Cadd Tanazuli
عد تنازلي: تاريخ رحلات الفضاء
Noocyada
يحكي الروس قصة مهندس معماري صمم بناية سكنية من عشرة طوابق دون مصاعد؛ وكعقاب له، حكم عليه بالسكن في الطابق العلوي. بالمثل، اختير فيوكتيستوف للانضمام إلى الطاقم المؤلف من ثلاثة أشخاص؛ لا شك أن ذلك كان شرفا عظيما، وليس عقابا. مع ذلك، أبدى فيوكتيستوف تركيزا رائعا خلال الرحلة كما لو كان يعلم بقرار إعدامه شنقا خلال أسبوعين، وهو ما جعله ينفذ المهمة بنجاح. انطلقت المركبة في أكتوبر 1964، ومع أنها لم تمكث في الفضاء سوى يوم واحد فقط، أقنعت العالم بأن روسيا تمتلك بالفعل مركبة فضائية مجهزة لحمل ثلاثة أشخاص. بدا النظام الرأسمالي مجددا مكتوف اليدين إزاء المجتمع السوفييتي.
ثم جاء عام 1965، عندما صارت المركبة «جيميني» جاهزة للقيام بسلسلة كبرى من الرحلات المأهولة. صارت رحلات السير في الفضاء - أو «أنشطة خارج المركبة الفضائية» بحسب تعبير ناسا - تحتل مركزا مهما في صدارة جدول الأعمال، باعتبارها خطوة أساسية نحو زيادة قدرات رواد الفضاء. على أية حال، كان على رائد الفضاء أن يغادر مركبته الفضائية بعد الهبوط على سطح القمر، محتميا بزيه الفضائي، للسير على سطح القمر. أصبحت عمليات السير في الفضاء ضرورية أيضا لإنقاذ رائد فضاء عالق، أو لإصلاح مركبة فضائية متضررة، أو لتركيب معدات جديدة داخل مركبة موجودة، أو لإجراء عملية بناء واسعة النطاق في المدار الفضائي. وكان مشهد شخص يسبح بمفرده دون خوف في الفضاء اللامتناهي، بينما يظهر كوكب الأرض في الخلفية؛ يمثل مصدرا للإمتاع البصري لا يمكن إنكاره.
كان كوروليف أيضا يحب السير في الفضاء، وشرع في التفوق على الأمريكيين بإطلاق «فوسخود 2». كان رائد الفضاء الروسي أليكسي ليونوف أول من سار في الفضاء، بينما ظل صديقه بافل بلياييف في الداخل. خرج ليونوف في غرفة معادلة ضغط، فتش عن كاميرا، ثم حاول العودة إلى الداخل، لكنه لم يستطع؛ إذ كان الضغط في بزته الفضائية أعلى كثيرا مما ينبغي؛ مما جعلها صلبة مثل بالون منتفخ، وهو ما حال دون انحنائه من منطقة الخصر للمرور بقدميه عبر فتحة الخروج.
كان ليونوف يعلم جيدا باحتمال موته، واقترب كثيرا من الإصابة بحالة من الذعر مع ارتفاع معدل نبضه وتنفسه بحدة؛ ثم أخذ يدرس الموقف من حوله، فأدار صماما وقلل ضغط الهواء في بذلته. نجح الأمر؛ إذ استطاع الانحناء قليلا وتثبيت قدميه على عتبة باب الخروج، وهو ما منحه قدرة على السيطرة، وسرعان ما صار في الداخل سالما. لكن، حسبما أشار المحلل جيمس أوبرج قائلا: «كان غارقا في عرقه، وكان يشعر بلسع في عينيه من جراء الملح في عرقه، وكان يلهث بشدة حتى تضبب قناعه.»
سرعان ما حل موعد إعادة الولوج إلى المجال الجوي. تعطل جهاز الطيار الآلي واضطر رائدا الفضاء إلى العودة باستخدام أجهزة التحكم اليدوي. انتظر بلياييف حتى حلق في مدار آخر، ثم أطلق صاروخا ارتكاسيا كابحا، آملا في الهبوط وسط منطقة الإستبس المنبسطة في كازاخستان. لكن، بدلا من ذلك، انتهى بهما المطاف وسط الثلوج الكثيفة في سلسلة جبال الأورال، وسط غابة من أشجار الباتولا الكثيفة والجبلية، على مسافة أكثر من ألف ميل من طواقم الاسترجاع.
لم يكن لديهما ما يحميهما من البرد سوى بزتيهما الفضائيتين، ولم يكن لديهما ما يأويان إليه سوى كبسولة «فوسخود» الباردة. سرعان ما اكتشفا أنهما في حاجة إليها؛ لأنهما عندما أشعلا نارا يستدفئون بها، جذب ذلك الذئاب الجائعة. ترك رائدا الفضاء النيران وفرا هاربين للاحتماء بمركبتهما، التي قضيا فيها ليلة مؤرقة؛ حيث واصلت الذئاب عواءها؛ لكن كان جهاز البيكون اللاسلكي الخاص بهما لا يزال يعمل، وسرعان ما سمعا صوت طائرة. عند الفجر، وصلت دورية تزلج وأخرجتهما سالمين إلى طائرة هليكوبتر كانت بانتظارهما.
مرة أخرى، اقتحم الروس السماوات بنجاح. لكن، كان من المتوقع أن يمثل هذا ذروة برنامجهم؛ إذ مثلما كشفت الأحداث لاحقا، لم تتمكن موسكو من مواكبة الجهود الأمريكية المتصاعدة، وعجزت عن مواجهة التحدي؛ فقد صارت مركبات «جيميني» جاهزة واستطاعت أمريكا من خلالها تحقيق الريادة.
لم تكن مركبات الإطلاق في أبولو جاهزة بعد، بيد أن مركبة «جيميني» أثبتت منذ البداية أنه لا يزال من الممكن تحقيق المزيد حتى باستخدام صواريخ تعزيزية مستلهمة من برامج الصواريخ الباليستية العابرة للقارات في خمسينيات القرن العشرين. كان من المنتظر أن تدور المركبة المأهولة برائدي فضاء في مدار أعلى الصاروخ «تايتان 2»، وهو نموذج فعال من الصاروخ «تايتان» الأصلي الذي صمم في سنوات سابقة . حلق الصاروخ على ارتفاع أكثر من مائة قدم، وعلى غرار الصاروخ «آر-16» الروسي، الذي كان يشبهه كثيرا، كان الصاروخ «تايتان 2» يماثل في ضخامته أي صاروخ، وكان لا يزال من الممكن نشره كسلاح عملي. كان حجم «تايتان 2» يعكس بدوره مهمته العسكرية، ألا وهي نقل رأس حربية زنة 9 ميجا طن، وهي واحدة من أكبر الرءوس الحربية وأثقلها في البلاد.
كان الصاروخ «تايتان 2» - شأنه شأن الصاروخ «آر-16» - مكونا من مرحلتين ويعتمد على حرق أنواع وقود دفعي قابلة للتخزين. لم يكن يعتمد على حمض النيتريك («سم الشيطان» حسبما سماه السوفييت)، بل كان يستخدم رابع أكسيد النيتروجين الأعلى أداء كمادة مؤكسدة، والهيدرازين كوقود. كان متعدد الاستخدامات تماما؛ ففي القوات الجوية، لعب «تايتان 2» دورا مكملا للصاروخ «مينتمان» الصغير والمتعدد من خلال اقتباس ميزاته الرئيسية، مثل وضع صوامع تحت أرضية، بالإضافة إلى عملية الإطلاق السريعة الاستجابة. في الفترة بين عامي 1963 و1965، مع دعم البنتاجون لعمليات نشر أسطول الصواريخ الاستراتيجية التابع له ضمن قوة شاملة تضم صواريخ «بولاريس» و«مينتمان»، أعادت القوات الجوية صواريخ «ثور» و«جوبيتر» من أوروبا، بينما أخرجت أساطيلها من صواريخ «أطلس» و«تايتان 1» من الخدمة. لكن، ظل أربعة وخمسون صاروخا طراز «تايتان 2» في وضع تأهب حتى عام 1987.
حاز هذا الصاروخ إعجاب ناسا أيضا. بلغت قوة دفع صاروخ المرحلة الأولى فيه 430 ألف رطل، وهو ما كان يمثل تطورا مرحبا به للصاروخ «أطلس» الذي كانت قوة دفعه تبلغ 360 ألف رطل. كان الصاروخ يتضمن أيضا صاروخ مرحلة ثانية بقوة دفع 100 ألف رطل، وهو ما يحسن كثيرا من قدرته على رفع أحمال ثقيلة إلى مدار فضائي. لم تكن عملية تطويره سلسة؛ إذ كانت ثمة مشكلة مقلقة تسمى مشكلة «البوجو»، التي كان الصاروخ يهتز على إثرها اهتزازا قويا أثناء الرحلة على غرار عصا البوجو. لم يكن في مقدور أي رائد فضاء أن يعتلي متن هذا الصاروخ التعزيزي، واستغرقت المشكلة عاما من الجهد المكثف لإصلاحها. لكن الصاروخ النهائي كان بسيطا؛ فعلى حد تعبير ألفين فلدمان، مدير برامج في شركة «إيروجت جنرال»: «تخلصنا من كل ما لا يلزم. مع الصاروخ «تايتان 1»، كان علينا أن نعدل الأكسجين السائل حتى يحين موعد العد التنازلي، بيد أننا هذه المرة لم نكن نشعر بقلق حيال أي شيء حتى قبل يومين من الرحلة. لم يكن علينا سوى تحميل الوقود سلفا ، وهذا كل ما في الأمر.»
Bog aan la aqoon