«قباء» قرية على بعد ميلين من المدينة المنورة «يثرب»، اشتهرت بعد الهجرة بنزول صاحب الشريعة الإسلامية بها في أثناء هجرته إلى المدينة وبنائه فيها مسجدا هو أول مسجد في الإسلام.
وكانت قباء قد اشتهر أمرها وعرفت بمكانة مسجدها في خلافة عثمان بن عفان ثالث الخلفاء الراشدين وبعد اتخاذ المدينة عاصمة، وقد عني الخلفاء بتحسين ذلك المسجد وبخاصة الخليفة عثمان، إذ وسعه وزاد فيه وخصص نفرا لخدمته. على أن ذلك لم يزد كثيرا في سكان قباء نفسها.
وكان لذلك المسجد في أواخر خلافة عثمان خادم طاعن في السن اسمه «عامر» شهد بناء المسجد، ورأى صاحب الشريعة يوم نزل هناك وأمر ببنائه، فأقام عامر بقباء هو وعياله، يقضي نهاره في خدمة المسجد وتنظيفه، فإذا فرغ من ذلك خرج بأولاده يرعى إبل أحد أغنياء المدينة في بعض الأودية الكثيرة في تلك المنطقة.
ففي مساء يوم من أيام سنة 35 من الهجرة خرج الشيخ لرعاية الإبل فأوغل في بعض الأودية حتى اقترب الغروب، فأسرع بالرجوع راكبا ناقته وقد أرخى لها الخطام، وأخرج مسلة مغروسة في شعر رأسه المتلبد ووخز بها الناقة بين جنبيها استحثاثا لها على المسير فطارت به. وكان أولاده يتبعونه على بقية النوق، وقد ركب أصغرهم ناقة عارية، ووضع آخر أمامه على ناقته أخشابا جمعها من غصون الشجر المتساقطة ليوقدوا نارهم بها، وكانت النوق كلها مطلقة الزمام. والشيخ أعجل الجميع خشية أن تغيب الشمس ويحين وقت صلاة المغرب قبل وصوله، ورأى الشمس كأنها تسرع في الغروب فخيل إليه أنها تسابقه فجعل يستحث ناقته، غير عابئ بجمال الصحراء في تلك الساعة، إذ امتدت الظلال حتى اختلط بعضها ببعض فلم يفرق بين ظلال النخيل وظلال غيرها من الشجر وبين ظلال الآدميين. وكذلك غفل الشيخ لعجلته ولهفته عن الشذا المنبعث من نبات الصحراء، ولم يستوقف سمعه شدو الطيور ولا نقيق الضفادع. على أنه لم يكد يشرف على قباء حتى سمع رغاء الجمال وصهيل الخيل، ولما قارب المسجد رأى هناك ركبا معهم الجمال والأحمال فلم يستغرب ذلك إذ تعود أن يرى كثيرا من أمثاله كل عام، لأن القوافل كانت تمر بقباء في طريقها إلى المدينة فتقف للراحة والاستقاء، فازداد رغبة في العجلة ليقوم بخدمة القادمين، والتفت خلفه ونادى أحد أولاده وقال له: «أسرع إلى البيت وعد إلي بجرة الماء لعل في الركب من يحتاجون إليه.» •••
وظل الشيخ مسرعا، وكلما اقترب من المسجد وتوقع أن يتبين الوجوه حجبها عنه تكاثف الشفق، حتى وصل فإذا الركب بضعة رجال وفتاة ومعهم خيل وجمال، وقد تجمعوا بحنو ولهفة حول هودج عليه الأستار وفيه مريض يحاولون إخراجه إلى مقعد في خيمة نصبوها بالقرب منه. وما إن استخبرهم حتى علم أنهم قادمون من الشام إلى المدينة، فعجب لمرورهم بقباء وهي ليست في طريقهم إليها. ونظر إلى كبيرهم فإذا هو كهل عليه لباس عرب الشام من القباء والرداء والعمامة، وبجانبه شاب حسن البزة عليه عباءة من الصوف وسيفه مرصع، ووراءه خادم يحمل له الرمح والنبال، وعلى مقربة منهما فتاة غضة الشباب مشرقة ممتلئة صحة ونشاطا على رأسها عقال، وزاد في إشراق وجهها ما اكتسبه من التورد على أثر التعب وركوب الجواد أياما في الصحراء. فلما رآها الشيخ استرعى انتباهه ما آنسه فيها من شدة الاهتمام بأمر المريض، ورآها ترشدهم كيف يحملونه وينقلونه ويعتنون به. فترجل الشيخ عن ناقته وصاح: «أهلا بوجوه العرب»، ثم تقدم لمساعدتهم وتفرس في المريض فإذا هو امرأة في حدود الأربعين قد بلغت منتهى الضعف حتى يحسبها الناظر إليها ميتة. وأشارت إليه الفتاة ألا يدنو من المريضة لأنهم يريدون حملها بأنفسهم، فتنحى وأمر أولاده أن يساعدوا الخدم في نصب الخيام وإنزال الأحمال وسقي الجمال والخيل وغير ذلك، وسار هو إلى المسجد للأذان والصلاة.
واستمر الرجال في نقل المريضة، وكانت الفتاة واسمها «أسماء» لا تني في إعداد كل وسائل الراحة لها، ولا عجب فالمريضة أمها وقد شبت على حبها. أما الكهل فزوج المريضة واسمه «يزيد»، وكان قليل العناية بأمرها إلا بما توحيه إليه الفتاة. وأما الشاب فاسمه «مروان»، وكان الزهو ظاهرا في وجهه لقرابته من الخليفة عثمان بن عفان.
ولما حملوا المريضة إلى فراشها، جلست أسماء بجانبها وأخذت تمسح العرق المتصبب من وجهها وهي غائبة عن الصواب، وكانت الدموع تملأ عيني الفتاة ولكنها كانت تتجلد لئلا يغلبها البكاء فتسمعه أمها فيزداد تألمها، وكانت تمسح دموعها خلسة ونظرها لا يتحول عن وجه المريضة لحظة.
ولما أرخى الليل سدوله جاءهم عامر بمصباح أدخلوه الخيمة، والفتاة لا تفتأ تنظر إلى أمها لعلها تفتح عينيها أو تحرك شفتيها أو تلتمس أمرا فتقدمه لها، غير عابئة بالكهل زوج أمها ولا بذلك الشاب الذي قطع البراري والقفار في خدمتها عساه أن ينال حظوة في عينيها. وكان الشاب قد طلب الاقتران بها منذ كانوا في الشام، فلم ترض به هي ولا أمها وإن رضي به يزيد رغبة في الدنيا وطمعا في منصب يناله، ولم يكن يعطف على الفتاة لأنها ليست ابنته ولا يعرف لها أبا، إذ كانت أمها حين تزوجها سبية من سبايا مصر يوم فتحها عمرو بن العاص سنة 18 للهجرة، وكانت هي في الثانية من عمرها حينذاك، وبعد فتح الإسكندرية عاد بهما إلى الشام فأقام فيها مع ذوي قرباه من بني أمية.
وكان يزيد كهلا أشيب الشعر، قصير القامة، خفيف العضل، متجعد الوجه، غائر العينين، يحب المال حبا جما، وكان إلى ذلك سيئ الخلق. واعتقد أهل الشام أن أسماء ابنته، وإن عجبوا لاختلافهما خلقا وخلقا، فقد كانت على جانب عظيم من المهابة والجمال، جمعت بين لطف النساء وحزم الرجال وشجاعتهم، وكان الناظر إليها لا يسعه إلا أن يحترمها، فإذا خاطبها آنس منها رقة وأنفة ودعة وأريحية. وكانت ربعة ممتلئة، حنطية اللون، سوداء العينين حادتهما، طويلة الأهداب، مقرونة الحاجبين، دقيقة الفم، سهلة الجبين، تغضي العيون مهابة التفرس في وجهها. اشتهرت بين أهل الشام بكل خلق حسن، وأحبها مروان وجعل يتقرب منها وهو يحسب تقربه منة وكرما، وأنها لا تلبث أن تطير فرحا لأنها من عامة الناس وهو ابن عم الخليفة عثمان. وكان الخليفة يؤثر ذوي قرباه من بني أمية ويقدمهم في مناصب الدولة ويفتح لهم أبواب الرزق، الأمر الذي أدى إلى قيام المسلمين عليه حتى تحدثوا في عزله وكانت الفتنة المشهورة. وظل مروان يتردد على منزل يزيد وكلاهما من بني أمية، فيحتفل يزيد به ويود لو يتزوج أسماء فيحظى من الخليفة بمنصب، فلما خاطبه مروان في ذلك أكد له أنه نائل الفتاة لا محالة، اعتمادا على أن القول قوله في أمر زواجها.
ولكنه ما إن خاطب امرأته في الأمر حتى رأى منها إعراضا وإباء، وكلما ألح بشدة عليها راحت تماطله. وأدركت الفتاة ما بينهما من أجلها فاشتد نفورها من مروان، لأنها لم تكن تعتد بزخارف الدنيا ولكنها كانت تهوى الشهامة وكرم الأخلاق، فلم يقع مروان من نفسها موقع القبول. ولما ازداد إلحاح يزيد خشيت الأم أن يستعمل العنف في تنفيذ مأربه واستولى عليها القلق حتى نزل بها الداء ووهنت قواها فخافت الموت، وطلبت أن تحمل إلى المدينة على أن تجيب طلب مروان هناك.
Bog aan la aqoon