كان يوصي بالرياسة حيثما وجد العمل الاجتماعي أو العمل المجتمع الذي يحتاج إلى تدبير. ومن حديثه المأثور: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» ... ومن أعماله المأثورة أنه كان يرسل الجيش وعليه أمير وخليفة للأمير وخليفة للخليفة إذا أصيب من تقدمه بما أقعده عن القيادة، وكان قوام الرئاسة والإمامة عنده شرطان هما جماع الشروط في كل رئاسة، وهما الكفاءة والحب: «أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غش الله وغش رسوله وغش جماعة المسلمين.»
و«أيما رجل أم قوما وهم له كارهون لم تجز صلاته أذنيه.»
وكان إلى عنايته بإسناد الأمر إلى المدير القادر عليه حريصا على تقرير التبعات في الشئون ما كبر منها وما صغر، على النهج الذي أوضحه صلوات الله عليه حيث قال: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع وهو مسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وهي مسئولة عنه، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه. ألا فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته.»
وقد كانت أوامر الإسلام ونواهيه معروفة لطائفة كبيرة من المسلمين أنصارا كانوا أو مهاجرين، ولكنه عليه السلام لم يترك أحدا يدعي لنفسه حقا في إقامة الحدود، وإكراه الناس على طاعة الأوامر واجتناب النواهي، غير من لهم ولاية الأمر وسياسة الناس.
فلما قتل بعض المسلمين غداة فتح مكة رجلا من المشركين غضب عليه السلام، وقال فيما قال من حديثه المبين: «... فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة ...» ولما أراد أن يصادر الخمر نهج في ذلك منهجا يقصد به إلى التعليم والاستنان كما جاء في رواية ابن عمر حيث قال: «أمرني
صلى الله عليه وسلم
أن آتيه بمدية، فأتيته بها، فأرسل بها فأرهفت، ثم أعطانيها فقال اغد علي بها. ففعلت، فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معي أن يمضوا معي ويعاونوني، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ففعلت، فلم أترك في أسواقها زقا إلا شققته.»
وهذا تصرف المدير بعد تصرف النبي الذي يبين الحرام ويبين الحلال، فالخمر شربها وبيعها ونقلها حرام يعلمه جميع المسلمين، من تفقه منهم ومن لم يتفقه في الدين، ولكن المحرمات الاجتماعية ينبغي أن تكون في يد ولي المسلمين لا في يد كل فرد يعرف الحلال والحرام، وليست المسألة هنا مسألة تحريم وتحليل، ولكنها مسألة إدارة وتنفيذ في مجتمع حافل يشتمل على شتى المصالح والأهواء، ولا يصاب ببلاء هو أضر عليه من بلاء الفوضى والاضطراب واختلاف الدعاوى وانتزاع الطاعة وتجاهل السلطان، فلم يكتف النبي عليه السلام بصريح التحريم في القرآن ولا اكتفى بإسناد الأمر إلى غير معروف الصفة في تنفيذ الأحكام، بل خرج بنفسه ثم أمر رجلا بعينه وأناسا بأعينهم أن يمضوا في إتمام عمله، ولم يجعل ذلك إذنا لمن شاء أن يفعل ما شاء.
وما أكثر ما سمعنا في أيامنا الأخيرة عن الأمن والنظام، وتوطيد أركان الشريعة والقانون، ولكننا لا نعرف في كل ما قيل كلاما هو أجمل لوجوه الصواب في هذه المسألة من قول النبي: «السمع والطاعة حق ما لم يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.» ومن قوله فيما رواه عبادة بن الصامت: «... ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان.» ومن قوله: «الإمام الجائر خير من الفتنة، وكل لا خير فيه، وفي بعض الشر خيار.» ومن قوله: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» ... إلى أحاديث في هذا المعنى هي جماع الضوابط التي تقوم عليها الإدارة الحكيمة، والخطط السليمة المستقيمة، بين آمر ومأمور.
نظام وفوق النظام سلطان، وفوق السلطان برهان من الشرع والعقل لا شك فيه، وجميع أولئك على سماحة لا تتعسف النزاع ولا تتعسف الريبة ولا تلتمس الغلواء.
Bog aan la aqoon