ثم نهض وألقى السلام على خميس، وهم بالانصراف. استوقفه خميس قائلا: ألم يحن الوقت بعد كي تتزوج يا شيخ سليم؟ - الحمد لله على ما أعطى. - لكنني أشتاق «للطبيخ» يا مولانا.
بعد أن فرغ الشيخ سليم من تناول طعام عشائه، نهض فأعد لنفسه كوبا من الشاي، ومد يده لخزانة كتبه العامرة فأخذ كتابا، ثم جلس حيث مكانه المفضل على أريكة وضعت تحت نافذة الحجرة، واستغرق في القراءة. بعد مدة أحس بثقل جفنيه وأخذ رأسه يتساقط من حين لآخر، فنهض كي يتوضأ عله يستعيد نشاطه، وحانت منه التفاتة نحو النافذة، فاتسعت عيناه وتسمر في مكانه. على البعد أبصر ألسنة من اللهب تتصاعد من إحدى القرى القريبة، استنتج أن نيرانا تبدو من مسافة بعيدة بهذا الحجم لا بد وأن تكون صادرة عن حريق هائل. دعا الشيخ ربه أن يلطف في قضائه، وتوكل على الله فارتدى حذاءه وخرج مسرعا إلى الشارع. تلفت يمينا ويسارا، كان الليل قد انتصف وخلت الشوارع تماما من المارة. فكر الشيخ أن يستخدم مكبر الصوت في المسجد لدعوة الناس لنجدة جيرانهم، لكن الأمر على هذا النحو سوف يستغرق وقتا طويلا. توقف للحظات ثم نادى بأعلى صوته يستغيث بأسماء شباب عهد فيهم الصلاح والمروءة، ففتح الناس نوافذهم يستطلعون ما يحدث، وهرع غالبية من ناداهم من الشبان وأحاطوا به يتساءلون. وبعد أن تجمع عدد كاف من المتطوعين، قادهم الشيخ نحو القرية المشتعلة.
عندما شارفوا مدخل القرية شاهدوا صفا من الشباب يشهرون أسلحتهم البيضاء، ويقطعون الطريق على الداخل والخارج منها. واصل المتطوعون سيرهم فهم لا يحملون إلا النوايا الحسنة، تقدم اثنان من الشباب فاستوقفوهم، وخاطبا الشيخ سليم يستفسران عن مقصده، ولم يكد يفتح الشيخ فمه حتى صاح شخص من بعيد يحذرهما بأن عربات الشرطة في الطريق، فانفرط الصف وتفرق جميع الشباب هاربين.
عمت الكارثة ناحية واحدة من القرية وكأن زلزالا ضربها، أو ثار على أطرافها بركان لم يخمد بعد: التهمت النيران العديد من المنازل وما زالت مشتعلة في منازل أخرى، نساء يلطمن الخدود ويصرخن، وشيوخ يتضرعون إلى الله أن ينجيهم من الشر، ورجال يحملون جرحاهم، وآخرون يهرولون حاملين ما تبقى لهم من أمتعة، وأطفال يهيمون على وجوههم باكين، وضجيج تختلط مصادره، ودخان كثيف ينشر السواد في المكان.
انشغل الشيخ سليم ومرافقيه بإطفاء النار غافلين عن بقية المشهد، حتى بدأت قواهم تخور، وعندما تنحى البعض منهم جانبا حتى يستردوا أنفاسهم شاهدوا عجبا؛ حشد كبير من الناس يقفون على مسافة من المكان مكتفين بمشاهدة ما يدور، والأغرب أن منهم من يهللون ويكبرون ويستبشرون بنصر من الله قريب. الآن فقط أدرك الشيخ سليم ومن اتبعه أنهم مع عدد محدود فقط من أهل القرية المنكوبة كانوا يحاولون إخماد الحريق، وأن الغالبية كانت تحتفي بالخراب. فتعالت صيحات الاستهجان من فريق الشيخ، وجاء الرد وابلا من السباب واللعنات والطوب من الفريق المقابل. سار الشيخ سليم بمفرده متوجها نحو الطرف الآخر، تقدم أحدهم ورفع يده إلى أعلى فتوقف القصف، وبلهجة الواعظ الآمر قال: لولا حسن نواياكم وجهلكم بحقيقة ما يحدث، ما تركناكم تعودون إلى دياركم سالمين. لا تنصروا كافرا مسيحيا على مسلم. هل بلغت؟ «لن يثمر الحوار معهم إلا تعميقا للخلاف.» هكذا حسم الشيخ سليم أمره، وآثر الانسحاب مع أهل قريته خشية فتنة أخرى قد تقع هذه المرة بين أبناء الدين الواحد. وهكذا ترك الطرفان النار تأتي على ما تبقى.
عاد الشيخ سليم إلى منزله مكدودا، وخشي أن يستسلم للنوم فتفوته صلاة الفجر، نهض فاغتسل وتوضأ وأبدل ثيابه وأخذ مجلسه المفضل على الأريكة متأهبا للذهاب إلى المسجد، وما هي إلا لحظات حتى غفا. انتفض الشيخ على صوت طرقة خافتة على الباب، ظن أنه تخلف عن الصلاة، نظر سريعا إلى ساعة الحائط، فاطمأن قلبه وعاد إلى جلسته. كان في شك في أن أحدا بالفعل قد طرق بابه، وجاءت الطرقة الثانية لتؤكد أنه لم يكن يتوهم وأن عليه أن ينهض فيفتح الباب، ففعل. اندفع أحد الأشخاص ودخل المنزل كمن يقتحمه، استهجن الشيخ هذا السلوك: لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا ...
قاطعه الشاب: عذرا يا عم الشيخ فالرعب أخرجني عن صوابي.
تأمله الشيخ سريعا، كان شابا في حوالي الثلاثين من عمره، عاري القدمين، تلطخ جسمه وملابسه بالطين والوحل، زائغ العينين، تتملكه الرعشة بين لحظة وأخرى.
أردف الشاب: ليس لي ملجأ في الدنيا سواك يا شيخ سليم، فأنت الوحيد الذي آتمنه على حياتي. لقد سمعت عنك الكثير ...
لم ينتظره الشيخ حتى يكمل، وناوله بعضا من ملابسه وطلب منه أن يذهب ليغتسل ثم يتناول بعض الطعام، وبعدها سوف يستمع إليه.
Bog aan la aqoon