قالت: «وما هي الحقيقة إذن؟» قالت نائلة: «أما استئثاره بالسلطة فذلك لأنه أمير المؤمنين له الإمامة والسلطان، وأما إيثاره أقاربه فله أسوة بالرسول فقد كان يعطي قرابته، وأما إحراز الأموال والتوسع في المعيشة فإنهما من مقومات هذا المنصب. ثم إن أمير المؤمنين يطعم الناس طعام الأمراء، وأما هو فوالله لقد رأيته يأكل الخل والزيت، أتعدين من يفعل ذلك طامعا في الدنيا؟»
قالت أسماء: «إذن فلماذا هذه الفتنة؟»
فتنهدت نائلة وقالت: «إنهم فعلوا ذلك حسدا، وإني أعرف من زعماء هذه الثورة قوما عاشوا في نعم أمير المؤمنين أعواما ثم وسوس لهم الشيطان. وقد أخبرني ثقة أن الذي حرضهم على ذلك رجل يهودي اسمه عبد الله بن سبأ أسلم حديثا وأخذ يتنقل في الحجاز والبصرة ثم الكوفة والشام، يريد إضلال الناس فلم يصغوا له وأخرجوه من الشام، فأتى مصر وأقام فيها فلقي هناك آذانا صاغية، فجعل يقول لأهل مصر: «العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمدا يرجع!» فوضع لهم بدعة يسمونها «الرجعة» فقبلوا ذلك منه . وقال لهم: «كان لكل نبي وصي، وإن عليا وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله؟» وزعم أن أمير المؤمنين عثمان وثب على وصي الرسول وأخذ الخلافة بغير الحق فقال لهم: «انهضوا بهذا الأمير، ابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس.» وبث دعاته، وكاتب أشياعه في الأمصار وكاتبوه، وبثوا دعوتهم في الخفاء وصاروا يكتبون إلى الأمصار كتبا يضعون فيها من أقدار ولاتهم، وتوسعوا في دعايتهم فبدأ الفساد من ذلك الحين، فثار المسلمون في كل الأنحاء إلا أهل الشام والمدينة فإنهم ثبتوا على الولاء للخليفة. هذا هو سر الأمر يا ابنتي.»
فتأثرت أسماء واقتنعت بما قالته نائلة، ومالت كل الميل إلى نصرة عثمان. ومشت الاثنتان نحو الباب المقفل بينهما وبين مجلس الخليفة، فنظرت أسماء من شق فيه فرأت عثمان جالسا في صدر المجلس على وسادة مزركشة وقد علته البغتة وامتقع لونه وآثار الجدري لا تزال ظاهرة فيه، وتأملته جيدا فرأته مشرف الأنف عظيم الأرنبة، وقد أدار نظره نحو الدار ويده اليسرى على لحيته يمشطها بأصابعه يتشاغل بها عن قلقه، وخاتم الخلافة في إحدى أصابعه، وفي يده اليمنى قضيب الخلافة، وكان قد نزع عمامته فبانت صلعته. وسمعت في بعض جوانب الغرفة رجلا يقرأ القرآن ولم تره، ورأت بين يدي الخليفة جماعة من أمية لم تعرفهم، ثم سمعت خفق نعال عند باب المجلس وإذا بعثمان يضع العمامة على رأسه ويقف تكريما للقادمين، وكان أول من دخل منهم علي بن أبي طالب فحيا عثمان بتحية الخلافة قائلا: «السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.» ثم دخل بعده رجل ربعة أميل إلى القصر، رحب الصدر، عريض المنكبين، إذا التفت التفت جميعا، ضخم القدمين، حسن الوجه أبيضه، مشرب بالحمرة، كثير الشعر ليس بالغزير ولا بالخفيف وقد شاب أكثره فلم يصبغه، فحيا وجلس إلى جانب علي. فالتفتت أسماء إلى نائلة وسألتها عنه فقالت: «هذا طلحة بن عبيد الله.» ثم دخل في أثرهما رجل أسمر اللون خفيف اللحية معتدل العضل، فقالت أسماء: «ومن هذا؟» قالت: «الزبير بن العوام.» ولما استتب بهم المقام قالت نائلة: «اجلسي يا ابنتي لنسمع ما يدور بينهم فعساهم أن يكونوا قد جاءوا لخير.»
فجلستا تنظران وتسمعان ولا يراهما أحد.
بدأ علي الكلام في المجلس قائلا لعثمان: «أتدري لأي شيء جئناك يا أمير المؤمنين؟»
قال عثمان: «الله أعلم»، قال: «يعلم الله أننا جئنا نريد بك خيرا، إنك يا أمير المؤمنين ابن عم الرسول الأعلى، وقد تزوجت باثنتين من بناته، وتلك كرامة لم يحزها أحد سواك. وأنت يا أبا عبد الله من السابقين الأولين، فقد صليت إلى القبلتين، وهاجرت الهجرتين، وأنت أول من هاجر إلى الحبشة، وتوليت الكتابة للرسول، وجمعت القرآن. فأنت يا أمير المؤمنين من خير الصحابة، وقد توفي رسول الله وهو عنك راض وبشرك بالجنة، فلا نرضى أن تكون الأمة ناقمة عليك ولا أن يهموا بخلعك أو قتلك، ونحن نعلم أنهم إذا فعلوا كانت الفتنة نعوذ بالله منها! فتقسم الأمة وتكون العاقبة وبالا عليها.» وكان علي يتكلم وعثمان مطرق يقلب في صفحات مصحف بين يديه، فلما أتم كلامه رفع عثمان رأسه وقال: «إني عالم بكل ذلك يا أبا الحسن. بم يقتلونني وقد سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير حق»، وما فعلت شيئا من هذا. وإني أتقدم إليكم أن تشيروا علي.»
فقال علي: «نرى أن تخاطب الناس فإنهم هاجوا وأحاطوا بدارك ناقمين، فقم إليهم وعدهم خيرا.»
Bog aan la aqoon