وما زالت في ذلك حتى تعبت فغلب عليها النعاس فنامت على ذلك الحصير، فرأت فيما يرى النائم أمها تمشي إليها على بساط من الورد المنثور وعليها حلة أرجوانية طويلة الذيل مزركشة بالذهب تجرها وراءها وعلى رأسها تاج من زهر الرمان، ورأتها تمشي الهويناء وهي تتلمس الخطى كأنها تحاذر مرور النسيم. فبغتت أسماء لرؤية خيال أمها ولا سيما لما رأتها في عافية تامة وقد ارتد إليها لونها وتوردت وجنتاها وأشرق وجهها ، وظلت أسماء في دهشة شاخصة إلى ذلك الخيال وكأنها سمعته يقول بصوت رخيم: «هل عرفت أباك يا أسماء؟»
فأسرعت أسماء إليها وألقت نفسها على صدرها تستنشق حنان الأمومة، فانتعشت وجعلت تقبلها وتقول: «لا، لا يا أماه لم أعرفه بعد. قولي لي، قولي فقد نفد صبري.»
فضمتها والدتها إلى صدرها، وهمست في أذنها: «اخفضي صوتك لئلا يسمعك الإمام.»
فأطاعتها وقالت بصوت خافت: «قولي لي يا أماه من هو أبي.»
قالت: «إنما جئت إليك الآن لأخبرك بذلك، فاعلمي أن أباك هو ...» وسكتت لحظة وهي تتلفت يمينا وشمالا وعيناها تلمعان كأن الماء يغشاهما، وأسماء شاخصة إليها وقلبها يكاد يتفطر وسمعها مرهف لسماع اسم أبيها، ولكنها ما لبثت أن رأت أمها ترتعد وقد أخذ لونها في الامتقاع وهي تنظر إلى شبح قادم إليها، ثم رأتها أجفلت وحاولت الفرار فتشبثت أسماء بها وهي تقول: «امكثي بالله لا تذهبي، انطقي باسم أبي!» فلم تلتفت إليها وحاولت التملص منها وأسماء ممسكة بها. وفجأة أفاقت مذعورة فرأت نفسها في تلك الحجرة المظلمة على ذلك الحصير القذر، وسمعت صوتا لم تكد تموجاته تدرك أذنها حتى ارتعدت فرائصها لمشابهته صوت مروان بن الحكم عدوها القديم، فقالت في نفسها: «أعوذ بالله من حظي على يد هذا الرجل! ما زال ذكره شؤما علي حتى في أحلامي، كنت في ألذ الأحلام فأيقظني بصوته.»
فما كادت تفتح عينيها حتى رأت مروان واقفا أمامها وقد تقلد حسامه وأتقن هندامه، فلما رأته استعاذت بالله ولم تلتفت إليه.
فتقدم مروان إليها وهو يقول: «لقد صفحنا عما مضى يا أسماء، كنت ترجعين عن غيك وتعلمين أن محمدا وعليا لا يغنيان عنك فتيلا. أنت الآن في دمشق مسقط رأسك ومقر آبائك، ما لك وللمدينة والكوفة؟ أصغي لنصحي وارجعي عن عنادك، واعلمي أنك إذا أطعتني هذه المرة صفحت عما مضى وكنت أسعد فتاة وإلا فإنك مقتولة لا محالة، لأنك في قبضة يدي أفعل بك ما أشاء. واعلمي أن معاوية سيبعث إليك ليحقق معك في شأن ما فهت به في المسجد مما لا يأتيه إلا كل مختل الشعور، فإذا شئت البقاء حية فاعتذري مما فرط منك وحالفي القوي، ولا يغرنك انتصار علي في البصرة فإنه سيلقى منا سيوفا لا تفل ورجالا لا ترد وقلوبا كالحجر الصلد، وستخرج الخلافة من يديه فيخضع لنا هو وأولاده وكل من يلوذ به.»
وكان مروان يتكلم وأسماء ترتعد وجلا وقلبها يكاد يفر من صدرها وصعد الدم إلى وجهها فتوردت وجنتاها واحمرت عيناها، وهي مع كل ذلك مطرقة تفكر وقد أيقنت أن حياتها بين يديه ويدي معاوية، فحدثتها نفسها بادئ الأمر بأن تعمل بما توحيه عواطفها فتنتهر مروان وتوبخه، ولكنها تذكرت ما جرته عليها جرأتها في المسجد فأمسكت وتجلدت وهي تكظم الغيظ ولم تحر جوابا.
فظن سكوتها لينا أو رضاء فدنا منها وبالغ في التودد إليها فقال: «لعلك تذكرين ما عاملتني به من الجفاء، وأنا أعذرك وآمل أن تكوني قد ارعويت، لأنك إنما كنت مدفوعة إلى ذلك بطيش الشبيبة، وكنت تحسبين محمدا أهلا لك، وقد رأيت كيف انقلب أمرهم جميعا، وكيف قام المسلمون عليهم يطالبون بدم الخليفة عثمان. ولا أظنك تجهلين ما فعله محمد وقد كنت شاهدة مقتل عثمان، ألم تريه وقد دخل عليه وأمسك بلحيته وهم بقتله فوبخه الخليفة وذكره فرجع؟ أتعدين ذلك دفاعا؟ وهل تزعمين بعد ذلك أن محمدا خير من مروان؟»
فثقل كلام مروان على أسماء ثقل الجبال حتى كادت تحرج باحتقارها إياه فتبوح له، ولكنها كظمت الغيظ وسكتت فطفحت عواطفها دموعا وهي مطرقة لا تنظر إليه.
Bog aan la aqoon