وبينما الناس يسمعون خطاب معاوية إذا بفتاة وقفت فيهم وعيناها تتقدان غيظا وحنقا والمهابة تتجلى في محياها، فلفتت انتباههم فشغلوا بالنظر إليها عن سماع الخطاب. ثم صعدت إلى دكة من رخام وولت وجهها شطر الناس وظهرها إلى معاوية، وقالت وصوتها يرتعش وركبتاها تصطكان: «أيها الناس، أراكم تسمعون وتغضبون لأمر لم تشاهدوه ولا أنتم على بينة منه، لأنكم لم تكونوا في المدينة ولا شاهدتم مقتل الخليفة. يقولون لكم إنه قتل مظلوما وإن عليا قتله وآوى قتلته، وهذا افتراء لأن عليا أول من دافع عنه بلسانه وسيفه وأولاده. قتل عثمان أيها الناس والحسن والحسين في داره وقد تلطخ وجه الحسن بالدم، ولو لم يأمرهما عثمان بالكف عن الدفاع لبذلا النفس عنه، على أنهما لم ينجوا مع ذلك من تأنيب الإمام وقد شهدت ذلك بنفسي ورأيته رأي العين. فاتهام علي بمقتله افتراء وفتنة لا يصيب القائم بها إلا ما أصاب أصحاب الجمل في البصرة. تزعمون أنه قتل مظلوما، وربما كان زعمكم صحيحا، ولكن عليا لم يرد قتله بل هو أول من قال باستبقائه خوفا من الفتنة، فكيف تقولون إنه قتله؟!»
وما أتمت أسماء كلامها حتى صاح معاوية: «من ذا الذي يتكلم؟! من أنت يا رجل؟!»
فالتفتت إليه أسماء وقالت: «إنني فتاة يا معاوية ولست رجلا.»
فعجب لهذه الجرأة من فتاة في مثل سنها وتأثر من هيبتها وجمالها وأنفتها، ومع كل غيظه وحنقه لم يأمر بالقبض عليها ولا المثلة بها، ولكنه دعاها إليه والناس شاخصون ينظرون كأنه يريد مجادلتها في الأمر، فأشار إليه عمرو إشارة فهم منها أنه لا يليق أن يجادلها أمام الناس لأن الجدال ينقص من برهانه، فأعجبه دهاء عمرو. فلما صارت أسماء بين يديه أمر بالقبض عليها، فتكاثف بضعة عشر من رجاله لشد وثاقها فصاحت فيهم: «تتجمهرون على فتاة وأنتم رجال! ولا حاجة إلى شد الوثاق فإني لا أفر من بين أيديكم! أليس عارا عليكم أن تدفعوا الحق بالقيود والأغلال وهو إنما يدفع بالبرهان والجدال؟!»
فأشار معاوية أن يسيروا بها إلى السجن حتى ينظر في أمرها.
الفصل السابع عشر
أسماء في السجن
ولا تسل عن حال أسماء لما وجدت نفسها في حجرة لا يدخل إليها النور إلا من كوة في أعلى البناء، وليس فيها إلا حصير بال. فأخذت تفكر فيما آلت إليه أمورها وما تتوقعه من العذاب، فندمت على ما أبدته من الجرأة في الدفاع عن علي، ولكنها شعرت أنها أقدمت على ذلك بالرغم منها، فقد كانت كلما سمعت اسم علي طربت واستعزت أو خافت وتهيبت وهي لا تقدر على كبح إحساسها.
فلما خلت إلى نفسها تمثلت لها حالها كما هي، فتذكرت ما مر بها من الأهوال منذ حداثتها وما قاسته من البلاء في أسفارها وجهادها وما كان من وفاة أمها قبل وصولها إلى المدينة وضياع سرها، ولما وصل ذهنها إلى هنا اعترض ظلمة كدرها نور ضعيف من الأمل في كشف السر على يد القسيس مرقس. ثم تصورت مروان وما سامها من العذاب في بيت الخليفة عثمان، وتذكرت أنه كان البيت الذي كاشفت فيه محمدا بالحب فطربت لذلك، ثم تذكرت سفرها إلى مكة وما لاقته من المرض والتعب وما عقب ذلك من أسرها ومسيرها في الصحراء مهددة بالموت وبالعار، حتى قضى الله بنجاتها فعادت إلى خطر آخر ونجت منه، وكيف بشرت بالكشف عن نسبها ثم شهدت وقعة الجمل ...
وتتابعت عليها الذكريات حتى وصلت إلى ما هي فيه من السجن، فعظم الأمر عليها واشتد الأسف بها حتى أجهشت بالبكاء، فحاولت التجلد لئلا يقال إنها بكت من اليأس أو الخوف، وهي إنما بكت لنكد حظها وسوء طالعها وما يقف في سبيلها من العقبات التي لم تكن تخطر لها ببال. فالتفتت إلى ما حولها فلم تجد أحدا وتطاولت بعنقها إلى باب السجن فرأت السجان في غفلة عنها، فأطلقت لنفسها عنان البكاء وأخذت تناجي نفسها تارة تذكر أمها وطورا حبيبها وآونة عليا وأخرى تندب حظها، واستغرقت في ذلك حتى نسيت نفسها وغاب رشدها كأنها أصيبت بنوبة عصبية، فلم يعد في إمكانها إمساك عواطفها عن البكاء والنحيب.
Bog aan la aqoon