أما أبو بكر فقد استشار هنا طبيعة الاقتداء، وطبيعة الإعجاب بالبطولة وطبيعة اللين والإغضاء، وهي تشير عليه بالإعفاء من الحساب أو بالإمهال به إلى حين.
فهو لا يعزل قائدا من قواد رسول الله وسيفا من سيوفه، وهو لا ينسى بطولة خالد وإن زل أو أخطأ التأويل، كما قال، وهو يؤثر اللين؛ لأنه في عامة أحواله مطبوع عليه ما لم يمسه الأمر فيما يثير. •••
وجاءت مسألة الأعطية فأبى أبو بكر أن يتصرف في تمييز الأقدار وأقدم عمر على التصرف والاجتهاد.
وجاءت مسألة المؤلفة قلوبهم فأعطاهم أبو بكر متبعا سابقة الرسول وأنكر عمر عطاءهم؛ لأنهم كانوا يأخذون ما أخذوه والإسلام ضعيف ...
فأما الآن فماذا عساهم أن يصنعوا إن لم يأخذوا ما يصنعونه كائنا ما كان لا يكرثه ولا يثنيه. •••
وهكذا نستقصي علل الخلاف بين الصاحبين في كل مسألة من المسائل، فإذا هي في مردها خلاف بين قوتين من نوعين، أو خلاف في تناول الأمور على طريقتين، ولم تكن قط خلافا بين قوة وضعف، أو بين حرص وتفريط، أو بين أثرة وإيثار.
ومن المسلم أن القوة ضروب، وأن العظمة صنوف، وأن اللين لا يلين أبدا، والشديد لا يشتد أبدا، فلا بد من اختلاف بين العظيم والعظيم، ولا بد من اختلاف بين عمل العظيم الواحد في أوقات، وليس العجب أن يجري كل منهم على خطته وأسلوبه، وإنما العجب أن تتعدد ضروب القوة وتتعدد صنوف العظمة ثم تتوحد الخطة والأسلوب.
وموضع العبرة - بل موضع الإعجاز فيما تقدم - هو تلك الدعوة التي شملت هذه القوة كلها في طية واحدة، وضمت هؤلاء الرجال جميعا حول رجل واحد، وجذبت إليها أكرم العناصر التي تأتي بالعظائم وتصلح للخير وتقدم على الفداء.
فأوجز ما يقال في تلك الدعوة أنها خاطبت خير ما في الإنسان فلباها أمثال الصديق والفاروق، وأقبل عليها الأقوياء المخلصون من كل طراز، فليست هي بالدعوة التي تخاطب الضعف والضعة، ولا بالدعوة التي تخاطب الطمع والأثرة، ولا بالدعوة التي قوامها الترهيب والترغيب، ولكنها الدعوة التي يجيبها أكرم سامعيها، ويتخلف عنها أقلهم سعيا إلى الخير واقتدارا عليه.
والصديق والفاروق خير نماذج الرجال في الجزيرة العربية، ففي خلائق هذين العظيمين دليل على السر الذي من أجله نادى محمد قومه ومن أجله أجيب، ومن قال من المكابرين والمتعنتين: إن دعوة محمد لم تكن بالدعوة الصالحة فليقل: أي صلاح كان يلقى في الجزيرة العربية مجيبين أكرم وأقدر من هؤلاء المجيبين؟ وأي هداية بين الناس أشرف من الهداية التي تجمع إليها أقوى الأقوياء وأطيب الطيبين، على ما بينهم من تقابل في المزاج والرأي كأعجب ما يكون التقابل بين المختلفين المتفاوتين؟ وأي إقناع أقنع الصديق؟ وأي إقناع أقنع الفاروق؟ الخشية؟ المتعة؟ الشر؟ الطمع؟ لقد كانا إذن آخر من يجيب، وكان خصومهما إذن أسرع المجيبين وأسبق المؤمنين!
Bog aan la aqoon