بينما كانت تقطع الممر الوعر يتبعها حاجب الفندق حاملا أمتعتها، كان غريبا عليها أن تعود لارتداء حلة سفر أنيقة وحذاء ذي كعب عال مرة أخرى؛ إذ لم يكن بالشعور المريح بعد أسابيع من الحرية، لكنها تقبلته بصدر رحب باعتباره جزءا من عودتها إلى الحياة المتمدنة. عندما جلست على رصيف المحطة واضعة حقيبة سفرها عند قدميها، ترى بالأسفل التماع صفحة البحيرة، أدركت أنها بلغت قمة سرورها.
كان الهواء خاليا من الرطوبة، وكان به لذعة البرودة التي تميز الارتفاعات. كان وهج الشمس يلفحها، فشعرت بدفئها وضوئها يغمرانها. نزعت قبعتها وحدقت في عمود الإشارة تترقب بحماسة لحظة هبوطه التي يعقبها ظهور محرك يبدو صغيرا عند طرف القضبان.
كان هناك آخرون على الرصيف؛ فقد كان وصول القطار السريع هو الحدث الرئيسي لذلك اليوم. كان الوقت مبكرا للغاية بالنسبة للمسافرين الفعليين، لكن كان هناك جماعات من زوار القرية وساكنيها يتسكعون حول أكشاك الصحف والفاكهة. كان حشدا مرحا وصاخبا اختلطت فيه لغات عدة. لم تسمع آيريس أحدا منهم يتحدث بالإنجليزية حتى أتى رجلان من الطريق المؤدي للقرية.
وقفا مستندين إلى السياج خلفها، يتابعان جدالا ما. في البداية، لم يثيرا اهتمامها بما يكفي لكي تلتفت لترى وجهيهما، لكن صوتيهما كانا مميزين لدرجة جعلتها تتخيلهما على الفور.
كان للذي خمنت أنه الأصغر سنا بينهما صوت شغوف غير منمق. كانت واثقة من أنه يملك ذهنا متقدا تتدافع فيه الأفكار. كان يتحدث بسرعة، وكثيرا ما كان يتلعثم محاولا إيجاد كلمة مناسبة، لا لقصر مفرداته، بل لكثرة الاختيارات أمامه على الأرجح.
شيئا فشيئا حاز تعاطفها؛ لأنها أحست أن ذهنه متناغم مع ذهنها - أو بالأحرى ناشز مثله - ولأنها أيضا نفرت من المتحدث الآخر غريزيا. كانت لهجته متحذلقة تعمد أن تكون راقية، وكان يتحدث على مهل بنبرة سلطوية مثيرة للحنق فشلت في إخفاء جمود عقله. «لا يا عزيزي هير.» شعرت آيريس أنه كان من الأحرى به أن يقول «واطسون.» «أنت مخطئ لدرجة كبيرة؛ فقد ثبت قطعا أن أعدل وأفضل نظام قضائي هو نظام المحاكمة بواسطة هيئة محلفين.»
غمغم صاحب الصوت الأصغر سنا: «بل قل المحاكمة بواسطة هيئة من الخرقى. نحن نتحدث عن مواطنين عاديين. صحيح أنه لا يوجد شخص عادي، لكن كل شخص لديه تراكماته الخاصة من الأحكام المسبقة، ربما تكون امرأة ضغينة لبنات جنسها، أو كانت أخلاق رجل متزعزعة، جميعهم يلعنون السجين لأسباب مختلفة، وجميعهم لديهم أعمال ومنازل يتلهفون للعودة إليها، فيعدون الساعات ويتمسكون بظواهر الأمور.» «هم يتلقون إرشادات من القاضي.» «وكم يتذكرون من تلك الإرشادات؟ أنت أدرى كيف يشرد ذهنك وأنت تستمع إلى سلسلة من الكلمات المرسلة. علاوة على ذلك، حتى بعد أن يضع لهم النقاط على الحروف، يهرعون ثم يخرجون إليه بحكم خاطئ.» «ولم تفترض أنه خاطئ؟ لقد توصلوا إلى استنتاجهم الخاص بناء على شهادات الشهود.»
في خضم انفعاله، ضرب الشاب السياج بيده وقال: «الشهود! الشاهد هو الجزء الأسوأ من ذلك النظام؛ فربما كان غبيا لدرجة تجعل منه عجينا يشكله محام مراوغ، أو ربما يتمتع بقدر من الذكاء فيكذب ويضيع مستقبل رجل بائس، لا لسبب سوى أن يقرأ عن ذاكرته المدهشة وقوة ملاحظته ويرى صورته في الصحف. جميعهم ينشدون الشهرة.»
ضحك الرجل الأكبر سنا ضحكة استعلائية ضايقت رفيقه وأخذها على محمل شخصي. «عندما أتهم بقتلك يا بروفيسور، أفضل أن يحاكمني فريق من القضاة الذين يبحثون الحقائق بعقول قضائية مدربة وعدالة نزيهة.»
قال البروفسور: «أنت متحيز، دعني أقنعك. هيئة المحلفين لديها ذكاء جمعي، يمكنها من الحكم على الأشخاص. بعض الشهود يعول عليهم، وبعضهم الآخر يجب أن ينظر إليهم بعين الشك. على سبيل المثال، كيف تصف تلك المرأة السمراء التي تضع رموشا مزيفة؟» «جذابة.» «مم! أما أنا فسأقول إن زينتها مبهرجة، وكذلك سيقول أي رجل عادي في العالم. الآن لنفترض أن شهادتها تتعارض مع شهادة تلك السيدة الإنجليزية التي ترتدي معطفا ماركة «بيربري»، إحداهما ستكون كاذبة قطعا.» «لا أتفق معك؛ فربما يعتمد ذلك على وجهة النظر. الرجل العادي الذي يمتلك حديقة خلفية، إن رأى زهرة بنفسج فهو على أتم استعداد لأن يقسم على أن ما يراه هو زهرة بنفسج، في حين أنه إن ذهب إلى بستان نباتات فسيجد مكتوبا تحتها «سيرينجا».» «الاسم النوعي ...» «أعلم، أعلم. لكن إن أقسم مواطن عادي نزيه أن زهرة السيرينجا بيضاء اللون، وأقسم آخر أنها بنفسجية اللون، فستكون هناك حتما فرصة لوقوع لبس. شهادات الشهود قد تكون كذلك.»
Bog aan la aqoon