92

ونحن اليوم ننظر إلى القصة بعين التاريخ فنرى - كما أسلفنا - أن الفاروق إنما ختم دورا ختمه القدر وانقضت به الحوادث. فلم يكن بعد القمة التي ارتفع إليها خالد في ضربته لدولة الرومان مرتقى لراق ولعل مجده الباذخ قد كانت تعوزه قمة من نوع غير تلك القمم التي تسنم فيها صعدا من غلبته على طليحة ومسيلمة إلى غلبته على القياصرة والأكاسرة: تلك هي قمة التجمل والإخلاد إلى الواجب الأليم يوم عزله. فهي والله لمما يحسب له إلى جانب قممه البواذخ، قمم العظيم الظافر الجسور ... وأين - لولا عزله - كنا نبصر بينها قمة العظيم الصابر المطيع؟

الفصل التاسع

عبقريته الحربية

كسبت المعارك الحاسمة لأسباب لا تحصى، وكسبت معارك شتى للسبب ونقيضه، وربما تعرض النقاد العسكريون للمعركة الواحدة فإذا بهم يردون النصر فيها إلى أسباب تتناقض وتتباعد كأنهم يتكلمون عن النصر والهزيمة.

كسب بعض المعارك؛ لأن الأقواس كانت أكثر من السيوف، وكسب بعضها؛ لأن السيوف كانت أكثر من الأقواس.

وكسبت معارك حاسمة؛ لأن الرماح المنتصرين كانت أطول من رماح المهزومين بشبرين أو بضعة أشبار، وكسبت معارك غيرها؛ لأن الرماح كانت تتلاحق في طولها على حسب الصفوف.

وفي بعض المعارك كان الفرسان في الوسط، فقيل: إن هذا كان من دواعي النصر العاجل، وفي معارك أخرى قيل: إن دواعي النصر إنما ترجع إلى قيام الفرسان على الجانبين ...

وكثيرا ما يقال: إن اشتراك الفرسان والمشاة في العمل كفيل بالغلبة في بعض الميادين، ثم يدور الكلام على ميدان آخر فيقال: إن تربص الفرسان بمعزل عن القتال إلى ساعة الفصل هو الكفيل بالغلبة المؤزرة حتى نهاية القتال، وربما قيل: إن ظهور الفرسان في ميدان يضيق عن حركات المناورة جنى على الفرسان وعلى المشاة فدب الفشل في صفوف هؤلاء وهؤلاء ...

ولقد يحاول بعض الخبراء أن يجمعوا أسباب النصر إلى قاعدة موجزة فيقولون كلاما يحسن الاطلاع عليه، ولكنه كلام يقرؤه القائدان معا فيبوء أحدهما بالنصر ويبوء الآخر بالهزيمة.

مثل هذه القواعد الموجزة كمثل القاعدة التي توجز لك البلاغة الشعرية في كلمات ثلاث وهي: الوزن، واللفظ، والمعنى ... ولا خطأ في هذا الإيجاز، ولكنه مع هذا لا يعلم الشاعر الصواب.

Bog aan la aqoon