ليلة القران
هي عيد الدهر، بل ليلة القدر، لا بل هي العمر، لمحبين كثر ما أساء إليهما الأيام، وعاشقين روعهما البين، وضربتهما النوى بحسام، فلا عجب إذا ولدت الطرب، وأنالت طيبة الأنس متين السبب، بأفراح فتاها الأبر ومجدها المنتظر ، وعلائها المدخر، الأمير «آشيم».
فإنه لم يكن صبح اليوم التالي حتى أظهرت عاصمة النيل، عزها الباهر الأثيل، بما لبست من حلل الزينة، وتردت من ثياب البهاء الثمينة، وأضفت على مناكبها من مطارف الجلال والجمال. مما لا تحلم بمثله مدينة، فلا تسل عن تلك المشيدات الفخام، كيف تجلت وتحلت بالأزاهير والأعلام، ولا عن عقد هاتيك الشوارع الجلائل الفخام، كيف تولاه الذوق السليم فانجلى باهر السلك، باهر الزينة باهر النظام، ولا عن ذلك الشعب العامل الحي، كيف نهض وقام واستقبل أسعد المواسم، في أكبر العواصم، بصنوف الحفاوة والتجلة والإكرام. وبالجملة كانت طيبة معابدها وهياكلها، وحصونها ومعاقلها، وقصورها ومنازلها، وسماؤها وأرضها، وطولها وعرضها، منظرا واحدا فردا بديعا هو جلال الزمان، بل جمال الأيام.
فلما كان العصر خلص ميدان «رمسيس» من الزحام، وأخلي من الأقدام، فخرج إليه الملك وولي العهد، وخطيبة العلاء والمجد، يحيط بهم سائر الأمراء، ويتبعهم الوزراء والكبراء، حتى بلغوا سرة فضائه الوسيع، فوقفوا يحفهم الوقار الأكمل، وهنالك استهلت الأبواق متجاوبة، وارتجلت المزامير متناوبة، وتعالى تهليل الجموع، وتواصل هتافهم أن ليحي الملك، ليحي الأمير، لتحي الأميرة، ثم سرى السكوت وساد السكون، وقام على الفور كاتم أسرار الملك فألقى على الجماهير، هذا الخطاب الرسمي، وهو:
أيها الشعب الموقر
بأمر جلالة الملك أتلو عليكم قرار مجلس الحكومة الأعلى بشأن خطبة الأميرة عذراء الهند لسعادة ولي عهد المملكة المصرية. وهذا هو بنصه:
أبلغ إلى مجلس الحكومة الأعلى ما توجهت إليه رغبة جلالة الملك من تزويج سعادة الأمير «آشيم» ولي عهد المملكة المصرية بالأميرة عذراء الهند كريمة الملك «دهنش» ملك الهند الشرقية، ودعي المجلس المشار إليه للنظر في أمر هذا الزواج، من حيث كونه موافقا لتقاليد المملكة ونظاماتها، أولا فقرر المجلس بعد الاطلاع على القوانين الأساسية لمملكة الرمسيسية، أن اقتران سعادة ولي العهد بالأميرة المشار إليها جائز لا تحرمه القوانين، ولكنها تشترط معه أمورا ثلاثة؛ أولها: قبول الملك والد العروس به، ثانيا: أن تذكر الأميرة في عقد الزواج باسم مصري، ثالثا: أن تتعهد الأميرة في عقد الزواج أنها إذا آل الملك إلى بعلها الموقر تطرح ديانة الآباء والأجداد، وتعانق ديانة البلاد.
هذا أيها الرعية المخلصة ما قرره مجلس الحكومة الأعلى بنصه، وإنني بأمر جلالة الملك كذلك، أعلن خاصكم والعام أن الشروط الثلاثة الواردة في قرار المجلس، قد توفرت، وأن جلالة الملك يسره كثيرا أن يبشركم أيها الرعية المخلصة بحصول القران المشار إليه، في هذه الليلة السعيدة، وأن يدعوكم فردا فردا إلى مشاطرته الفرح بهذا القران الميمون، المحفوف ببركات «آمون».
وما انتهى الخطيب حتى استرسلت الأمة في التصفيق، متوجة عمل الملك ذاك بالتصديق، والتفت جلالته بعد ذلك فانثنى في نفر من خواصه عائدين إلى القصر. أما العروسان فتحرك بهما الموكب السامي ليجولا في المدينة جولتهما الأولى، فاجتاز بهما شارع سيتي، فشارع آتيس (اسم لأشهر وقائع الملك)، فميدان فتاح، فشارع الصناعة، حتى بلغ المعبد الأكبر، وهناك استقبل العروسان بما يليق لمقامهما السامي من مظاهر الإجلال والإكبار، ودخلا فصليا الصلاة الرسمية، ولم تمتنع عذراء الهند في هذه المرة مبالغة منها في مجاملة الأمة، والتماسا لرضى المتمسكين في استرضاء رجال الدين، ثم رسم لعودة الموكب طريق آخر، فمضى يخترق شارع المعبد فشارع الدواوين، فميدان «آمون»، فباب الأربعين نصرة (انتصارات رمسيس)، فشارع الخيانة (لأن فيه هم «أراميس» أخو الملك أن يفتك بأخيه)، فميدان «رمسيس»، فشارع «رمسيس»، حتى دخل القصر بسلام.
وكان الوقت الغروب وهو الموعد المضروب لحضور ألوف المدعوين لتناول طعام الفرح على الموائد الرمسيسية، فأخذت المركبات تتطارد، والخيل تتوارد، والجماهير تتوافد، بين تحايا الطبول والأبواق، وتسليمات المزامير الذاهبة في الآفاق، وكان عند كل سلم من سلالم القصر، وعلى كل باب من أبوابه الكثر، حجاب من الوجهاء الغر؛ لاستقبال الضيفان وإزلافهم إلى رب المهرجان، حتى إذا انتظمت الحفلة، ولم يبق من لم يحضر من أصحاب الليلة، نودي في الأقوام أن اتبعوا الملك إلى قاعات الطعام، فابتدر الملأ دخول هاته القاعات، وكانت سبعا عريضات طويلات، في كل واحدة منها سبعة خوانات، على كل خوان سبعة من ذوي المقامات، فجلس الكل يتناولون أثمن الطعام وأفخره، ويذوقون أعز الشراب وأندره، والملك يذيقهم فوق مذاق الكاس، من لذيذ البشر والإيناس، حتى إذا نفد حول البطون، قبل أن ينفد ما في الصحون، خف الملك إلى قاعة الاستقبال الكبرى، فابتدرت الزمر دخولها خلفه، وهنالك كان للناس دهشا؛ إذ رأوا عرش الجلوس في صدر القاعة محمولا على رفرف ذي درج، وهو كأنه الفرقد، في هالة من الأنوار تتوقد، وإذ كان من شأن هذا العرش أن لا يظهر للكون إلا يوم يموت فرعون، ويقوم فرعون، فقد حق للناس أن يتساءلوا في حفلة عروس هم أم تلقاء يوم جلوس.
Bog aan la aqoon