بلغت تلك الحركة أشدها في عهد إسماعيل وقد بدت أدبية اجتماعية بعد أن كانت ميكانيكية علمية، يمتزج فيها استيحاء الجديد وتجديد «القديم» الاستيحاء بالاطلاع على مؤلفات الأجانب ونقل ما تيسر نقله منها إلى العربية. والتجديد بإعلاء شأن روح اللغة؛ إذ كانت يومئذ آلات مطبعة بولاق الأميرية والمطابع الأهلية الأخرى تشتغل لإعادة نشر مؤلفات «المدرسيين» من كتاب الإسلام وعلمائه الأقدمين. وكثرت الصحف حتى بلغ عددها السبعة والعشرين فترتب على ذلك «نشر أغراض عامة في تلك الجرائد ومباحث علمية وأدبية في صحيفة روضة المدارس وتخريج نوابغ من طلبة مدرسة دار العلوم على يد أستاذهم المرحوم الشيخ حسن المرصفي واستفادة بعض النبهاء من طلبة الأزهر بطول اختلاطهم بالمرحوم الشيخ جمال الدين العالم العصري حين ذاك، سلوك سبل أخرى في الإنشاء تستمد منها الأقلام. فعوضا عن الاشتغال بكتابة التهاني أو البشرى بمولود، أو التأسي على مفقود أو المدح أو الهجاء أو العتاب أو الاستعطاف أو التغزل بالغيد والغانيات أو مكاتبة الأصحاب والأحباب والرجاء والاعتذار التي هي من الأغراض الخصوصية، مالت الأقلام إلى الكتابة في حب الوطن وما يستلزمه من خير العمل والحث على الفضيلة والتباعد عن الرذيلة وحق الحاكم على المحكوم والمحكوم على الحاكم وغير ذلك من شرح حكم عالية هي من الأغراض العمومية. كل هذا كان أعظم مرشد للمطلعين عليها حتى ترتب على ذلك تغيير عظيم في الأساليب الإنشائية، وفي الحركة الفكرية وفي الشعور بالذاتية».
2
ذكر هنا أمين باشا سامي ذلك الرجل الشرقي الشبيه بفلاسفة الماضي كسقراط وسواه الذين لم يكتبوا وإنما أرسلوا تعاليمهم ضمن المحادثات العادية. وكانت أهم المحافل الفكرية هي الحلقة التي تعقد حول جمال الدين «في القهوة التي قرب قهوة البورصة القدي ...» «ولعل تلاميذه لا ينسون في مستقبل الأيام أن يحيوا ذكره بينهم في ذلك المكان» هذا رأي الدكتور شبلي شميل الذي عرف الأفغاني وجالسه وناقشه. ويتابع الحديث عنه قائلا: «لم يكتب فيما أعلم شيئا
3
وإنما يلقي على آخرين مقالات ضافية تنشر في «جريدة مصر»
4
تحت أسمائهم. ولولا الشيخ محمد عبده ويده الكاتبة لما كان لصوته صدى ولبقيت تعاليمه في صدور أكثر الذين تلقوها عنه وماتت معهم؛ إذ كانت كل تعاليمه حديثا يلقيه بحسب مقتضى الحال» «وقبل «جريدة مصر» كانت شهرة جمال الدين مقتصرة على الأخصاء وأعماله محصورة في دائرة مريديه. وأما «جريدة مصر» فكانت سببا كبيرا لإذاعة صيته ونشره في الآفاق.» «ولم يتهيأ له أن وقف خطيبا في قوم إلا مرة واحدة أظهر فيها أنه خطيب مفوه أيضا. وكان ذلك بمسعى أديب إسحق. وفي تياترو زيزينيا على محضر من جمهور غفير من علية القوم من رجال ونساء من السوريين والمصريين. فألقى خطبة اجتماعية سياسية أبدع فيها معنى ومبنى وجرأة وبقي يرتجل الكلام نحو ساعتين من دون أن يبدو أدنى تعب أن يتلعثم حتى خلب العقول وأقام الناس وأقعدهم.»
5
جاء الأفغاني مثالا محسوسا لتفاعل الأفراد والجمهور. إذ رأى ببصيرته النافذة ما يحرك نفوس إخوانه من العوامل المستفزة نفسه، دون أن يهتدوا إلى كيفية التلخيص والإفصاح. فتكلم فيهم بلغته «الممزوجة ببعض لكنة أعجمية تنم عن أصله الغريب وإنما وقعها على الأذن كان محبوبا.
6
Bog aan la aqoon