ولم يكد محمد يتوارى عن قباء حتى أمر يزيد عبيدا كان مروان قد أرسلهم لخدمته فقوضوا الخيام وحملوا الأمتعة، وسار الركب إلى المدينة بعد أن ودعت أسماء قبر أمها وأكرمت خادم الجامع وامرأته فوق ما أكرمهما به محمد فودعاها وهما يبكيان.
فلما أشرفوا على المسجد تذكرت أسماء لقاءها عليا هناك، وما كان من اضطرابها وقلقها في الليل الغابر، وتاهت في بحار التأمل، ولم يهمها شيء من ضوضاء أهل المدينة وتجمهرهم في أسواقها. وقبل وصولهم إلى المسجد مروا بأحجار الزيت، وهي موضع صلاة الاستسقاء بقرب الزوراء، فرأوا الناس هناك جماعات متكاتفين وهم أخلاط من أهل مصر والكوفة والبصرة، وفيهم الأمراء والفرسان والعبيد والخدم على اختلاف أزيائهم، وكل حزب في شاغل وحديث وجدال. وبلغوا دارا وراء الجامع فناؤها واسع يحيط به سور منيع، ولها باب ضخم في وسطه باب صغير، وكان الباب مغلقا والحراس واقفون به، فعلمت أنها دار عثمان. ولم يتجاوزوها حتى وصلوا إلى باب وقفوا عنده، فترجل يزيد هناك فعلمت أنه المنزل المقصود، فترجلت وقد أنهكها التعب والنعاس لما قاسته من المجاهدة والبكاء والحزن. ولكنها لم تكد تدخل المنزل حتى لقيها مروان، فلما رأته استعاذت بالله وندمت على مجيئها، على أنها لم تر بدا من النزول مع يزيد. فلما رآها مروان وقد تسربلت بالثوب الأسود وبدا تحته وجهها وقد زاده انكسار الحزن جمالا وإشراقا، ازداد تعلقه بها فتقدم نحوها مسلما ومعزيا، فردت عليه ردا فاترا، أما هو فبالغ في إكرامها وسار في خدمتها إلى داخل الدار، وكان بعض نساء المنزل قد جئن لاستقبالها فدخلن بها حجرة ويزيد معها، وهي لا تنطق بكلمة وإذا كلمها أحد لم يكن جوابها إلا البكاء. ولما خلت إلى يزيد سألته عن أهل ذلك المنزل فقال: «هؤلاء آل حزم.»
ورأى مروان من الحكمة أن يتركها لتستريح فخرج يتدبر وسيلة لاسترضائها بالحسنى، فخطر له أن يوسط بينه وبينها نائلة بنت الفرافصة زوجة الخليفة، وكانت نائلة ذات مقام رفيع لزواجها بالخليفة، على أنها لم تكن من قريش بل قحطانية من بني كلب، وكان والدها من الفرافصة نصرانيا يقيم بالكوفة. وكانت عاقلة حسنة الخلق، ولم تكن ترتاح إلى مروان لنزقه وطيشه، وكثيرا ما كانت تخالفه فيما يشير به على عثمان زوجها حتى انتهرته مرارا ونصحت لزوجها بألا يصغي إليه، ولكنها لم تكن تبالغ في جفائه احتراما لقرابته منه.
فسار مروان إليها وكان في اضطراب عظيم لما أحاط بزوجها من الأخطار، فلما رأته قالت: «ما وراءك يا مروان؟» قال: «ما ورائي إلا الخير يا خالة، إني أراك في وجل من أمر هؤلاء الناس الذين يحاولون نزع الخلافة من أيدينا، ورأس ذي النورين عثمان إنهم لن ينالوا ذلك! فقد كتبنا إلى معاوية في الشام، وإلى عامر ورؤساء الأجناد من بني أمية نستقدمهم إلى نجدتنا، فإذا جاءوا لم يستطع المصريون أو الكوفيون أو البصريون مناوأتهم، فيتفرقوا أيدي سبا.»
فتنهدت نائلة وقالت: «لا أظنهم يصلون إلينا يا مروان إلا بعد أن تنفد الحيلة، والتبعة كلها عليك فإنك وسعت الخرق بطيشك.»
فضحك مروان وقال: «سوف ترين بعينك يا خالة مساعي مروان، وسوف تعلمين مدى فشل هؤلاء الأعداء المغرورين. فلا تجزعي ولا تخافي، إننا نحن الفائزون بإذن الله.»
قالت: «دعنا من الهزل يا مروان، إن الأمر جلل.»
قال: «بل هو أهون مما تظنين، وما أنا حاسب له حسابا، ومما يدلل على ذلك أني بسبيل البناء بعروس جميلة جئت بها إلى هذا المكان.»
قالت: «وأية عروس؟» قال «أسماء بنت يزيد الأموية، إنها على جانب عظيم من الجمال وقد كانت في دمشق، وكانت أمها راغبة عن تزويجها وقد ماتت في قباء. وجئت بالعروس وأبيها اليوم وأنزلتهما في دار بني حزم، وهي الآن نائمة تستريح من وعثاء السفر، فأرجو منك إذا جاءتك غدا أن تقنعيها بأني كفء لها.»
فقالت: «أين نحن من الزواج يا غلام؟»
Bog aan la aqoon