قال: «لا أدري، ولكن العبد أخبرني أنهم باتوا على الصلح، فأصبحوا فإذا بجيش عائشة على الحرب.» فقالت: «ألم تلق محمدا؟»
قال: «وكيف ألقاه وأنا لم أستطع الدنو من المعركة مخافة أن تصيبني النبال فأموت ولا يبقى من يرجع إليك بالخبر؟» فثارت الحمية في رأس أسماء ولم تر بدا من العدول عن دمشق إلى معسكر أم المؤمنين، لتكلمها في الرجوع إلى الصلح قبل أن يتفاقم الخطب.
فسألت رئيس الدير عن دابة تركبها، فقال: «إن خادمك الأول ترك هنا جملك الذي جئت عليه.»
قالت: «أين هو؟» فأمر الرئيس بإعداده للركوب، وذهبت أسماء إلى حجرتها وجعلت ثيابها على شكل مشابه ثياب الرجال، وشدت وسطها بمنطقة عريضة والتفت بعباءة وغطت رأسها بكوفية، وتقلدت حساما كان قد أعطاها إياه محمد يوم سفرها مع مسعود. وركبت الجمل وولت وجهها نحو معسكر أم المؤمنين، وكان الوقت ضحى وهي للهفتها لم تودع الرئيس، حتى إذا بعدت عن الدير تذكرت ذلك فالتفتت إليه وأشارت بالسلام بيدها ورأسها. ولم تبعد عن الدير قليلا حتى أطلت على المعركة، فرأت السهام تتطاير من كل جانب حتى كادت تحجب أشعة الشمس بدلا من الغبار، لأن الجو كان قد أمطر في ذلك الصباح فتماسك التراب. ووقفت هنيهة ريثما تعرف الطريق الذي يؤدي إلى أم المؤمنين، فرأت الرجال يهرعون يمينا وشمالا وفيهم المشاة والفرسان، وسمعت النساء من وراء الجمع يحرضن الرجال على الثبات، وكان الجو صافيا لا غبار فيه فجعلت تتفرس في الرجال عساها أن ترى محمدا فلم تره، ولكنها أدركت أن النصر للإمام علي لأنها رأت رجاله يتقدمون والآخرين يفرون أمامهم، ويعثر بعضهم بجثث جرحاهم وقتلاهم. فأجالت بصرها لعلها ترى فسطاط عائشة لتسرع إليها وتخاطبها في الكف عن القتال، فلمحت مروان بن الحكم على فرسه يتعقب فارسا آخر علمت أنه طلحة وقد رماه مروان بسهم في رجله فشكها في صفحة الفرس، ثم رأت طلحة حول عنان جواده نحو البصرة وترك الجيشين يقتتلان، فعلمت أنه إنما ذهب إليها لجرح بليغ أصابه، فتأكدت فشل جند مكة. ولكنها عجبت لما فعله مروان بطلحة وهما من جند واحد، على أنها أولت فعله بطمعه في الخلافة لبني أمية وعلمه بأنها إذا خرجت من يد الإمام علي فلن تكون لغير طلحة أو الزبير، فإذا قتل هذان فلا يبقى من يتنافس فيها [مع] بني أمية. •••
وبينما هي تتأمل حركات الجيش وتسمع ضجيج الناس ومقارعة السيوف والرماح وصهيل الخيل، رأت في معسكر أم المؤمنين فسطاطا كبيرا علمت أنه فسطاطها، ولكنها لم تر ازدحاما فارتابت في أمره، ثم لمحت جمعا متكاثفا حول هودج فوق بعير فعلمت من لون الهودج وشكله أنه هودج أم المؤمنين، فساقت جملها إليه ولكنه لم يسعفها. ثم رأت فرسا تائها خارج المعركة فأسرعت إليه وركبته وسارت تلتمس الهودج، ولم تكد تصل إلى وسط المعركة حتى رأت فارسا خارجا منها يطلب عرض البر لا يلتفت وراءه، فعرفت أنه الزبير وتذكرت أنه أقسم ألا يحارب عليا فقالت في نفسها: «قد فر الزعيمان ولا إخال أم المؤمنين إذا علمت ذلك إلا آمرة بالكف عن القتال.» فاخترقت المعركة لا تبالي ما يتساقط عليها من النبال أو يعترض فرسها من جثث القتلى والجرحى، ولم تدن من الهودج حتى سمعت أم المؤمنين تصيح بصوتها الجهوري وتنادي أحد رجالها، وقد مدت يدها من الهودج وفيها المصحف وهي تقول: «إليك يا كعب، ادع الناس إلى هذا المصحف!» فلم يكد الرجل يتناوله حتى أصيب بنبل فقتل. وكانت أسماء قد وصلت إلى الهودج فرأت الرجال حائمين حوله وعائشة تقول: «أيها الناس، العنوا قتلة عثمان وأشياعهم!»
فترجلت أسماء وأقبلت إلى الجمل فرأت الهودج قد أصبح كالقنفذ لكثرة ما غرس فيه من السهام المتساقطة، وأرادت التسلق على الجمل لتلقى عائشة في الهودج فاعترضها بعض الرجال، فأزاحت لثامها ونادت أم المؤمنين فعرفت صوتها فأذنت لها، فقال قائل من الوقوف: «هبي أننا أذنا لك بالصعود على الجمل تسلقا فهل تستطيعين ذلك؟» فتذكرت ما أصابها من تسلق جمل الأمس، فعادت إلى فرسها واتصلت منه بالهودج وأم المؤمنين تعجب لوجودها هناك. أما أسماء فترامت على قدمي أم المؤمنين وهي تقول والدمع ملء عينيها: «أشفقي يا أماه على أولادك! احقني دماءهم! ارحمي أبطالا يوحدون الله! لقد كفى ما أصابهم من البلاء فمري بالكف عن القتال، إن السلام بين شفتيك وأنت أم المؤمنين وزوج رسول رب العالمين. ثم إن طلحة والزبير اللذين أضرما نار الفتنة قد فرا من المعركة، فانهضي وأطلي على الجندين وانظري القتلى من الفريقين!»
وكانت أسماء تتكلم بخشوع وتذلل وهي جاثية عند قدمي عائشة، وكانت عائشة في إبان اضطرابها لا تملك وقتا للنظر في الأمر والناس حول هودجها يتلقون ما يتساقط عليه من السهام، حتى قتل عند خطام الجمل أكثر من أربعين رجلا. فنظرت إلى أسماء وقد أثر فيها كلامها مع ما توسمته من فشل جندها، وقالت: «لقد كنا على موعد للصلح، فلا ندري ما حملهم على نقضه!»
فقالت أسماء: «إنهم يقولون بأنكم الناقضون.»
قالت: «كلا، لقد بتنا مصالحين فأصبحنا وإذا هم يقاتلوننا.»
قالت أسماء: «إن في الأمر دسيسة، فلعل بعض الأعداء سعى فسادا فأوقع الشقاق بينكم، وعلى كل حال إن الصلح قريب وتكفي كلمة منك لحقن الدماء.»
Bog aan la aqoon