فلا نحسب أن محمدا عليه السلام دل بعمله وقوله ومضامين رأيه على شيء واضح مطرد كما دل على هذه الرغبة القوية، ولا ظهر منه الحرص على شيء كما ظهر حرصه على تنزيه النبوة من مطامع السيادة الدنيوية ومفاخر العصبيات.
فأبغض شيء كان إلى نفسه الكريمة قول من كانوا يقولون: إن النبوة تمهيد لدولة هاشمية أو وراثة دنيوية.
ولهذا أثر عنه أنه لم يول أحدا من قرابته ولاية أو عمالة في مكة والمدينة أو في غيرهما.
بل لهذا أصهر إلى أبي سفيان، واتخذ معاوية كاتبا للوحي، وأمر يوم فتح مكة مناديا ينادي في الناس: «... من دخل المسجد فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ليمحو من نفوس بني أمية حزازة العصبية بينهم وبين بني هاشم، ولا يدع في سرائرهم مجالا للظن بأنها غلبة أسرة على أسرة، أو بطن من قريش على سائر بطونها.
وقال عليه السلام: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه ما أقاموا الدين» ولم يقل «في بني هاشم» أو في بني عبد المطلب، ولو شاء لقال.
ولا ريب أنه عليه السلام لم يؤثر قريشا بالأمر يومئذ؛ لأنه يؤثر العصبية لبني قبيلته وقومه، ولكنه آثرهم للحكمة السياسية البينة التي لا يسهو عنها الهداة المسئولون عن مصائر الأمم في عصر من العصور. فقريش هم أصحاب السيادة في مكة وهي كعبة الإسلام وعاصمة الدول الإسلامية في ذلك الحين. ولن تفلح دولة يكون أهل العاصمة فيها أول الثائرين عليها والمنكرين لذويها.
ويغلب على اعتقادنا أنه عليه السلام ترك أمر الخلافة بغير وصية ظاهرة؛ لأنه علم أن الخلافة منتهية إلى مثل ما انتهت إليه، ولا سيما بعد تقديمه أبا بكر للصلاة بالناس.
ونص على «قريش» ولم يتجاوز ذلك؛ لأنه علم أن قريشا تتفق على مثل ما اتفقت عليه، وأن الخلاف إنما يجيء - إن جاء - من جانب الأنصار أهل المدينة. فالحاجة ماسة إلى هذا التخصيص لدفع الخلاف المنظور، ومع هذا التخصيص اللازم وصية مكررة بإكرام الأنصار أوصى بها المسلمين بعده، وهي وصية معناها الواضح في هذا المقام أنه عليه السلام كان يترقب أن تئول الخلافة إلى المهاجرين فهم الذين تتجه إليهم الوصية بإكرام مثوى إخوانهم الأنصار، ولولا ذلك لما اتجهت الوصية لفريق منهما دون فريق.
ونقول: إن النبي علم بمصير الخلافة على الوجه الذي صارت إليه، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنه عليه السلام ترك هذه المسألة وهو يتوقع فيها الفشل والفتنة، ولم يبرم فيها حكما يدفعهما به ما استطاع.
فإذا انحصرت الخلافة يومئذ في قريش؛ فهي صائرة إلى أبي بكر دون غيره ولا حاجة إلى تدبير لن يغير مصير الأمور.
Bog aan la aqoon