ولكن قد يقال إن استحقاق العظيم أن يحبه العظماء لأشرف من ذلك رتبة، وأدل على حظه الجليل من فضائل التفوق والرجحان ... وهذا صحيح لا ريب فيه ...
وهنا أيضا قد تمت لمحمد معجزته التي لم يضارعه فيها أحد من ذوي الصداقات النادرة ...
فأحدقت به نخبة من ذوي الأقدار تجمع بين عظمة الحسب وعظمة الثروة وعظمة الرأي وعظمة الهمة، وكل منهم ذو شأن في عظمته تقوم عليه دولة وتنهض به أمة، كما أثبت التاريخ من سير أبي بكر، وعمر، وخالد، وأسامة، وابن العاص، والزبير، وطلحة، وسائر الصحابة الأولين ...
وربما عظم الرجل في مزية من المزايا فأحاط به الأصدقاء والمريدون من النابغين في تلك المزية، كما أحاط الحكماء بسقراط والقادة بنابليون.
بل ربما أحاط الصالحون بالنبي العظيم كما أحاط الحواريون بالمسيح عليه السلام وكلهم من معدن واحد وبيئة متقاربة.
أما عظمة العظمات فهي تلك التي تجذب إليها الأصحاب النابغين من كل معدن وكل طراز، وهي التي يقابل في حبها رجال بينهم من التفاوت مثل ما بين أبي بكر وعلي، وبين عمر وعثمان، وبين خالد ومعاذ، وبين أسامة وابن العاص: كلهم عظيم وكلهم مع ذلك مخالف في وصف العظمة لسواه.
تلك هي العظمة التي اتسعت آفاقها وتعددت نواحيها حتى أصبحت فيها ناحية مقابلة كل خلق، وأصبح فيها قطب جاذب لكل معدن، وأصبحت تجمع إليها البأس والحلم، والحيلة والصراحة، والألمعية والاجتهاد، وحنكة السن وحمية الشباب.
تلك هي بلا ريب عظمة العظمات، ومعجزة الإعجاز في باب الصداقات، وما استحقها محمد إلا بنفس غنيت بالحب وخلصت له حتى أعطت كل محب لها كفاء ما يعطيها؛ مودة بمودة وصفاء بصفاء، وعليها المزيد من فضل التفاوت في الأقدار.
ولقد كان صاحب الفضل على أصفيائه جميعا بما هداهم إليه من نور العقل ونور البصيرة، وهما أشرف من نور البصر لأنه نعمة يشترك فيها الإنسان والعجماوات، ونور العقل ونور البصيرة نعمتان يختص بهما الإنسان.
ومع هذا كان يذكر فضلهم ويشيد بذكرهم كما قال عن أبي بكر: «ما أحد أعظم عندي يدا من أبي بكر؛ واساني بنفسه وماله وأنكحني ابنته»، وكما قال عن أبي بكر وعمر: «أبو بكر وعمر مني بمنزلة السمع والبصر»، وكما قال عن علي: «علي أخي في الدنيا والآخرة»، وكما قال عن بعض أصحابه: «إن الله تعالى أمرني بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم: علي منهم، وأبو ذر، والمقداد، وسلمان»، وكما قال عن الأنصار جميعا وهو في مرض الموت: «استوصوا بالأنصار خيرا. إنهم عيبتي التي أويت إليهم، فأحسنوا إلى محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم» ... وغير ذلك كثير عن الصحابة كافة وعن بعضهم مذكورين بأسمائهم.
Bog aan la aqoon