وهنا نترك الشاعرة وشأنها تحيا قصيدة ليست هي نظما ولا نثرا.
بعد الزواج
تزوجت عائشة فانتقلت بالزواج إلى عالم جديد له ما يرافقه من حرية ومسئولية، وما يخالطه من مسرات وغموم، ولقد كان يشوقنا أن نقف على وقع هذا الظرف الخطير في نفسها، وأن نستشف اللون الذي بدت لها الحياة به بعد أن اختلفت في بعض جوهرها عن حياتها في بيت أبيها.
ترى أكان لها من هذا الانتقال مستطاب الأثر أم مستنكف الخبر؟ أكانت به محظوظة أم مغبونة؟
حسن أن نعلم، بفضل «الدر المنثور» أنها «هنالك اقتصرت عن المطالعة وإنشاد الأشعار والتفتت إلى تدبير المنزل وما يلزم له خصوصا حينما رزقت بالأولاد والبنات.» ولكنا مضينا على تخمين ذلك وإن لم نخبر به؛ لأنه أمر طبيعي. أمر طبيعي كذلك أن يسوقها كسواها عباب الحياة اليومية متشابها للجميع بمادته، وإن تغاير حتما لكل امرئ بتغاير مزاجه وبتفاعل هذا المزاج والأحوال التي تعالجه ويعالجها. أما ما ولده هذا الانتقال في الشاعرة من خوالج، أما نسيج شعورها في تلك الأعوام السحيقة فذاك ما يظل مغلقا علينا لولا لمحات نسترقها فيما كتبت، ولولا القليل الذي ترضى أن تلقي به إلينا، فتقول:
وبعد انقضاء عشر سنوات كانت الثمرة الأولى من ثمرات فؤادي، وهي توحيدة نفحة نفسي وروح أنسي، قد بلغت التاسعة من عمرها، فكنت أتمتع برؤيتها تقضي يومها من الصباح إلى الظهر بين المحابر والأقلام، وتشتغل بقية يومها إلى المساء بإبرتها فتنسج بها بدائع الصنائع فأدعو لها بالتوفيق شاعرة بحزني على ما فرط مني يوم كنت في سنها من النفرة في مثل هذا العمل، ولما بلغت ابنتي الثانية عشرة من عمرها عمدت إلى خدمة أمها وأبيها فضلا عن مباشرتها إدارة المنزل ومن فيه من الخدم والأتباع. فتسنى لي أن أنصرف إلى زوايا الراحة.
14
إذا نظرنا إلى توحيدة بعيني أمها وجب أن نسلم بأنها فتاة غير عادية. وسيكون لها من محبة والدتها نصيب فوق نصيب كل من إخوتها وأخواتها، وبسبب توحيدة هذه ستبكي عائشة كثيرا، كثيرا. •••
كانت قبل الزواج قد تلقت عن مؤنس أفندي القرآن الشريف والفقه والخط، ودرست على الأستاذ خليل رجائي علم الصرف واللغة الفارسية التي سبق فعلمنا أن والدها تولى متابعة تلقينها إياها قبيل زفافها، مكرسا لابنته كل يوم ساعتين من وقته. ثم تلت أعوام جاءت في مطلعها توحيدة التي شبت فطنة الذهن، يقظة الفؤاد، فحملت على منكبيها الفتيين تبعة الإدارة المنزلية والتنظيم. فانقلب بشاغل عائشة ذلك الشوق القديم، وعاد إليها بقوة الحب الذي ساير عمرها في الحزن والفرح - حب الدرس والمطالعة: «حينئذ خطر لي أن أستأنف ما فاتني في صغري من تعلم فن العروض فجئت بمعلمة» ... «ولكن لم يمض على الشروع في الدرس ستة أشهر حتى انتقلت المعلمة إلى رحمة ربها. وكانت بنتي تلازم دروسنا في تلك المدة فاستطاعت - بسبب حداثة سنها وتوقد ذهنها - أن تلم بفن العروض أكثر من إلمامي به.»
15
Bog aan la aqoon