ولكن أظننا بلا دليل ولا علامة قد نعرفها بمجرد الاستسلام لهدى الفراسة. إن التي ترجح على أختيها بمثل ما رجحت عائشة لا بد أن تحوي ملامحها منذ الصغر شيئا يختلف عما يرى في وجه عادي الصغار. فنحب أن نتصورها طفلة دمثة في العاشرة من عمرها، تنضح شفتاها المتوسطتا الحجم بطلاوة العاطفة وشوق المحبة. شفتان تهمان بالافترار لتذوق المستطاب المستساغ من طعوم الحياة جاهلتين ما وراء ذلك من حنظل وغسلين. ونحب أن نتخيل في العينين القاتمتين من معاني الشجن وغزارة العواطف ما يتفق مع معاني الوجوم واللذاذة في الثغر. ونكاد نرى تينك الشفتين تختمان بالخط اللطيف البارز بدقة كأنه حفر حفرا، الذي يرى في شفاه أهل الفن والذوق، وفي شفاه بعض الشعراء. كأنه يشير إلى الأوزان التي سيضبط توقيعها العواطف المستفيضة الشاردة، ويقتنص الزفرات الملتهبة المتدافعة ليسكبها فيما يظل منضدا على القرطاس نظيما، ويظل على شفاه الطروب من الناس شاديا. •••
من أين جاءت هذه الصغيرة بميلها المبكر إلى الكتب، وبوراثتها الشعرية والبيانية، وميل جدها جلي لحمل سلاح الجندي دون سلاح الكاتب؟! أمر لا تتيسر معرفته، إلا للذي اطلع على ما يجهله كبير الأسرة الحالي، أحمد تيمور باشا، من تاريخ التيموريين قبل الهجرة إلى مصر. بيد أن المعروف عن والدها أنه كان راغبا في العلم والأدب، فألف كتابا ضمنه خلاصة مطالعاته محاكيا به سفينة الراغب
4
ووضع لأسرته تاريخا باللغة التركية كان في نية السيدة عائشة أن تنقله إلى العربية (نروي هذا عن أحمد باشا وقد أخبرته به شقيقته الشاعرة فيما بعد). وجمع مكتبة نفيسة تشتتت بعد وفاته كما تبعثرت أصول الكتابين اللذين لم يطبعا. على أن لذلك الفاضل أجمل أثر يحمد في تعليم ابنته والعناية بتثقيفها في عصر ضنين على النساء بالتعليم والتثقيف وإن عائشة لتذكره دواما بالشكر والتحنان، وترثيه بعد وفاته بقصيدة ملأى بالعبرات:
أبتاه، قد حش الفراق حشاشتي
هل يرتضي القلب الشفوق جفائي؟
يا من بحسن رضاه فوز بنوتي
وعزيز عيشته تمام رخائي
إن ضاق بي ذرعي إلى من أشتكي
من بعدك فقدك كافلا برضائي؟
Bog aan la aqoon