معاوية وعمرو بن العاص
كان معاوية في الشام مناوئا لعلي في خلافته ناقما عليه، وقد حرض أهل الشام على مطالبته بدم عثمان، فجعل قميص عثمان وأصابع نائلة امرأته على المنبر بدمشق ينظرهما الناس. فثار أهل الشام وأنكروا مبايعة علي، وبعث معاوية إلى علي بالطومار كما تقدم وهو عازم على مقاومته ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وحدثته نفسه بأن يطلب الخلافة لنفسه ولكنه ما زال يرى ذلك بعيدا، حتى سمع بنقض طلحة والزبير بيعة علي ومسيرهما في أهل مكة إلى البصرة، فقال: «لأصبرن حتى أرى ما يكون من عاقبة تلك الحرب.» ثم سمع بخروج علي من المدينة ووقعة الجمل ومقتل طلحة والزبير، فعلم أن ليس ثمة من يطالب بالخلافة غيره.
وكان عمرو بن العاص فاتح مصر في أوائل الهجرة ومخرجها من أيدي الروم (سنة 20ه) على عهد الإمام عمر بن الخطاب؛ قد تولاها وأصلح شئونها. فلما أفضت الخلافة إلى عثمان بن عفان، وكان عثمان على ما سلف من إيثاره ذوي قرباه في ولاية الأعمال، عزل ابن العاص عن مصر وعهد في ولايتها إلى أخيه في الرضاع عبد الله بن سعد، فخرج عمرو ناقما على عثمان، وكان من دهاة العرب المعروفين. فلما كانت الفتنة وثار الناس على عثمان وجاء أهل الأمصار إلى المدينة كان هو في جملة الناقمين، ولكنه غادر المدينة قبل الحصار وسار إلى فلسطين وأقام بها ينتظر ما يكون، فلما علم بمقتله قال: «إني قتلته وأنا في وادي السباع.» وجعل يفكر فيمن يلي الخلافة بعده وقال في نفسه: «إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب، وإن يله ابن أبي طالب فهو أكره من يليه إلي.»
فلما بلغته بيعة علي اشتد عليه الأمر ولبث ينتظر ما يصنع الناس، فبلغه مسير أم المؤمنين وطلحة والزبير إلى البصرة فلبث ينتظر ما يكون من أمرهم، فجاءه الخبر بوقعة الجمل وانتصار الإمام علي فارتج عليه ووقع في حيرة. ثم بلغه أن معاوية في الشام لا يبايع عليا وأنه يعظم شأن عثمان، وكان معاوية أحب إليه من علي لأنه داهية مثله، فأخذ ابنيه محمدا وعبد الله وسار إلى دمشق، واتفق مع معاوية على المطالبة بدم عثمان، ونفس عمرو طامحة إلى مصر يحن إليها لأنه فاتحها. وكانت مصر يومئذ على دعوة علي، وعمرو يعلم أن عليا لا يوليه إياها فلم ير خيرا من الانتماء إلى معاوية، فجعل يحرض أهل الشام على طلب دم عثمان ويقول لهم: «أنتم على الحق، اطلبوا دم الخليفة المظلوم.» •••
قضت أسماء أياما في مسيرها من الكوفة إلى دمشق، فلما أشرفت على غوطتها المشهورة بالخصب ونظرت إلى دمشق عن بعد، رأتها في منبسط من الأرض تحف به الحدائق الغناء والبساتين الفيحاء، وفيها أغراس المشمش واللوز والسفرجل والخوخ والليمون والفاكهة على اختلاف أنواعها وفيها الأعشاب والرياحين، وكلها يانعة تجري بينها جداول من الماء القراح. وكانت أسماء ملتفة بالعباءة و«الكوفية» فوق جواد يسابق الريح ومعها الخادم على جواده، فأقبلت على المدينة في الصباح وقد تعطر نسيمها بشذا الأزهار تتخلله نغمات الأطيار، فلم يشغلها ذلك كله عما قام في خاطرها من الشوق للاطلاع على أصلها. فدخلت المدينة من باب الجابية بعد أن ترجلت وأمرت الخادم أن يسير في أثرها بالجوادين، وسارت ملثمة تلتمس كنيسة مار يوحنا من أقرب الطرق وهي تعرف دمشق معرفة جيدة، محاذرة أن يراها أحد من أهلها أو جيرانها فيعرفها فيشغلها عما هي ساعية في طلبه. وخوفا من أن ينتبه الناس لها إذا مشت والخادم والجوادان في أثرها أمرت الخادم أن ينتظر في خان دلته عليه وقالت له: «امكث هناك حتى أعود إليك»، فأطاعها.
وظلت هي سائرة حتى دنت من الكنيسة فتذكرت أن هذه الكنيسة العظيمة، المعروفة باسم القديس ماري يوحنا، قد أخذ المسلمون حين فتحوا الشام نصفها الشرقي وجعلوا فيه مسجدا يصلون فيه، وتركوا النصف الآخر وهو الغربي للنصارى وفصلوا بين القسمين بحاجز. فالتمست الباب المؤدي إلى القسم الغربي وهي بلباس السفر، فاستقبلها خادم الكنيسة واستغرب مجيئها بعد الفراغ من الصلاة فكلمها باللسان الرومي، وكانت قد تعلمته من أمها، فسألها عن غرضها فذكرت أنها تريد القسيس مرقس فدعاها إلى الاستراحة على مقعد من رخام في صحن الكنيسة وسار للسؤال عن القسيس، فلبثت في انتظاره وهي تلهي نفسها بما هناك من فخامة البناء كالأعمدة الضخمة الشاهقة والنقش البديع من الفسيفساء وغيرها، فضلا عن الصور على الجدران والسقف في أشكال غريبة وألوان زاهية. ولم تكن تلك أول مرة دخلت هذه الكنيسة، ولكن غرابة ذلك البناء وفخامته يلفتان النظر ويشغلان الخاطر في كل آن.
فما لبث الخادم أن عاد يدعوها إلى غرفة الاستقبال لتقابل الشماس وتطلب منه ما تريد، فخرجت من الكنيسة إلى دار في وسطها بركة من الرخام يتدفق منها كسائر دور الشام، واتصلت من الدار بقاعة فخمة استقبلها فيها شماس لم تكد تراه حتى تذكرت أنها رأته يوم زارت الكنيسة مع أمها قبل سفرها إلى المدينة، فاستأنست به وسألته عن القسيس مرقس فدعاها إلى الجلوس على بساط من السجاد، وبين يديهما بركة أخرى أصغر من بركة الدار والماء يسيل من جوانبها إلى قناة تحيط بها ويصرف منها، فلما جلست قال لها: «إن القسيس مرقس سافر منذ بضعة أشهر.»
فأجفلت وقالت: «إلى أين؟!» قال: «إلى بيت المقدس.»
قالت: «ومتى يعود؟» قال: «لا أدري متى يعود لأن سفره لم يكن لشأن خاص بالدير، ولكنه خرج فرارا مما أقلق راحته من أصوات البكاء والعويل التي ترن في آذاننا كل يوم في القسم الآخر من هذه الكنيسة.»
قالت: «وما هو هذا العويل وعلى من؟»
Bog aan la aqoon