عرش مصر وله عرش الشام ...
غامت سحابة من الهم على وجه جان بردي، أفمن أجل أن يكون لخاير بك عرش مصر بذل جان بردي ما بذل وخان وطنه وغدر بسلطانه؟ يا لها خاتمة! ولكنه حتى اليوم لا يزال مستطيعا أن يبلغ بتدبيره ما يريد لنفسه، وإن لم يرض السلطان سليم ولا خاير بك، فسيقصد من فوره إلى القاهرة يطلب لنفسه العرش، ويدع لخاير بك الندم واللهفة!
وأصبح جان بردي على الطريق إلى القاهرة، فما كاد يصل حتى كان طومان باي قد بلغ العرش، وبايعته مصر كلها سلطانا، فلا مطمع لجان بردي في شيء مما كان يأمله، فأكل الغيظ قلبه وعاد يفكر في تدبير جديد ...
وكان السلطان طومان باي قد أجمع خطته على أن يجعل خط الدفاع الأول عن مصر عند مدينة غزة، على حدود فلسطين، ريثما يهيئ وسائله للدفاع عن القاهرة وما يليها من البلاد، وعرف جان بردي الغزالي خطة السلطان وما أجمع عليه رأيه، فرآها فرصة سانحة لتدبير جديد، فعرض أن يتطوع لقيادة الجيش الذي يتأهب للمسير إلى غزة للدفاع، فأباها عليه السلطان طومان باي وارتاب في نيته، ولكن أمراء السلطان لم يرتابوا وحملوه على الرضا، فأولاه قيادة الجيش طاعة لمشورة أمرائه وندب له الجند للدفاع ...
وخرج جان بردي على رأس الجيش المصري إلى غزة، فلم يكد يتراءى له جيش السلطان سليم حتى أسلم له جان بردي جنده ورايته، وعاد إلى القاهرة عجلان في زي منهزم قد أفلت من منيته، ومثل بين يدي السلطان طومان باي يصف له ما لقي من شدة بأس ابن عثمان وقوة عسكره.
وكان الجيش العثماني في أثره يجتاز الحدود إلى مصر.
قال السلطان طومان باي: ألهذا بعثتك على رأس الجيش يا جان بردي؟!
قال جان بردي في لهجة المعتذر: لو رأيت يا مولاي ما حشد الروم من الجند والعتاد، وما تزود به من أدوات التحطيم والدمار؛ لرأيت جيشا لا يسلم من بطشه أحد من عدوه.
قال السلطان مؤنبا وعلى شفتيه ابتسامة غيظ وحنق: ومع ذلك فقد سلمت أنت يا أمير!
وصلت القافلة التي فيها أرقم ونوركلدي القاهرة، والقاهرة يومئذ في أمر مريج، فقد بلغ جيش الروم حدود مصر، وأوشكت خيله أن تطأ أرض الوادي الذي استعصى على الفاتحين، فلم يدخله جيش أجنبي منذ استقل عن الدولة العباسية لعهد ابن طولون، حتى التتر والصليبيين - على ما اجتمع لهم من أسباب القوة - قد ارتدوا جميعا عن بابه مقهورين لم ينالوا منه منالا، ونالت مصر منهم منالها، واليوم يوشك هؤلاء الترك أن يقتحموه؛ ليتخذوا المصريين عبيدا وخولا وكانوا أصحاب السلطان والسيادة ...
في تلك الأيام الرهيبة، في هذه المدينة التي تموج بالخلائق من كل جنس، ويحتشد فيها الجند للدفاع عن كل باب، وتزدحم فيها أقدام المحاربين على كل طريق، ويتوزع الناس فيها الهم والقلق على المصير المجهول، كان يجلس على عرش مصر طومان باي - ابن نوركلدي وأركماس - قد شغله هم الدولة عن هم نفسه، فلم يخطر على باله قط أن على باب المدينة في ذلك اليوم رجلا وامرأة قد أبليا الدهر سعيا إليه، وقطعا مفازة العمر شوقا إلى لقائه، وليس بينهما اليوم وبين أن يلقياه إلا مسيرة ساعة من شمال المدينة إلى جنوبها ، فلو شاء لاجتمع بثلاثتهم شمل أسرة لم يجتمع لها شمل منذ أربعين عاما أو يزيد ...
ها هو ذا في مجلسه من قصر القلعة بين زوجته خوند شهددار وطفلته الظريفة نوركلدي الصغيرة، مستغرقا في الفكر لا يكاد يعرف من حوله.
وهذان شيخ وشيخة يضربان في طرق القاهرة، قد نال منهما الإعياء واستغرقهما الفكر، يتدافعهما زحام الناس يمنة ويسرة فلا يكاد يخلص لهما الطريق بضع خطا. من ذا يراهما فيخطر في باله أن هذا الشيخ وهذه الشيخة هما أركماس أبو السلطان طومان باي وأمه نوركلدي؟!
ولكن طومان باي اليوم ليس لأمه وأبيه ولا لأحد من أهله، إنه اليوم يحمل من هم الدولة ما لا يدع له فراغا من الزمن أو من العاطفة للتفكير في شأن أمه وأبيه.
يا عجبا! لقد عاش في هذه المدينة واحدا من أهلها عشرين عاما أو يزيد، يلقى الناس ويلقونه، ويتراءى لكل من يريد أن يراه، ويتحدث إلى كل من يريد أن يتحدث إليه، ويستمع إلى كل من يريد أن يحدثه، فلو أرادت أمه، أو لو أراد أبوه في يوم من تلك الأيام الخوالي أن يلقاه أو يتحدث إليه لما أعياه في أي وقت شاء أن يلقاه أو يتحدث إليه، ولكن أباه يومئذ لم يكن يدري أنه أبوه، فلم يكن يريد، ولم تكن أمه تدري أين تلقاه، فلم تكن تطمع، أما اليوم فإنهما يدريان ويريدان، ولكنهما لا يستطيعان.
من لطومان باي بأن يعرف أن أمه التي فارقها منذ ثلاثين عاما ولا يزال يذكرها ويحن إلى لقائها، هي اليوم منه على قرب قريب، فلو شاء لسعى إليها فلقيها فتحدث إليها ساعة أو بعض ساعة ثم عاد لشأنه؟!
من له بأن يعرف أن صاحبه أرقم المسيخ خادم خلوة الشيخ أبي السعود الجارحي والرمال الحاذق الذي يتحدث عن الغيب كأنه يقرأ في لوح مسطور، هو أبوه أركماس؟!
من له بذلك، ومن لنوركلدي؟!
ولكن الوهن لم يتطرق لحظة إلى نفس أمه العجوز الشابة، فإنها اليوم لأدنى أملا في لقائه، إنه اليوم منها على مد الشعاع، فلولا هذه الحيطان التي تفصل بين بيوت الناس لرأته ورآها، ولكنها لا بد أن تراه يوما ما، أو لا، فحسبها أن تسمع عنه كل يوم فكأنها لا تراه، حتى يحين الأجل المكتوب.
واتخذ لها أرقم منزلا في سوق مرجوش، يطل على طريق الموكب السلطاني حين يغدو أو يروح؛ لتراه أمه ويراه أبوه إذا بدا له ذات مرة أن يغدو في موكبه أو يروح. واتخذ أرقم له حجرة في ذلك المنزل إلى جانب الباب، وراح يدبر أمره وأمر صاحبته ...
الفصل الرابع والثلاثون
غبار الحرب
قال عز الدين البزاز لأصحابه وهم جلوس على مصطبة دكانه في سوق مرجوش: إن الشر والله ليتربص بنا من سوء تدبير أولئك الجركس، فهذه خيل العدو على باب الديار، ولا يزالون مختلفين لا يريدون أن يخفوا للدفاع إلا والسيف في رقابهم.
قال أبو بكر الرماح: إنه المال وشهوة الإمارة، فلا ترى جنديا منهم يرضى أن يخرج للحرب إلا إذا ضاعف له السلطان الرزق، ولا ترى سيدا إلا طامعا في ولاية يتولاها أو إمارة يتأمر عليها قبل أن يأخذ أهبته لقيادة عسكره، وإني لأعجب للسلطان طومان باي كيف رضي أن يحمل أعباءها وليس حوله إلا هؤلاء الحمقى، يوشكون بسوء تدبيرهم أن يسلموه إلى عدوه ويبيحوا الروم في أرض الوطن، كأنما خيل إليهم أن سيكونون تحت راية الروم سادة، وما لهم والله عند ابن عثمان إلا السيف!
قال أرقم الرمال وقد بلغ منه الغيظ: فهل كانت مصر لهؤلاء الجركس وحدهم حتى يكون عليهم وحدهم عبء الدفاع، فأين المصريون، والعربان، وفتيان الزعر، ولماذا لا يكتبون كتائبهم للدفاع عن حريمهم والذود عن بلادهم، وإنهم لأهل لأن يردوا جيش الروم فلولا مبعثرة على أديم الصحراء لو اجتمعت عزيمتهم؟
قال عز الدين: هذا هو الحق، فما طرق هذا العدو بلادنا من أجل الجركس، بل من أجل مصر، وما هؤلاء الجركس في مصر؟! هل هم إلا قلة حاكمة لا يعنيها إلا حظها من ترف العيش وأسباب التنعم، ولو مات هذا الشعب ووطئته الخيل وهتك حريمه جند العدو؟! وإنما علينا نحن واجب الدفاع عن حريمنا وعيالنا وأموالنا وعن أرض هذا الوطن.
قال أبو البركات الأعرابي ساخرا: وعن عرش السلطان!
قال أرقم محتدا: نعم، وعن عرش السلطان، فهلا قلتها يا أخا العرب وعلى العرش قنصوه الغوري، ومن سبقه من السلاطين الذين أكلوا هذا الشعب لحما وشحما، وتركوه عظما معروقا على الطريق، فإن على عرش مصر اليوم رجلا غير أولئك، فلولا هذه الفتنة الناشبة لرأيتم كيف ينهض بالحكم فيسوسها سياسة عمر.
قال الأعرابي: ومن لنا بأن يظل طومان باي على العرش فلا يخلعه جان بردي الغزالي أو خاير بك، وإن شيوخ الأمراء ليتربصون به والعدو على الأبواب يتربص بنا وبهم؟!
قال أرقم: فإننا نستطيع أن نحمي سلطاننا من غدر أولئك الأمراء، ونحمي مصر من ذلك العدو.
قال الأعرابي وقد تهيأ للانصراف: قد يكون ذلك لو أن السلاطين لم يضربوا الذلة على هذا الشعب حتى ماتت فضائله وغلبه اليأس، فليس يشق عليه أن تكون الدائرة عليه وعلى أعدائه في وقت معا!
وتواترت الأنباء باقتراب العدو، ولا يزال الأمراء مختلفين قد فرقت بينهم المطامع، ولا يزال المماليك غاضبين يريدون أن يضاعف السلطان لهم الرزق، والسلطان الشاب يحمل وحده عبء التدبير ويرسم خطة الدفاع.
ودنا جيش السلطان سليم من بلبيس، وهم أن يخرج السلطان للقائه فثبطه أمراؤه، وأمر أن تحفر الخنادق في طريقه عند الخانكاه فلم يجد من يطيع أمره، وأشار بأن تحرق مخازن المؤن في شمال المطرية قبل أن يستولي عليها العدو، فلم يسمع مشورته أحد ...
وصار جيش الروم على مسيرة أيام من القاهرة وسبقه غباره، فقال السلطان طومان باي لأمراء جنده: هذه آخرتي وآخرتكم قد حانت، فإما خرجتم للدفاع عن أعراضكم وذراريكم وأموالكم، وإما خرجت وحدي للقاء العدو!
ثم لبس لأمته ورفع لواءه وبرز للناس في عدة حربه، فأثار نخوة الأمراء وحمية الجند وحماسة المصريين، فنسلوا إليه من كل حدب، ورفع الأمراء راياتهم وكتبوا كتائبهم، وكأنما لم يدركوا واجبهم إلا حين أحسوا ريح الموت ، فخرجوا دفاعا عن أنفسهم لا عن العرش ولا عن الوطن!
واحتشد الجند أفواجا أفواجا وكتيبة إثر كتيبة، وكانوا مستطيعين أن يحتشدوا كذلك منذ أسابيع، وأخرجت المكاحل والمدافع واصطف رماة البندق، واستكمل الجيش عدته وعدده في اللحظة الأخيرة وقبل أن يفوت الأوان، وارتجت القاهرة لعظم ما رأت من وسائل الدفاع وكثرة ما شهدت من الجند والعتاد، وتجاوبت الزغاريد من طاق إلى طاق ...
وعسكر الجيش في الريدانية شمال القاهرة متأهبا للقاء العدو، وشق موكب السلطان المدينة من جنوبها إلى الشمال، فاجتاز باب زويلة، ومر على قبة الغوري، واخترق سوق مرجوش، وكان في شرفة وراء الستارة في بيت من البيوت عينان ترقبان موكب السلطان، ولكنهما لم تريا شيئا مما غام عليهما من الدمع، ومضى ركب السلطان في طريقه.
وخرجت على إثر الموكب عجوز من دارها مهرولة تريد أن تدرك موكب السلطان وهي تهتف بصوت عميق النبر: «ولدي! ولدي!» وتدافعها زحام الطريق فردها على وجهها قبل أن ترى السلطان أو تسمعه نداءها، وحملتها الأكف مغميا عليها إلى دارها في سوق مرجوش، ولم تزل شفتاها تتحركان في همس خافت: «ولدي! ولدي!»
وقال لها أرقم وقد ثابت إليها نفسها: صبرا يا نوركلدي، فسترينه ويراك يوم يعود مظفرا من هذه الحرب، إن طومان باي لذو همة وعزم، وسترين ما سيكون من بلائه في حرب الروم حتى يردهم على أعقابهم منهزمين، ويومئذ تلقينه على العرش فتسعدين به وتقر عينك.
قالت وهي تغالب انفعالها: يا ليت يا سيدي يا ليت! ويومئذ أنبئه أول ما أنبئه بما لقيت من كرم صحبة أرقم الرمال!
قال أرقم وقد انحدرت على خديه دمعتان: وينبئه أرقم الرمال بما لقي في صحبتك يا نوركلدي.
وراح السلطان يحفر الخندق بيده ويحمل التراب على كتفه، ثم أخذ يرتب الجيش ميمنة وميسرة، وركب حصانه يرتب الأمراء ويتفقد العسكر صفا صفا، وهو يبث فيهم من روحه وينفخ فيهم من عزمه. من ذا يرى اليوم هذه الكتائب المتراصة قد أجمعت نيتها على النصر أو الموت، فيذكر ما كان يدب في صفوفها أمس من عوامل الخذلان والهزيمة؟!
تلك همة السلطان قد جمعتهم قلبا، ووحدتهم رأيا، وشدتهم عزيمة، وما كانوا لولا السلطان الشاب إلا فلولا مبعثرة قد توزعتها الأهواء وتقسمتها الشهوات.
وبني حائط يستر المكاحل والمدافع، وقد فغرت أفواهها ذات اليمين وذات الشمال تأخذ العدو من حيث بدا له أن يبدأ الهجوم ...
وأدار جان بردي الغزالي عينيه فيما حوله، فرأى من وسائل الدفاع ما لم يخطر مثله على باله، فأكلت قلبه الحسرة. توشك والله هذه القوة أن تأكل جيش ابن عثمان أكلا، وترميه أشلاء على ظهر الطريق، فماذا يكون من أمره وأمر خاير بك لو انتصر المصريون على جيش ابن عثمان وعادوا إليه، وإلى صاحبه يناقشونهما حساب الماضي وما أسلفاه من الخيانة؟
واختار جان بردي مملوكا يأتمنه على السر، فأفضى إليه برسالة يحملها إلى ابن عثمان.
ووقف السلطان سليم على أسرار الدفاع قبل أن تنشب المعركة، فدبر أمره لإحباط خطة السلطان طومان باي ...
ونفذ جيش العثمانيين من وراء الجبل، فأطبق على الجيش المصري بغتة من وراء وجاءه من مأمنه، وتعطلت المكاحل والمدافع فلم ترسل قذائفها، ولم يبق إلا السيوف يتجالد بها الأبطال، وجال طومان باي بسيفه وحوله طائفة من أصفيائه، ومضوا يشقون طريقهم بين صفوف الروم يقصدون قلب الجيش، فنثروا الرءوس وقدوا الدروع، وشقوا المرائر وجندلوا الأبطال، ولم يثبت لهم شاب ولا شيخ، ولكن ماذا يجدي عليهم أن يصرعوا مائة أو ألفا، وإنهم لآحاد بين مئات الألوف، وقد بعثرت المفاجأة جيشهم من ورائهم فليس لهم ظهر يحميهم أو جناح يؤازرهم ... وفي يد العدو قذائف البارود وليس في أيديهم إلا السيوف؟!
ونظر السلطان طومان باي وأصحابه فيما حواليهم فإذا هم فرادى، وقد تمزق جيشهم شراذم مدبرة يطلبون النجاة من النار والبارود، وأيقن السلطان بالهزيمة فتقهقر وهو يجيل سيفه في يده يدفع به عن نفسه، حتى خرج من زحام المعركة ...
وسقطت القاهرة في يد العثمانيين قبل مغرب الشمس.
فلما كان يوم الجمعة خطب في مساجد القاهرة باسم السلطان سليم خان بن بايزيد العثماني، ملك البرين والبحرين، وكاسر الجيشين، وخادم الحرمين الشريفين ...
وخيم السلطان سليم وحاشيته على النيل في الجزيرة الوسطى تجاه بولاق، فأقام هناك ينتظر ما يكون من أمره وأمر المصريين وأمراء الجركس.
أطلت نوركلدي من شرفة دارها في سوق مرجوش؛ لتشهد جند الروم يجوسون خلال الديار، يفتكون ويسفكون ويهتكون الحرمات، وقد أوى الناس إلى بيوتهم فغلقوا أبوابها وجثموا وراءها يتربصون بأنفسهم ... وخلت الأسواق من الباعة والمشترين، فلا أحد هنالك إلا هؤلاء الجند ذاهبين أو آيبين، وإلا طوائف من الفتيان وشراذم من الأعراب يستخفون حينا ثم يظهرون، يطلبون غرة جندي من أولئك العثمانيين قد انفرد في الطريق ليغتالوه أو يسلبوه ثيابه وماله!
وضاقت نفس نوركلدي بما تشهد من تلك المناظر المثيرة، وجثم على صدرها الهم والقلق، ولكنها لم تزايل موقفها من الشرفة تنظر وتنتظر، لقد غادرها أرقم منذ الصباح الباكر لأمر من أمره فلم يعد، وما بها شوق إلى طلعته ولا قلق لغيابه، ولكنها تريد أن تعرف ما وراءه من أنباء الحرب، لقد كان ولدها السلطان طومان باي هنالك في الريدانية يحارب على رأس الجند، وقد انهزم عسكره ونفذ هؤلاء العثمانيون إلى المدينة كما ترى، فماذا أصاب طومان باي وأين مستقره الساعة؟ أحي فيرجى أم خلصت إليه قذيفة من قذائف الروم فجندلته؟ ولدها الذي تجد في أثره منذ ثلاثين عاما لا تدري أين ينتهي بها الطريق، فلما خيل إليها أنها قد بلغت مأملها أو كادت، ثار غبار الحرب فأنشأ بينها وبين ولدها جدارا لا تكاد تخلص إليه من ورائه، ثم كانت هذه الهزيمة، من ذا يخبرها خبره فيهدأ وجيب قلبها وتسكن مما بها من الاضطراب والقلق؟ لو جاء أرقم الساعة!
وأظلها الليل ولم تزل في موقفها من الشرفة تشهد أولئك الجند ذاهبين أو آيبين، وهذه الطوائف من فتيان الزعر، وتلك الشراذم من الأعراب، وإنها فيما بين ساعة وساعة لتسمع طلقة بندقة، أو ضجة معركة، ثم يعود السكون ولم يزل ما بنفسها من القلق والاضطراب!
وجاء أرقم موهنا فطرق الباب بخفة، ولبث ينتظر أن يفتح له وهو يدير عينيه فيما حوله قلقا قد توزعته أشجانه ...
وفتحت له نوركلدي فدخل وأغلق الباب وراءه، فأحكم رتاجه ثم جلس.
وقالت نوركلدي ضارعة: بالله خبرني يا أرقم ماذا جرى لطومان؟ ولا تخف عني شيئا من خبره؛ لقد ذقت من عنت الأيام وقسوة المقادير ما لا مخافة بعده، فصف لي كل ما تعرف من خبر طومان، وما كان مآل أمره بعد هذه الهزيمة! - إذن فقد عرفت! - لم أعرف شيئا غير ما قرأت في وجوه الناس منذ الصباح، وما رأيت في حركاتهم من الاضطراب والفزع، ثم ما حدثتني به وجوه أولئك الروم وهم يجوسون خلال البيوت وفي عيونهم شهوات المنتصر ... فقد سقطت المدينة إذن في أيدي العثمانيين، ولكن ما شأن السلطان؟ - السلطان بخير يا نوركلدي ولا خوف عليه! - هل أصابه جرح غير ذي خطر؟ هل وقع أسيرا في يد الروم؟ هل نالته قذيفة بندقة أو طعنة رمح؟ - لا شيء، لا شيء من ذلك يا نوركلدي، وإنه لحر طليق سليم البدن، ولكنه ... - ماذا بالله؟ هل أسلم نفسه راضيا إلى عدوه ودخل في طاعته؟ هل ذل بعد كبرياء وهان بعد عزة؟ هل اشترى حياته بالعرش والوطن وباع رعيته للعدو الغالب؟
صرخ أرقم في وجه نوركلدي غاضبا: اسكتي يا امرأة! ... لست أم طومان إن ظننت به هذه الظنون، إنه لأعز نفسا وأرفع منزلة من ذاك! - إذن فهو محصور في قلعته قد أطبق عليه العدو من كل جانب، وما يزال يدافع عن عرشه بلا يأس! - ولا ذاك يا نوركلدي، لقد غادر طومان باي القاهرة يتهيأ لوثبة جديدة يعود بها إلى العرش، ويقذف بهؤلاء الغزاة إلى البادية أو إلى البحر، وقد رأيته منذ ساعة في طائفة من أصحابه يعد عدته ويتربص ... - رأيته؟ - نعم. - بعينيك هاتين؟ - بعيني، وتحدثت إليه بلساني! - تحدثت إليه؟ - نعم! - وقلت له أمك نوركلدي تطمع أن تراك؟
ولمعت دمعتان في عيني أرقم، وأجهشت نوركلدي باكية واستدارت إلى الجدار لتستند إليه من الإعياء والضعف.
ونهض أرقم فوقف خلفها ومس كتفيها بكلتا يديه وهو يقول: صبرا يا نوركلدي، فستلقينه في يوم قريب فترين بطلا كريما يستحق شرف أمومتك الكريمة.
وارتجفت نوركلدي حين أحست يدين تلمسان كتفيها، فاستدارت وقالت مستحيية وفي صوتها نبرة عتاب: ولكنك يا أرقم لم تحدثه أن أمه هنا، في القاهرة، وأنها تطمع أن تراه ... - لا يا نوركلدي! - وبخلت علي بهذه النعمة!
ليس بخلا عليك يا نوركلدي ولكنه بخل طومان أن تتوزعه العواطف في وقت يجب أن يجتمع فيه قلبه على فكرة، إن طومان باي اليوم تتمثل فيه آمال أمة قد وطئتها خيل العدو وليس لها في محنتها غير رجل واحد! - صدقت! - ولم أبخل إذن؟ - بلى، ولكنك استأثرت بالنعمة وحدك فأمتعت قلبك وعينيك! - وستمتعين قلبك وعينيك عن قريب يا نوركلدي!
قالت باسمة: نعم، وأصف له ما لقيت من صديقه أرقم الرمال!
قال أرقم متأوها: ويصف له أرقم الرمال ما لقي من نوركلدي!
ونظر في وجهها فأطال النظر، كأنما يحاول أن يسترجع ماضيا قد غبر منذ أربعين عاما أو يزيد.
ونظرت في عينيه فأطالت، كأنما ترى فيهما خيال صورة مطبوعة لفتاها المحبوب الذي فقدته منذ أمد طويل، ولم تزل تطمع في لقائه.
هاتان العينان نظرتا في وجه طومان باي منذ ساعة، فإن فيهما لصورة منه مدخرة في الأعماق، فلولا الحياء لقالت لهذا الرجل الملثم بأسراره: ادن مني يا حبيبي لأرى في عينيك صورة الفتى الواحد الذي آثرته بالحب على جميع الناس ...
هل استشفت نفسها ما وراء هذا اللثام المضروب على وجه أرقم، فأحست إحساس القلب الملهم بما بينها وبينه من الأواصر حين عجز عقلها عن استكشاف السر؟ من يدري؟!
الفصل الخامس والثلاثون
الحرب سجال
ارتجت القاهرة رجة عنيفة كأنما رجفت بها زلزلة في يوم الخميس التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة 922، حين تدفقت عليها جيوش العثمانيين كالسيل الجارف لا يعترض سبيله شيء، ثم لم تلبث إلا أياما حتى رجفت بها زلزلة أخرى أعنف، وأقسى في مساء الثلاثاء الرابع من المحرم سنة 923، ولكن هذه الرجفة الأخيرة - على عنفها وقسوتها - كانت أروح لقلوب المصريين، وأخف وقعا على نفوسهم ؛ فقد كانت هذه زلزلة أقدام المصريين من جند السلطان طومان باي، يقتحمون على العثمانيين مضاربهم في هدأة الليل ويدخلون القاهرة بعد خمسة أيام من جلائهم عنها، فلم يلبثوا أن تغلغلوا في السكك والدروب، واحتلوا الدور والمصانع، ووضعوا سيوفهم في أقفية الروم، وأضرموا النار في مضاربهم على حين لهو وغفلة.
وسرى النبأ بسرعة في المدينة النائمة فهبت من رقادها تستطلع الأخبار، فما هي إلا ساعة حتى كانت البشرى على كل لسان بأن السلطان طومان باي قد عاد إلى القاهرة بجيش لجب فأحاط بجيش ابن عثمان ... فهب كل مصري إلى سلاحه وأخذ أهبته لمعونة السلطان الباسل، فما أشرق الصبح حتى كان جيش السلطان طومان باي قد استرد أكثر أحياء المدينة وكاد يغلب على سائرها، واجتمع في المدينة جيش من المصريين على رأسه الأمير علان الدوادار، فزحف من الناصرية لينضم إلى عسكر السلطان!
واتخذ طومان باي مسجد الأمير شيخو بالصليبة مقرا لقيادته، وعادت رحى الحرب تدور بين المصريين والعثمانيين في دروب المدينة. ونادى المنادي في القاهرة بالأمان لمن يستأسر من جند ابن عثمان، ويدخل في طاعة السلطان طومان باي. وعاد الطالب مطلوبا!
واستمرت الحرب في القاهرة أياما، فلما كان يوم الجمعة السابع من المحرم، خطب في مساجد القاهرة ثانية باسم السلطان طومان باي ملك القطرين، وسيد البحرين، وحامي حمى الحرمين.
وكانت نوركلدي تطل من شرفة دارها في سوق مرجوش؛ لتشهد جند المصريين يجوسون خلال الديار يبحثون عن المختبئين من أمراء ابن عثمان وجنده، فيسوقونهم أسرى إلى حيث كان السلطان طومان باي في مركز قيادته بمسجد الأمير شيخو، وكان هتاف الرجال وزغاريد النساء تتجاوب أصداؤها بين أبعاد المدينة، وفيالق فتيان الزعر وكتائب الأعراب تتوالى مواكبها على عينيها في طريقها إلى حيث تأتمر بأمر السلطان المجاهد طومان باي.
وسألت نوركلدي نفسها وفي عينيها دموعها: ترى أين أرقم الساعة ليحدثها حديثه وينبئها بما يعرف من خبر السلطان؟! إنه لغائب عن عينيها منذ ذاع في المدينة النبأ برجوع السلطان طومان باي، وإنها لتنتظر مقدمه قلقة تريد أن تعرف كيف ينتهي ذلك الأمر فيصحبها على الطريق إلى حيث تلقى ولدها الذي لم تزل على الطريق إليه منذ ثلاثين سنة.
وطالت غيبة أرقم ثم عاد ... - ورأيته بعينيك يا أرقم؟ - نعم! - وتحدثت إليه بلسانك؟ - نعم! - واستمعت إلى حديثه بأذنيك؟ - نعم! - ومتى تراه أمه بعينيها يا أرقم وتتحدث إليه بلسانها وتستمع إلى نجواه؟ - قريبا ترينه يا نوركلدي بعينيك وتتحدثين إليه بلسانك وتسمعين نجواه، أما اليوم فما أراك تستطيعين وإن بينك وبينه طريقا قد ازدحمت على جانبيه رمم القتلى من المصريين والروم، وإن الموت ليتطاير فيه على رءوس السابلة؛ ففي كل شارع معركة دامية، وإن أولئك الروم الغلاظ ليحملون بنادق البارود يرسلون قذائفها من نوافذ الدور ومن فوق السطوح ومآذن المساجد، فلا يكاد يخلص بروحه عابر سبيل ... لو كان بالسيف والرمح والمزراق ما بيننا وبين الروم من معارك لأيقنا بالنصر؛ فإن أولئك الروم لا خبرة لهم بأساليب الحرب، وليس لهم صبر على القتال، لولا هذه النار! - ماذا تقول يا أرقم؟ أفلست موقنا بالنصر؟ - بلى، ولكن دون ذلك أهوالا يا نوركلدي ... - ويتعرض طومان باي للشر؟ - لا تخافي يا سيدتي! - وتظنه يعود إلى عرشه في القلعة؟ - الصبر يا نوركلدي، إن الحرب مراحل! - وفي أي مراحلها هي اليوم؟ - ستعرفين بعد قريب؛ فإن جيشا من جند ابن عثمان قد احتشد بمصر العتيقة في طريقه إلى الصليبة للقاء المصريين عند جامع شيخو ... - ثم يكون ماذا يا أرقم؟ - ثم يكون النصر إن شاء الله! - وأرى ولدي طومان؟ - وترينه وتتحدثين إليه! - ويومئذ أصف له ما لقيت من صاحبه أرقم الرمال، وأسأله أن يضعف له المكافأة!
وصرت أسنان أرقم وضاق بما يضمر من سره فهم أن يجيب، ثم أمسك وهو يقول لنفسه في همس: ويومئذ يكون أرقم في غير حاجة إلى مكافأة نوركلدي أو مكافأة السلطان، ويمضي لوجهه فلا يراه أحد ... حسبه يومئذ أن يرى امرأته وولده في سعادة وأمان!
ثم نهض لبعض شأنه، فتعلقت به نوركلدي تسأله أن يبقى، ولكنه كان في حاجة إلى أن يستروح بعض أنفاس الحياة في جو طلق، ويذرف دموعا قد ازدحمت في عينيه ...
لو ثبت جند السلطان طومان باي ساعة من نهار أمام الجيش العثماني الذي دهمهم في معسكرهم عند جامع شيخو، لتم لهم النصر، ولارتدت فلول الروم منهزمة إلى الشرق وجلت عن القاهرة، ولكن جند السلطان طومان باي لم يثبتوا لقذائف البارود التي تحصدهم، وليس في أيديهم إلا الرماح والسيوف، لا ينالون بها رماة البنادق الذين أشرفوا عليهم من التل القريب وصبوا عليهم النار الحامية، وصاح طومان باي بأصحابه: اقتحموا عليهم بسيوفكم فإن قذائفهم لا تنال إلا البعيد! ثم قذف بنفسه في المعركة ومن حوله طائفة من أتباعه يفلقون بسيوفهم الهام، ويشقون المرائر ويجندلون الأبطال، فأثخنوا في العدو ونالوا منه بحد السيف أكثر مما نال منهم بقذائف البارود، ولكن الكثرة من أصحابه لم يلبثوا أن انفضوا، فنظر حوله فإذا هو والطائفة القليلة من أتباعه قد أوشك جيش الروم أن يطبق عليهم من كل جانب، فتقهقر والسيف في يده لم يزل يميل به ويعتدل وهو يقطر من دم العدو، حتى خلص من الزحام وما كاد ...
وكانت خوند شهددار جالسة في دارها الجديدة عند بركة الفيل، تنتظر ما يكون من أنباء المعركة بقلب واجف، وبين يديها طفلة في الثالثة تهتف باسم أبيها الذي يجالد الأبطال بسيفه وحيدا في المعركة، والمنايا من حوله تحصد النفوس ...
وسمعت شهددار طرقا على الباب فخفت إليه ملهوفة؛ لترى من الطارق في وقت لم تكن تنتظر أن يزورها فيه حبيب ولا نسيب، ورأت أمامها السلطان والسيف في يده لم تزل يقطر دما، وفي وجهه أمارات الإعياء وفي عينيه نظرة يأس، وقد اصطبغت حلته الملوكية بما تطاير إليها من دماء القتلى ...
وتراجعت شهددار وهي تقول في إنكار: لغير انتظار مقدمك في تلك الساعة جلست مجلسي هذا يا طومان!
قال طومان وقد أغلق الباب دونه وتقدم إليها خطوات: ولغير هذه الخاتمة جاهدت ما جاهدت يا خوند! - الخاتمة! إذن فقد يئست يا طومان! - لا وحقك يا حبيبتي! ولكن ماذا يصنع فرد قد انفض من حوله أمراؤه وأصحابه، وطارت أنفسهم شعاعا من قذائف النار فخلفوه في طائفة قليلة لا يغني غناء بين هذه الآلاف؟ - يجاهد وحيدا حتى ينتصر أو يموت! - وأنت؟ - وأشهد العيد يوم يعود إلي منتصرا يزين مفرقه التاج! - ويوم يجيئك منعاي يا شهددار؟ - أباهي بأنني امرأة السلطان الذي حارب وحيدا؛ دفاعا عن وطنه حتى استشهد في ساحة الجهاد! - ونوركلدي، ابنتنا الصغيرة التي توشك أن تفقد أباها في المعركة، كما فقدت نوركلدي الأخرى في بلاد الغور ولدها في غير حرب ولا قتال؟ - ليست نوركلدي الصغيرة بأعز من وطنك الغالي يا طومان! - وإذن فهو الوداع! - وداع إلى لقاء!
ليست نوركلدي الصغيرة بأعز من وطنك الغالي يا طومان.
وانحدرت دمعتان على وجنتيها الشاحبتين فجاوبتهما دمعتان على وجنتيه، وتلاصقا صدرا لصدر، وكانت خفقات قلبيهما تمام الحديث الذي لم تلفظه الشفاه!
وعلى مقربة من الزوجين المتعانقين عناق الوداع، كانت طفلة في الثالثة واقفة وقد تعلقت عيناها بأبويها وظلت صامتة كأن قد سمعت وفهمت، وعرفت كل ما هنالك، ثم استهلت هاتفة بعد فترة: أبي!
فتناولها الرجل بين ذراعيه فطبع على جبينها قبلة، وجفف في صدرها دمعه، ثم أرسلها من بين يديه واتخذ طريقه إلى الباب!
قال أرقم: لقد ذهب ولكنه سيعود!
قالت نوركلدي: وأراه يا أرقم وأجلس إليه وأسمع من حديثه؟ - نعم، وتحدثينه بما لقي منك أرقم الرمال! ويكون أرقم يومئذ في غير حاجة إلى مكافأة منك أو مكافأة من السلطان، ويمضي لوجه فلا يراه أحد!
قالت نوركلدي عاتبة: لا تزال يا أرقم تمن بما لقيت من النصب في سبيل معونة أم بائسة تريد أن تشتفي مما تجد من ألم الحرمان منذ ثلاثين عاما أو يزيد، فهلا عذرت امرأة لم تذق طعم الحنان منذ الشباب، ولم تزل - منذ كانت - تعيش في عالم من الذكريات والأماني قد انقطعت فيه عن دنيا الناس!
وحضره بثه، إن من حقه مثلها أن يشتفي مما يجد من ألم الحرمان أربعين عاما أو يزيد، إنه لرجل ولكنه مثلها لم يذق طعم الحنان منذ الشباب ، ولم يزل منذ كان يعيش في عالم من الذكريات والأماني، لم يقطعه عن دنيا الناس وحسب، بل قطعه كذلك عن دنيا نفسه، إنه في سبيل سعادة من يحب قد أنكر ذاته وشخصه، وعاد في نظر أحب الناس إليه شخصا غريبا فلا هو منه، ولا هو من نفسه!
ودمعت عيناه، فأخفى وجهه في راحتيه ومال برأسه، ونظرت إليه نوركلدي وقد اختفت سحنته الدميمة في راحتيه عن مرأى عينيها، فلم تر بين يديها حينئذ أرقم المسيخ، ولكنها رأت إنسانا آخر لا تزال تذكره على رغم السنين، وعاد إليها الصدى يردد آخر كلماته، فكأن لم تسمع صوت أرقم الرمال الشيخ، بل صوت فتى في ريق الشباب كان يجلس إليها منذ أربعين عاما يتحدث إليها وتسمع منه، وإن صوته لينفذ في أعماقها ...
ودنت منه ولا يزال وجهه مخبوءا في راحتيه، فوقفت خلفه ومست كتفيه بكلتا يديها وهي تقول في تأثر: ما بك اليوم يا أرقم؟
وسرت بينهما كهرباء الذكرى حين تلامسا، فارتجفت يداها وانتفض بدنه كله، أما هو فكان يعرف عرفان اليقين من هذه التي تتحدث إليه وقد أسندت يديها إلى كتفيه، وأما هي فلم يكن بها إلا إحساس القلب الملهم!
واستدار نحوها فالتقت عيناها بعينيه، فلم تلبث سحنته الدميمة أن أسدلت الستار بينها وبين ذلك الماضي البعيد، فأغضت المرأة من حياء وأنغض الرجل رأسه من ألم، وأطبق الصمت على المكان!
وتمثلت لعينيهما في وقت معا صورة واحدة قد التقيا عندها قلبا وفكرا وعاطفة، واجتمعا في الوهم على حقيقة حين مثلت لهما في الخيال صورة طومان باي، فتعانق حول صورته شعاع من فكرها وشعاع من فكره، وقد تجافيا جسدين!
الفصل السادس والثلاثون
السهم الأخير
عبر طومان باي النيل إلى الجيزة، وأنفذ الرسل إلى أصحابه يؤذنهم بمكانه، فلم يلبث أن انضم إليه جيش جديد من المصريين والأعراب وفلول المماليك، فأقام في مضارب هوارة بالصعيد يعد عدته لغزو القاهرة واسترداد عرشه وحرية وطنه، وتلبث زمانا والمتطوعون ينسلون إليه من كل حدب، وكان قايت الرجبي كبير أمناء الغوري لم يزل حبيسا في برج الإسكندرية، فحطم أغلاله وخف لنصرته في الصعيد، وفك الظاهر قنصوه أغلاله كذلك وهم أن يلحق به، لولا أن مملوكا من أتباع خاير بك قد اغتاله قبل أن يبلغ حيث أراد ...
واجتمع لطومان باي في الصعيد جيش من المتطوعة كلهم صاحب عزم وقوة، قد تحالفوا على الموت أو يطردوا العدو من أرض الوطن ويردوا الأشرف طومان باي إلى عرشه.
وترادفت الأنباء على القاهرة بما تهيأ له من أسباب الحرب، وبما اجتمع له من العتاد والجند، وكان في القاهرة يومئذ بضعة نفر يشغلهم من أمر طومان باي أكثر مما يشغله من أمر نفسه، أولئك نوركلدي وأرقم الرمال، وزوجته الشابة شهددار بنت أقبردي، ثم مصرباي الجركسية وخاير بن ملباي!
خمسة قد ذهب الفكر بهم مذاهبه، أما أمه وأبوه فجالسان ينتظران، لا يشكان أنه سيعود إلى القاهرة يوما، فيطرد العدو إلى البادية أو إلى البحر، ويسترد عرشه وحرية وطنه، ويلقاهما كما لقي يوسف أبويه على العرش!
وأما شهددار بنت أقبردي فكانت فخورا بما تسمع من أنبائه، لا تشك أنه سيحارب حتى ينتصر أو يموت، وحسبها من السعادة أن تستيقن أن زوجها لن يرضى الدنية فيخلع لأمته أو يضع سيفه دون أن يبلغ إحدى الحسنيين، وأي عجب في أن يكون ذلك هو كل ما تفكر فيه شهددار، وهي بنت أقبردي الذي قضى حياته مكافحا حتى مات وسيفه في يده!
على أن لحظات ثقيلة كانت تمر بها حين تنظر في عيني طفلتها الظريفة نوركلدي، وحين تسمع هتافها باسم أبيها الذي لم تره منذ بعيد، فتأسى ويجثم على صدرها الهم، ثم لا تلبث أن تذكر ماضيها وماضي طومان، وما اعترض سبيلهما من عقبات قبل أن يلتقيا، فتردها الذكرى إلى الأمل في لقياه.
وأما مصرباي وخاير بك فآه مما كان يحيك في صدريهما!
إن مصرباي اليوم لأرملة قد مات زوجها الظاهر قنصوه بعد سبعة عشر عاما في الأسر، وإنها لتطمع أن تعود إلى العرش سلطانة، وأن يصعد خاير بك إلى العرش سلطانا في ظل راية ابن عثمان ... فهل تظل راية ابن عثمان مرفوعة على قلعة الجبل تلقي ظلها على القاهرة، أو ينتزعها من ساريتها طومان باي ليرفع الراية المصرية؟!
وأما القاهرة كلها فكانت على يقين واحد بأن طومان باي سيعود، وسيصعد ثانية إلى العرش الذي لم يصعد إليه سلطان أحب إلى الشعب منه، أفتصبر القاهرة على عسف السلاطين هذه السنين المتطاولة، حتى إذا جاءها السلطان الذي تحبه وتفتديه وتأمل الخير على يديه، لم يتهيأ له أن يجلس على العرش إلا بضعة أشهر ثم تفقده مصر؟! إن المقادير لا يمكن أن تبلغ من القسوة هذه الغاية، فلا بد أن ينتصر طومان باي، وأن يعود إلى عرشه، وأن يرتد هؤلاء الروم على أعقابهم منهزمين، كما ارتد المغول والتتر والصليبيون، وكما ارتد بايزيد العثماني - أبو السلطان سليم نفسه - أمام جيوش الأشرف قايتباي!
قال السلطان سليم لوزرائه: إني والله لأخشى عاقبة هذه الحرب، فقد انقطع ما بيني وبين بلادي، ولا يزال صاحب هذه البلاد يعد العدة ويثير الناس لحربنا في الجنوب والشمال، وإنه لذو حول وحيلة، والرأي عندي أن نهادنه فنعود إلى بلادنا قبل أن تدهمها خيل الصفوية!
قال خاير بك: يا مولاي ...
قال الوزير يونس باشا: اسكت يا خاير بك، فإنك لنفسك تعمل، وإنما في شأن أنفسنا نفكر!
وازدرد خاير بك وجان بردي الغزالي ما كان على شفاههما من الكلام، وأمسك خشقدم الرومي فلم ينطق حرفا ...
واستأنف ابن عثمان قوله: وإني أرى أن نبعث إلى طومان باي رسولا بأن تكون له مصر، على أن تكون السكة والخطبة باسمنا، فإن أجابنا إلى ذلك الشرط فقد كفينا شره، وحسبنا أن تكون في يدنا الشام وما يتاخمها من البلاد، وإن أبى فإن لنا تدبيرا آخر ...
ولم يتلبث السلطان، فبعث رسوله بشرطه إلى طومان باي، ولكن الرسول لم يعد بجواب، فقد كانت نية المصريين مجتمعة على القتال حتى يجلو ابن عثمان عن البلاد ...
وعادت المعارك بين جند السلطان سليم وجند طومان باي.
هذا شهر ربيع الأول سنة 923 قد بزغ هلاله ... في مثل هذا اليوم منذ عام كانت القاهرة تشهد كتائب السلطان الغوري تتهيأ لحرب ابن عثمان، تلك الحرب التي جمع لها الغوري ما جمع من العدد والعتاد، ثم لم تلبث إلا ضحوة من نهار في مرج دابق، وتمزق الجيش المصري أشلاء على رمال الصحراء، واختفى أثر السلطان نفسه وبدأ زحف العثمانيين على مصر ...
إذن فقد مضى عام ولم تزل مصر في حرب الروم، فهل يا ترى تحتفل القاهرة بذكرى المولد النبوي في هذا العام، أم يشغلها ما هي فيه من الفزع والتربص عن الاحتفال بتلك الذكرى الكريمة؟ ومن ذا يرأس الاحتفال إن كان، أيرأسه هذا السلطان العثماني الذي ينكر المصريون عليه وعلى أصحابه ما يرون من فعالهم، أم يرأسه طومان باي؟
إن الأنباء لتتوارد منذ أيام باحتشاد جند السلطان طومان باي على النيل تجاه بولاق، في إنبابة، والمنوات، ووردان، ولعل الثاني عشر من ربيع الأول لا تشرق شمسه إلا وهو في القاهرة، يحتفل بالعيد النبوي الشريف في قصر القلعة، على رأسه التاج ومن حوله الخليفة المتوكل على الله، وشيخ الإسلام، والقضاة الأربعة ونوابهم، ومن بقي من أمراء الجركس وأشراف المصريين، تلك عادة مأثورة منذ سنين بعيدة، وإن الله ليحب أن يحتفل المسلمون بذكرى نبيه الكريم ...
وأشرق وجه نوركلدي حين جاءها النبأ باحتشاد الجند على شاطئ النيل استعدادا للمعركة الفاصلة، وإذن فسينتصر طومان باي، وسيدخل القاهرة في موكب الفتح، وسيحتفل بذكرى المولد النبوي في قصر القلعة، كما كان يحتفل أسلافه من السلاطين.
وأقامت القاهرة أياما تنتظر في لهفة وشوق، فلما كان يوم الأحد السادس من ربيع الأول، بدأ جيش ابن عثمان حركته وعسكر على شاطئ النيل استعدادا للدفاع، فما أهل اليوم العاشر حتى كانت جموعهم مجتمعة، ثم نشبت المعركة الخامسة بين المصريين والروم!
ولعب المصريون بالسيوف والرماح في رقاب الروم، وانطلقت قذائف البارود من أفواه البنادق الرومية تحصد المئات، وكان جان بردي الغزالي ملثما متنكرا في زي أعرابي، قد اندس بين الأعراب في جيش السلطان طومان باي، حتى حانت له الفرصة فانخذل بطائفة غير قليلة من حزبه، وكشف ظهر المصريين للعدو ... ووقع أصحاب طومان باي بين نارين من وراء ومن أمام، فتبعثروا على ظهر الفلاة يطلبون النجاة ...
وطيف برءوس القتلى من عسكر السلطان طومان باي منصوبة على سوار من خشب في شوارع القاهرة ينادي أمامها المنادون، وألقيت سائر الجثث في النيل، فلم تأت ليلة المولد حتى كان في كل درب من دروب القاهرة مأتم ونواح.
قالت نوركلدي: فهذا ما رأيت يا أرقم من غلظة السلطان سليم، فكيف تراه يصنع بولدي طومان إن ظفر به؟ - لن يظفر به يا نوركلدي! - ولكنه قد انهزم وذهب في الأرض، ويوشك أن يعثر به جند السلطان سليم فيسوقوه إليه في الأغلال! - إنما الحرب سجال، فما انهزم طومان، وما أحسبه يقع في يد السلطان سليم، وما أراه إلا عائدا إلى القاهرة في يوم قريب وقد اجتمع له جيش يسترد به القاهرة ويجلس على عرشه. - أتصدقني القول يا أرقم أم هي أمنية تتمناها؟ - بل هو اليقين يا نوركلدي. - ولكن أتباعه قد تبعثروا أشلاء، وطيف برءوسهم على السواري، فمن أين له جيش يحارب به فينتصر؟! - إن مصر لم تعقم ولم تفقد رجاءها يا نوركلدي، وإن طومان باي لحبيب إلى كل نفس! - ولكن هذه الهزائم المتوالية يا أرقم تفرق القلوب المجتمعة، وتصدع الرأي الملتئم، وتقلقل العزم الراسخ! - أنت إذن لا تعرفين طومان باي يا نوركلدي! - إنني أنا أمه! - نعم، ولكنني أنا ... أنا صديقه!
وعاودته أحزانه فأطرق صامتا وأطرقت نوركلدي صامتة، لقد أوشك أن يقول كلمة أخرى لولا أن ثاب إليه وعيه فأمسك. نعم، إنه أبوه ... ولكنه في مرآة نوركلدي وفي مرايا الناس: أرقم المسيخ!
الفصل السابع والثلاثون
آخر الطريق
أين يذهب طومان باي وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت؟ لقد بذل آخر ما في طوقه ليدافع عن عرشه وعن وطنه، وعن الأمانة التي حملها على كاهله حين رضي أن يحمل على رأسه ذلك التاج، إنه لمسئول منذ ذلك الحين عن رعيته، وعليه وحده تبعة ما ينالها، لا يخليه من هذه التبعة أنه فرد ليس له من الناس أعوان، فليحارب حتى يموت ويخضب دمه الأرض، وإلا فإن على رأسه دم كل أولئك الشهداء الذين قادهم إلى الموت باسم الدفاع عن الوطن. الموت في المعركة هو العذر الواحد الذي يخليه من تلك التبعة الثقيلة، ولكن من أين له الجند الذين يحارب بهم حتى يموت؟!
وتذكر صديقه حسن بن مرعي السنهوري شيخ أعراب البحيرة، إن لطومان باي عليه يدا منذ أطلقه من سجن السلطان الغوري، فلولاه لبقي في ذلك السجن حتى يدركه أجله، فهذا دين يدينه به ومن حقه أن يسأله باسمه المعونة والنجدة، فلعله يجمع له من فتيان القبائل العربية الضاربة في بوادي الشمال والجنوب جيشا يحارب به. لقد خاض حتى اليوم مع العثمانيين خمس معارك لم ينهزم في واحدة منها من ضعف أو من جبن، فلولا الخديعة والمكر، أو الغدر والخيانة، لكان القائد المظفر في تلك المعارك جميعا، وإنه ليأمل أن يظفر بعدوه في المعركة السادسة، أو في السابعة، بمعونة أولئك الأعراب الشجعان الذين يأمل أن يجمعهم لنصرته صديقه حسن بن مرعي السنهوري! ويومئذ يعود إلى عرشه، ويتخذ من شيوخ أولئك الأعراب أمراء ووزراء وقادة ...
لماذا لم يفطن سلاطين الجركس قبل اليوم إلى حق شيوخ الأعراب في الإمارة والوزارة وقيادة الجند، وإنهم لأولو عزم وقوة، وفيهم مروءة وحفاظ على العهد، وقد كانوا يوما سادة هذه البلاد؟! ليت السلاطين قد فطنوا إلى ذلك منذ بعيد، إذن لاستطاعوا أن يجمعوا قلوبهم على محبتهم والولاء لهم، ولكن إلا يكن السلاطين قد فطنوا إلى هذه الحقيقة، فقد فطن إليها طومان باي آخر الأمر، وما ينبغي له أن يغفل عنها حتى يعود إلى عرشه.
كذلك كان طومان باي يحدث نفسه، وفرسه يخب به في طريقه إلى سنهور، حيث يأمل أن يلقى صديقه حسن بن مرعي شيخ أعراب البحيرة ليعينه على أمره.
والتقيا وجلس طومان باي يتحدث إلى صديقه ساعة من نهار، وأقسم له صاحبه لينصرنه بكل ما يملك من مال وجند وعتاد، وتحالفا على الوفاء .
وأوى طومان باي إلى خيمته متعبا يلتمس بعض الراحة فأخذته عيناه واستسلم للنوم، وظل صاحبه السنهوري يقظا يؤامر نفسه على خطة لعل مثلها لم يخطر على بال عربي قبله.
وقال الرجل لنفسه: مالي ولهذا الرجل الذي يريد أن يحملني على مغاضبة السلطان سليم ويدفعني إلى عداوته؟ ثم ماذا أسلفنا هؤلاء الجركس من الإحسان لنبقي على حكومتهم، وهذا رجل قد أفل نجمه وصارت الدولة برغمه عثمانية؟!
ثم حانت منه التفاتة نحو فرس السلطان طومان باي ربيطا إلى جانب خيمته، وعليه سرجه وركابه وزينته الملوكية، فلم يستطع السنهوري أن يقاوم إغراء شيطانه، فوثب إلى ظهر الفرس وولى وجهه شطر الجيزة، حيث كان عسكر السلطان سليم، واستأذن على السلطان فأذن له، فدخل ليسر إليه النبأ، ثم عاد أدراجه إلى سنهور.
وأطبق جند السلطان سليم على خيمة طومان باي، فوضعوا في يديه الأغلال وحملوه على ظهر فرسه وساروا به، وكان في الركب خاير بك وجان بردي الغزالي.
قال السلطان سليم وقد رأى بين يديه رجلا لم ير مثله في الرجال: ها نحن أولاء قد ظفرنا بك يا سلطان! فبالله ماذا خيلت لك أوهامك حين شرعت في وجوهنا السيف وأبيت الاستسلام؟
قال طومان باي ولم تفارق شفتيه ابتسامته: ذلك حق هذه الأمة علي يا سلطان الروم، فهلا سأل مولاي نفسه: ماذا كان يفعل لو أن جند مصر قد اقتحمت عليه بلاده، وبسطت سلطانها على رعيته، أكان يستأسر لها طائعا أم يدافع عن وطنه حتى الموت؟
قال السلطان سليم: قد كان لك هذا لو كنت سلطان الروم، أما وأنت ...
قال طومان وقد رفع رأسه شامخا: أما أنا فسلطان مصر التي أوشك أبوك بايزيد ابن عثمان أن يستأسر لجندها طائعا، لولا أن من عليه بالفداء سلفي السلطان قايتباي!
بدا الغضب في وجه أصحاب السلطان، وأحدقت عيونهم بطومان باي وقد اشتعلت جمراتها، ولكن السلطان سليم لم يلبث أن ردهم إلى الهدوء حين قال باسما: عن غير هذا سألتك يا سلطان، وإنما أردت أن أعرف لماذا أبيت أن تبقى على عرش مصر في ظل الراية العثمانية، وما طلبنا منك إلا أن تكون السكة والخطبة باسمنا ولك الحكم والإمارة والجباية، فكيف آثرت على كل ذلك هذا المصير؟
قال طومان: ذلك العرش قد ائتمنتني عليه الرعية، فما كان لي أن أجعله تحت سلطان غير سلطان الرعية التي حملتني أمانتها!
قال سليم: فالآن يا سلطان سترد الأمانات إلى أصحابها!
ثم أمر فأعدت لطومان باي خيمة مفردة ريثما يفكر في أمره.
وقال سليم لأصحابه وقد خلا لهم المجلس: أما إنه لرجل، ولقد والله حدثتني نفسي أن أخلي بينه وبين عرشه وأعود أدراجي، لولا أنني أخشى انتقاضه.
قال الوزير يونس باشا: إن مولاي ليكسب به حليفا يعين في وقت الشدة، وإنه لذو حفاظ ومروءة.
قال خاير بن ملباي مغيظا: نعم، وإنه إلى ذلك لذو حفيظة وثأر ...
قال السلطان ضاحكا: صدقت وما قصدت يا خاير بك!
وشاع في المدينة النبأ بوقوع السلطان طومان باي في يد ابن عثمان فلم يصدقه أحد، إن طومان باي لأرفع مكانا من أن ينتهي إلى مثل ذلك المصير، ومن ذا يعرف طومان باي فيصدق أنه اليوم أسير في يد السلطان سليم، إنه لفارس كأن قد ولد على ظهر فرسه، فلغيره الأسر وله النصر أو الشهادة!
إن المصريين جميعا ليرقبون ظهوره كرة أخرى، كما ظهر مرة ومرة على رأس جيشه؛ ليرد عليهم حريتهم ويستنقذهم من جور ابن عثمان، فإنهم لينكرون ذلك النبأ ويرمون قائله بالإفك والبهتان.
وكأنما كان شيوع الخبر في المدينة بالقبض على طومان باي أذانا يدعو المصريين إلى الكفاح، فولوا وجوههم نحو النيل حيث ينتظرون مقدمه، يتوقعون كل يوم أن يثور غباره، فينضووا تحت لوائه لجهاد ذلك العدو الباغي، وطال ارتقابهم أياما ولم يظهر طومان باي، وما كان له أن يظهر وهو أسير في يد ابن عثمان.
وقال خاير بك للسلطان سليم: أرأيت يا مولاي ماذا يكون لو أفلت من يدك طومان باي، وهذا الشعب على ما ترى من نية الانتقاض والغدر؟!
قال جان بردي الغزالي: وما أراهم يصدقون أو يستكينون حتى يروا بأعينهم أميرهم في الأغلال بين يدي حراسه.
قال خاير بك: بل ما أراهم يصدقون حتى يروه مشنوقا، قد شدت حول رقبته الحبال وتدلى جسده على باب زويلة، وحينئذ يستتب لمولاي الأمر.
قال السلطان سليم وقد غامت على وجهه سحابة: فسنوكب له غدا موكبا يشق به المدينة في أغلاله؛ حتى يراه كل ذي عينين في القاهرة، فيعلم أن الحكم اليوم لسليم ابن عثمان!
وكان أرقم مما به من الهم والضيق لا يكاد يعي، فليس يدري أيصدق ما يرجف به الناس أم ينكره، لقد مضى بضعة عشر يوما منذ معركة إنبابة ولم ير أثرا أو يسمع خبرا عن السلطان طومان باي، فأين يكون إن لم يكن أسيرا في يد ابن عثمان؟!
وكانت نوركلدي من حديث نفسها في قلق ووسواس، فهؤلاء جند العثمانية يسلكون الدروب ويجوسون خلال المدينة آمنين، تطفح وجوههم بشرا وتتراءى في عيونهم أمارات الاطمئنان، كأنما استتب لهم الأمر فليس وراءهم ما يخشونه أو يحسبون حسابه، وهذا أرقم صامت لا ينطق كلمة ولا يتحدث إليها بحرف يرد إلى نفسها الهدوء والطمأنينة، وكلما همت أن تسأله أو تتحدث إليه ردت نفسها؛ مخافة أن يفضي إليها بما لا تريد أن تسمع من الأنباء.
وضاقت آخر الأمر بما يهجس في نفسها فلم تجد طاقة على الصبر، فتقدمت إليه تسأله وفي عينيها قلق وفي وجنتيها شحوب!
وأرهفت أذنيها للسمع، ولكنها لم تسمع جواب أرقم، ولعله لم يجبها ولم يفتح فمه، فقد كان مثلها مرهف السمع يريد أن يستبين ما يترامى إلى أذنيه من أصوات في الطريق، وزياط وضجة وهتاف يتردد صداه بين جدران المدينة الأربعة، ولا تكاد تبين منه كلمة أو يتميز صوت من صوت ...
وأسرع الشيخ والشيخة إلى النافذة يستطلعان النبأ ...
يا ويلتا! هذا السلطان طومان باي في آخر مواكبه: فارس على سرجه قد أحاط به جند الروم وفي يديه أغلاله، والناس على جانبي الطريق قد ارتفع صراخهم واختلطت أصواتهم، فما يبين صوت من صوت، فما هو إلا الصدى يتردد بين جدران المدينة الأربعة، والسلطان مغلول اليدين يرد إليهم تحياتهم إيماء بالرأس وابتساما على الشفتين، وعلى وجهه نور اليقين وفي عينيه روح الطمأنينة.
وكان في شرفة الدار المطلة على طريق الموكب السلطاني في سوق مرجوش شيخ وشيخة، قد انطبقت شفاههما وجمدت في عيونهما نظرتان فيهما كل معاني القنوط واليأس ومرارة الخذلان.
وصرخت المرأة وقد جاوزها الركب مصعدا نحو الجنوب: ولدي!
ثم استدارت لتتعلق بعنق صاحبها وهي تسأله في لهفة: قل لي: أين يذهبون به؟
وكان الرجل شاحب الوجه كأنما قد نزف دمه، فقال وهو ينتزع الكلمات من بين فكيه: صبرا يا نوركلدي، وسنلحق بالركب لنرى.
ثم ولى وجهه نحو الباب والمرأة متعلقة بذراعه، فاندفعا نحو الطريق وخاضا في أحشاء الزحام
وكان الركب قد أبعد وجاوز الشرابشيين وقبة الغوري، ودنا من جامع المؤيد، ولكن الطريق وراءه من زحمة الخلق لم يكن فيه موضع لقدم، فلا يكاد السالك يمضي إلى الأمام خطوة حتى يرده الزحام إلى الوراء خطوات ...
وقالت المرأة ولم تزل متعلقة بذراع صاحبها: بالله قل لي يا أرقم: أين يذهبون به؟ لقد رأيته ولكنه لم يرني ولم يسمع ندائي!
قال أرقم: فسيراك ويسمع نداءك، وما أراهم الساعة إلا ذاهبين به إلى السجن؛ ليقيم فيه أياما قبل أن يرحلوا به إلى منفاه في مكة، أو إلى معتقل السلاطين في برج الإسكندرية.
قالت وفي صوتها رجاء: وتصحبني يا أرقم إلى حيث يذهبون به، حتى ألقاه وأتحدث إليه وأسمع منه؟ - وأصحبك إلى حيث تريدين يا نوركلدي!
وردهما الزحام خطوات إلى الوراء، وازداد صراخ الناس وارتفعت ضجتهم إلى عنان السماء، واستجمع الشيخان قوتهما الذاهبة ومضيا في طريقهما يشقان الزحام، لا يكادان ينظران إلى أحد من الناس أو يريان غير طريقهما، ولا يكادان يسمعان ...
وبلغا باب زويلة بعد نصب ومشقة ...
وكان على الباب جسد معلق قد شدت حول رقبته الحبال، وتعلقت به أنظار الناس وارتفع بكاؤهم إلى السماء!
وهتف كلا الرجل والمرأة في وقت معا: ولدي طومان!
وتعلقت به أعينهم كأنما ينتظران رد الجواب، وكانت عيناه مفتوحتين كأن قد رأى وسمع وعرف أباه وأمه، وكانت شفتاه منفرجتين كأنما يرسل إليهما ابتسامة رضا واطمئنان ...
وهتفت المرأة ثانية: ولدي!
وخيل إليها كأنما سمعت جوابه، فانفلتت من يد صاحبها.
وكان على الباب جسد معلق قد شدت حول رقبته الحبال.
عجلى تحاول أن تشق الزحام لتصعد إليه، ولكنها لم تصعد، بل سقطت مغشيا عليها في ظل جسد مشدود بالحبال يترجح في الفضاء ... ثم استفاقت!
وملأت نوركلدي عينيها من ولدها كما تمنت، وأسمعته نداءها، فهل رآها طومان باي وأسمعها نداءه؟
وبلغت آخر الطريق التي دميت عليها قدماها منذ ثلاثين عاما أو يزيد، فلم تجد في آخرها ولدها طومان، ولكنها وجدت زوجها أركماس!
وأنزل الجسد الميت عن الباب بعد ثلاثة أيام، وحمله الرجال على الأعناق إلى حيث يدفن في قبة الغوري.
وألف الناس منذ ذلك اليوم أن يروا أربعة أشخاص يحضرون إلى قبة الغوري كل صباح قبل مطلع الشمس، فيقضون حول الضريح ساعة مطرقين لا يتكلم أحد منهم إلى أحد، ثم يمضون لشأنهم. أولئك أرقم الرمال وصاحبته، وشهددار بنت أقبردي وطفلتها الصغيرة نوركلدي بنت طومان باي!
وجلس على عرش مصر «ملك الأمراء» خاير بك، ترفرف على رأسه الراية العثمانية، وصعدت إليه في قصر القلعة عروسه الفاتنة خوند مصرباي.
Bog aan la aqoon