قالت: «لا أرى شيئا يعزيني في هذه الدنيا يا مولاتي، ولا يحلو لي الكلام، وأحمد الله لما لقيته من مواساتك فقد استأنست بك كثيرا وشعرت بحنوك حنو الأم على ولدها.» قالت ذلك وهي تمسح دموعها وتشهق بالبكاء.
فتأثرت نائلة وأبقت الحديث في شأن مروان إلى فرصة أخرى، وأحبت أن تسليها عن الحزن فدعتها لمشاهدة ما في بيتها من الأثاث، وأكثره من الطنافس والسجاد والأواني مما غنمه القواد في فتح الشام والعراق من قصور الملوك والبطارقة وأغنياء الروم والفرس، وفيها أسلحة مرصعة وأعلام ودروع وآنية من الفضة والذهب من غنائم المدائن عاصمة الفرس على عهد عمر بن الخطاب، وبينها تاج كسرى مرصع بالجواهر، وثيابه ووشاحه وكلها من الديباج المنسوج بالذهب المنظوم بالجواهر، ودرع هرقل، ودرع خاقان ملك الترك، ودرع داهر ملك الهند، ودرع النعمان بن المنذر، وكثير من الأسياف المرصعة، وأدركت أسماء من تكومها بعضها على بعض بلا تنظيم أنها لم توضع لأجل الزينة. ثم خرجت نائلة بها إلى غرفة صغيرة رأت فيها أريكة وعليها جواد من ذهب فوقه سرج من فضة، وعلى ثغره ولباته الياقوت والزمرد وعلى الجواد فارس من فضة مكلل بالجواهر. وبالقرب من الجواد ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت وعليها رجل من ذهب. فانبهرت أسماء لتلك التحف التي لم تر مثلها ولكنها علمت لأول وهلة أنها ليست من صنع بلاد العرب.
فقالت: «ومن أين هذه التحف يا سيدتي؟»
قالت: «إنها من غنائم المسلمين مما فتحوه من بلاد الفرس، وهي من متاع بيت المال وإنما نقلناها إلى هنا لأمر اقتضى ذلك وسنعيدها إليه، فأحببت أن أريكها لأنها من أبدع ما صنع ولا نظن الزمان يأتي بمثلها.»
فقالت أسماء: «لقد عرفت فائدة التيجان والسيوف والدروع، ولكنني لم أفهم فائدة هذا الجواد والناقة؟»
قالت نائلة: «أخبرني بعض من شهد فتح المدائن من أمرائنا أنهم لما فتحوها ودخلوا إيوان كسرى رأوا في صدر الإيوان الأريكة التي كان تاج هذا الملك قائما فوقها، وعلموا أنه كان مركزا على أسطوانتين من المرمر المذهب وعلى قمة إحدى الأسطوانتين هذا الجواد وراكبه، وعلى قمة الأسطوانة الأخرى هذه الناقة وراكبها، وكان الفرس قد نزعوا هذه وحاولوا الفرار بها فظفر بهم المسلمون وأخذوها منهم.»
فأعجبت أسماء بما رأت إعجابا عظيما، وبينما هي تنظر إلى صحن الدار لمحت مروان مارا فأجفلت وانقبضت نفسها وأرادت أن تعود إلى حجرتها متظاهرة بالحاجة إلى الراحة، فودعت نائلة ورجعت فدخلت الغرفة وأغلقت الباب وتوسدت الفراش وغرقت في بحار الهواجس.
أما مروان فكان قد علم بمجيء أسماء إلى نائلة، فأراد أن يعلم ما جرى بينهما فجاء متظاهرا بالرغبة في لقاء الخليفة ثم تحول إلى غرفة نائلة فرآها وحدها، فسألها عما جرى فأخبرته أنها لم تفاتحها في شيء وأنها ستذهب إليها في الغد وترى ما يكون، فألح عليها أن تستطلع ضميرها وتقنعها، فوعدته بأنها ستدعوها في الغد إلى الإقامة عندها. •••
وفي صباح اليوم التالي بكرت نائلة إلى غرفة أسماء، فوجدت الباب مغلقا ففتحته بلا استئذان، فرأت أسماء نائمة وقد أغمضت جفنيها وتوسدت إحدى ذراعيها، وجعلت الأخرى فوق رأسها فانحسر كمها عنها فبان زندها وبانت عروقه مخضرة كأنها خطوط متعرجة رسمها الجمال تحت تلك البشرة الناعمة الغضة، ونمت على كل زند عضلاته واستدارت حتى يخيل إلى ناظره أن الصحة تتدفق منه. وكانت الشمس قد أشرقت فأرسلت أشعتها من نافذة فوق رأس أسماء، فمرت الأشعة حتى اجتازتها ولم تقع عليها، ولكنها جعلت لزندها ظلا خفيفا وقع على محياها فأخفى ظل أهدابها الطويلة. فوقفت نائلة تتأمل ذلك الجمال المحلى بالصحة وهي تحاذر أن توقظها، فلمحت على معصمها وشما على شكل الصليب فاستغربت ذلك لعلمها أنها مسلمة ولا يتخذ ذلك الوشم غير المسيحيين، فتأملت فيه فإذا هو رسم صليب لا ريب فيه، ثم دنت من رأسها فرأت العرق قد كلل جبينها وزادها بهاء وجمالا.
وكأن أسماء أحست بوقوف نائلة إلى جانبها، فغيرت وضعها ورفعت يدها عن جبينها واستلقت على ظهرها فانشق صدر ثوبها، فبان من تحته قلادة من فضة تدلت منها تميمة صغيرة عليها رسوم مسيحية أيضا، فازداد تعجب نائلة واشتد ميلها إلى استطلاع السر. وبينما هي في ذلك إذ رفعت أسماء يدها إلى عينيها فمسحتهما فرأت نائلة واقفة عند رأسها، فخجلت لنومها بين يديها ونهضت بعد أن أرسلت كمها فوق معصمها وأطبقت صدرها، فحيتها نائلة فردت التحية وهي تمسح عرقها وتهم بالوقوف، فأقعدتها وقالت: «استريحي يا ابنتي، إني لا أريد إزعاجك ولم آت إلا التماسا لراحتك.»
Bog aan la aqoon