فكيف أشكو لمخلوق، وقد لجأت
لك الخلائق في يسر وشدات
فيا لها من جراح كلما اتسعت
أعيت طبيبي رغما عن مداواتي
وهكذا نحن من شعر عائشة الأخلاقي في دائرة صغيرة لا تنفحنا بمتين الحجة أو بمكتمل الرأي القائم بنفسه. بل نعثر فيها على الكلمات المسكنة من صبر وتجلد وإنذار بأن الأيام متقلبة لا تدوم على حال. ودفعا للألم تتمنى عائشة أن تتجرد من كل شعور وكل رجاء، وكل اغتباط، وألا تنتظر السعادة كيلا تفاجأ بالفشل والخيبة:
فلا تقل لي متاع وهو عارية
واليأس عندي راحات اعترافاتي
على أن الراحة الكبرى عندها في الصلاة وفي الالتجاء إلى الله الذي هو وحده يسعد ويشقي. وهذه العاطفة تصل بين شعرها الأخلاقي وشعرها الديني فتجعل منهما مزيجا واحدا. •••
لقد تغذت الإنسانية منذ فجر تاريخها، بعواطف أولية قليلة استدرت منها كل نشاطها وما فتئت تسوقها في جهادها. وتلك العواطف منها الحسن ومنها السيئ. ومن مظاهرها ما هو صالح ومنها ما هو طالح. ومن تمازج هذه العواطف في نفوس الأفراد وفي نفوس الجماهير تتكون الرغبات والشهوات والانفعالات التي تتلاطم وتتعارض فيما بينها. فينجم عن تباينها ومضيها في الاسترسال ما نسميه التطور الإنساني الذي نشهد منه هذه الصور الرائعة دهرا بعد دهر في ازدهار الحضارات، وفي كل ما يهتدي إليه الإنسان من اكتشاف علمي واختراع آلي، ونظام اجتماعي ودولي، وابتكار فني وأدبي.
ومن تلك العواطف الإنسانية الإعجاب بمكارم الأخلاق الذي نجده حتى عند أحط الجناة غريزة، ومنها العاطفة الدينية المتلونة بشتى الألوان على تنوع النفوس، حتى لتبدو أحيانا في مظهر يزعمه البعض «كفرا». على أنها متأصلة عريقة في قلب الإنسان الذي يروعه هذا الكون العظيم فيتساءل «من ذا الذي أنشأه؟» ويذهله النظام الدقيق في الفلك الدائر، في نمو النبات، في سنن الحياة فيبحث عن الغاية التي من أجلها ينفذ هذا النظام. ويجزع مما يهدده من حاجة وألم ومرض وعجز ونكبة وموت فيلجأ إلى بداهة القوة العليا المهيمنة على عوز البشر وبؤسهم، ويبتهل إليها مستسلما لعوامل رحمتها وأحكام حكمتها. هذه هي البواعث الأساسية للشعور الديني الذي يسبك فيما بعد كل نفس في قالبها الخاص. ولقد كانت العاطفة الدينية حية كل الحياة عند شاعرتنا، وقد سمعت من شقيقها المفضال أحمد تيمور باشا، أنها كانت تقية تصوم وتصلي وتقوم بجميع الفرائض الدينية. على أن شعرها الديني لا تعمق فيه ولا روعة. هو كسائر شعرها، يتناول النواحي المألوفة المتداولة. ويمتزج بالعاطفة الأخلاقية من حيث الاعتراف بالذنوب والرغبة في التوبة، ومن ثم يبدو فيه الاستعداد لساعة الرحيل، وذكر هذه الساعة يحملها على وصف ما يجول في القلوب من طمع حيال سرير المحتضر أمام حشرجة النزع، حتى عند هيل الثرى على نعوش الأقربين. وفي هذه الأبيات سخرية طفيفة في مس من الكآبة على ما يبذله الحي من مجهودات لحشد المال:
Bog aan la aqoon