وفي الواقع لم يكن الفجر حتى ظهر الوحش آيبا من مبيته، وكأنما يقصد إلى البحر، فابتدر الرجلان لقاءه، فنالا ظهره في وثبة، فاستمر يجري بهما في رمال حالية بلألاء الفجر وضاءة الخلال منحدرا في جريه نحو الشمال، حتى إذا كان الصبح فالضحى فالظهر، لم يشعر إلا بموج المحيط يتعالى من بعد كالجبال، فترجل عندئذ الشيخ، ونزل «هاموس» على أثره. وهنالك افترقا فأخذ أحدهما بين الساحل وذهب الآخر يسرة، وكلاهما غاد يجد في طلب المركب والصيادين، ولكنهما ما اندفعا يسيران حتى أبصرا معا شبحا يتقدم تحت سماء البحر، فوقفا كلاهما يجهدان النظر، حتى إذا حققا أنها ذات شراع تنشطت الماء ووافت تحتال على الإرساء، انثنيا عائدين أحدهما للآخر، فأقاما ينتظران ما يكون من أمرها إلى أن نالت الشاطئ، فنزل منها رجل أسمر اللون أجرودي، ضيق العينين بحياة فيهما، عظيم الرأس قصير القامة، عبل الساعد، ممتلئ الأكتاف، وعليه ثوب من الكتان يبتدئ من مرفقيه وينتهي إلى ركبتيه.
فلما رآه الشيخ يتقدم تبسم ضاحكا، ثم قال ل «هاموس»: هذا صاحبنا بلباص يسعى إلينا، فدعنا نلقاه بشيء من المزح، وكان الرجل قد دنا فخاطبه الشيخ قائلا: ما هذا الإبطاء يا بلباص؟ قال: لم أبطئ، ولكن تعجل حضوركما يا مولاي. قال: وكيف حالك وما يصنع رجالك؟ قال: لا أكاتمك الحقيقة يا مولاي، لقد لقيت من سفري نصبا، وأقسم لولا أنني أخافك حتى في أعماق هذا البحر، لفضلت الهلاك بتياره، والثواء بقراره، على البقاء ساعة واحدة في هذا الفلك، وبين هؤلاء الهنود. قال: وما صنعوا بك مما أغضبك إلى هذا الحد؟ قال: بل أنا أشكو من قذارتهم لا غير يا مولاي، فإنهم كالسمك المنتن البائت الذي يصبح فوق ما يمسي، فراح الشيخ مغربا في الضحك. ثم قال: أنزل أولئك المقاذر إلى البر، فإني مداويهم لك يا بلباص. قال: سمعا وطاعة يا مولاي. ثم نفخ في بوقه فأقبل أربعة من المصريين أعوانه الخصوصيين، واثنا عشر آخرون من هنود الشمال لهم جسوم الأطفال، وعليهم ثياب واسعة بأكمام طوال، وهم يثبون كالعفاريت ويضطربون كالظلال، فمشى الشيخ حينئذ نحو الماء والجميع يتبعونه، ثم تجرد عن ثيابه ونزل فنزل «هاموس» وبلباص والهنود على أثره لبثوا برهة يغتسلون، ثم خرجوا من الماء فتردوا ثيابهم.
وسار الشيخ بعد ذلك بهم إلى السفينة، فاندفع يأخذ من الماء ويغسل، وأيدي القوم إلى يده بالمساعدة، حتى نظفت تمام النظافة، فالتفت الشيخ عندئذ إلى بلباص قائلا: ها قد أرحتك من تلك الروائح يا بلباص، فهل أنت مجازيني بشيء تطبخه لنا يلذ طعمه ويسهل هضمه؟ فإن عهدي بالطيبات من طبخ يدك عهد طويل. قال: قريبا وسهلا يا مولاي. ثم أسرع إلى مخزن السفينة، فأخرج منه سلة سمك من صيده، فشوى منه شيئا، وسلق شيئا، وأخرج كذلك شيئا من النبيذ، ثم قدم ذلك كله للشيخ، فدعا هذا أصحابه وجلس الجميع يتعشون حتى إذا فرغوا من أكلهم وشربهم وتوسدوا الرمال، فباتوا ليلتهم تلك ناعمي البال، وقد ضربوا الفجر موعدا للإقلاع على كل حال.
الفصل الخامس
فيما كان من أمر الأسطول
تركنا الأسطول وقد ألقى المراسي ينتظر النهار على الجزيرة الأولى من أرخبيل الجزر الأبكار، والآن نذكر ما كان من أمره فنقول: كان قد مضى من الليل نحو ثلثه فأخذ النوم يطمئن بمقاعده من الأجفان، ولم يبق من ناس الأسطول من لم ينم إلا جماعة الأدلاء. وكانوا في السحر على ظهر السفينة؛ سفينة الذخائر، وكانت في معزل، فاتفق أن أحدهم ارتجل نظرة في الأفق، فلاح له ضوء نار يخفق من بعد على فضاء الجزيرة، فاستلفت أنظار أصحابه إلى ذلك، فلم يهزهم الأمر بادئ بدء، بل استمروا في مجلسهم يتسامرون إلا أن كبيرهم ما لبث أن استحوذ عليه القلق، فخاطبهم قائلا: ماذا علينا يا قوم إن نحن مشينا إلى هذا الضوء لنكشف ما وراءه؟ فإن كان خيرا كانت رياضة لا بأس بها، وإن كان شرا نبهنا إخواننا رجال الأسطول لموضعه فنكون قد أدينا واجبا من ألزم واجبات الجند بعضهم نحو بعض. قالوا: حسنا، ثم بدروا إلى البر من لوح مدوه للنزول عليه، وكانوا أربعة، فمشوا قاصدين وجهة الضوء، حتى إذا صاروا على قريب مسافة منه، سمعوا غناء ورأوا على المكان ناسا في لهو وطرب وشرب راح، فأكثروا التعجب لذلك، واستأخروا يتهامسون. فقال أحدهم: لا أرى هؤلاء إلا صيادين أضلهم البحر. فقال آخر: نعم، من متوحشة الصيادين الشماليين، فهذا الزي زيهم وأنا أعرفه. قال الثالث: ولكنهم سكارى لا يؤذون. فقال الرابع: إذن فلنتقدم إليهم لننظر، فتقدم البحارة الأربعة حتى شارفوا حلقة القوم فحيوهم، فردوا التحية هادئين مطمئنين لا نافرين ولا وجلين.
فسألهم أحد البحارة: من القوم؟ ومن أين؟ وإلى أين؟ قالوا: صيادون أضلنا الليل، فاتخذنا هذا الساحل مبيتا، وسنقلع والصبح قاصدين الشمال. قال: إذن فواصلوا أنسكم، وتمتعوا مما أنتم فيه من اللذات. قالوا: وهل لك وإخوانك في مشاطرتنا صفو ما نحن فيه؟ فالتفت البحار إلى أصحابه، فآنس من لحظاتهم الموافقة، فلبى الدعوة عن نفسه وعنهم، ففسح لهم الصيادون من مجلسهم فجلسوا، وجعلت بين أيديهم قدور ملأى من النبيذ المصري، وكان في بلادهم يسوى وزنه ذهبا، فلا يقتنيه إلا الملوك والأمراء، ولا يسرف في شربه إلا الخليعون من كبار الأغنياء، فلا تسل عن فرح البحارة بما أوتوا، ومهد عذرهم إذا هم باعوا الوظيفة والأسطول ومن فيه بلذيذ ما في القدور.
وطفق الصيادون يجزلون للإدلاء من بنت العنب، وما يقتضيه مجلسها من اللهو والطرب، حتى ارتفع الحجاب من نفسه وزالت الكلفة، وذهب الوقار وغلبت الخمر البحارة على شعورهم، فباحوا للصيادين بسر المأمورية بعد أن حدثوهم حديث عذراء الهند من أوله إلى آخره، وعرفوهم بوظيفتهم في الأسطول، وأنهم أدلاؤه الذين بهم في البحر اهتداؤه، وأن بأيديهم وحدهم مفاتيح الأرخبيل، وعندهم دون سواهم أسرار مداخله التي فيها من الصخر الغائص في البحر الغائب، تحت صفحات الماء ما يجعل جزيرة العذارى أبعد منالا من الشمس في كبد السماء.
فلما أخذ الصيادون السر جميعه انفصل اثنان منهم فابتعدا قليلا يتماران. فقال أحدهما للآخر: ما بال الرئيس أبطأ في العود؟ فإن له يوما وليلة متغيب يكشف المواقع وينظر له طريقة نحو الجزيرة. قال: وما عسى أن يكشف أو ينظر، وقد سمعت ما قال الأدلاء؟ وهو لو حضر الآن لتركنا الأسطول في نومة تكون طويلة، ثم سرنا مهتدين بهؤلاء البحارة، فلا يمضي يومان إلا ونكون في الجزيرة. قال: نعم، حضوره الليلة ضروري لنجاح المشروع؛ لأن قدوم هذا الأسطول لم يكن منتظرا، ويخشى أن يسبقنا إلى الجزيرة، فيفسد علينا أمرنا وتذهب كل هاتيك المشاق أدراج الرياح.
وبينما الرجلان في الكلام أبصرا شبحا يتقدم تحت سماء الليل، ثم سمعا حركة فلك تمخر، فقالا: هذا لا شك الرئيس. فلنبادر إليه بالبشرى، ثم توجها اتجاه الفلك من الساحل. وكان أصحابها قد لحظوهما من بعد. فما هي إلا هنيهة حتى جمع البر الجميع، وكان أول من نزل إليه الرئيس، فأقبل على الرجلين حنقا هائجا. يقول: ما خطب هذه السفن يا بلباص؟ وهل خطر ببالك أن تكشف حالها؟ أم أنت لا تدري من الأمر سوى الغناء وشرب الخمر ولا تأتي من العمل غير النوم الطويل والكسل؟ فأجابه: عفوا يا مولاي، فإننا ما خففنا إليك إلا لنكلمك في هذا، ولنبشرك بقرب الحصول على المأمول. قال: وما ذاك؟ فأخذ يقص عليه الخبر، وما كان من أمر الأدلاء ومجيئهم من تلقاء أنفسهم، وشربهم معهم وإذاعتهم بعد ذلك سر المأمورية القادم من أجلها الأسطول.
Bog aan la aqoon