على أن البادية لم يفتها قط علم الحرب، كما علمته دول الحضارة في عصور الجاهلية العربية، فكانت غسان على مقربة من الروم تدخل معهم في الفرق المتطوعة على حالي الدفاع والهجوم، وكان ملوك الحيرة على مقربة من الفرس يخدمهم أحيانا كتيبتان من الجيش الفارسي، هما الشهباء والدوسر أو «الدوشير» بمعنى الأسدين شعار الدولة الفارسية. وكان جند الشهباء من أبناء فارس وجند الدوسر من أبناء القبائل العربية، وليس يحتاج العربي إلى أكثر من هذه المقاربة وهذه القدوة؛ لالتقاط الفنون التي يحتاج إليها في تعبئة الجيوش وللفطنة إلى المخاوف التي يتقيها في مواجهة التعبئة النظامية من جانب دول الحضارة .
وقد تبين هذا فعلا في وقعة ذي قار التي تغلب فيها العرب على الدولة الفارسية، فإن العرب كانوا في تلك الواقعة أبرع قيادة وأخبر بفنون الزحف والتعبئة من قادة الجيوش النظامية، لم يغفلوا قط عن حيطة واجبة أو حيلة نافعة قبل اشتباكهم بالجيوش الفارسية؛ بعثوا الطلائع وبثوا العيون وقسموا جموعهم إلى ميمنة تولاها بنو عجل، وميسرة تولاها بنو شيبان وقلب تولته بطون من بكر عليهم رئيسهم القدير هانئ بن مسعود، وأنفذوا إلى قبائل العرب الذين في جيش الفرس رسلا يثيرون نخوتهم ويغرونهم بالتخلي عن أصحابهم حين يجد الجد ويلتحم الجيشان، فوافقتهم إياد وبرت بوعدها فولت من الميدان في أحرج الأوقات ... •••
ولما أصبح يوم الوقعة الحاسمة أقبل الفرس ومعهم الأفيال والفرق المدرعة، فلم يرع قادة العرب ما شاهدوا من ذلك الجيش الزاخر وتلك العدة الوافية؛ بل تشاوروا في أمرهم وعقدوا بينهم ما يشبه «مجلس الحرب» في اصطلاح هذه الأيام. فقال ربيعة بن غزالة السكوني: «لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها، ولكن تكردسوا كراديس، فإذا أقبلوا على كردوس شد الآخر». وقال حنطة بن ثعلبة: «إن النشاب الذي مع الأعاجم يفرقكم، فإذا أرسلوه لم يخطئكم، فعاجلوهم اللقاء، وابدءوهم بالشدة». وقال يزيد بن حمار: «أكمنوا لهم كمينا»، ففعلوا وأكمنوه في موضع يقال له الخبيء، وأوصوه أن يظهر حين يشتد القتال بين العسكرين، وتفر قبيلة إياد من صفوف الأعاجم، فيكون فرار أنصارهم وإقبال المدد إلى خصومهم مع احتدام القتال ضربتين متداركتين، لا يقوون بعدهما على الثبات.
ولم يغفلوا عن حمية الجند والفرسان يلهبونها للمجازفة بالحياة والأنفة من طلب النجاة، وهو ما نسميه اليوم بالروح المعنوية، فعمد حنطة بن ثعلبة إلى وضين راحلة امرأته - أي حزامها - فقطعه، وتتبع رواحل النساء فقطع وضنها جميعا فسقطت على الأرض، وصاح بقومه: «ليقاتل كل رجل منكم عن حليلته ...» وراح السيافون يقطعون أقبيتهم من مناكبها لتخف أيديهم لضرب السيوف، وتسابق الخطباء والشعراء في التذمير والتحريض فذهبوا جميعا يرددون قول قائلهم: «المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره.»
وتبارز بعض الفرسان من العسكرين، ثم التحم الفريقان وحمي الوطيس، وظهر الكمين في أوانه وولت إياد، فتبعها فريق ممن كسرت قلوبهم هذه الصدمة التي فوجئوا بها على غير رقبة، وأطبق الكمين على قلب الجيش ومعه كوكب الجيش العربي كله فحقت الهزيمة العاجلة على أقوى الجيشين، وكتب النصر لأولى الفريقين به في ميزان الفن العسكري الذي يشمل جميع المرجحات، ما عدا المرجح المادي دون غيره، وهو العدد والسلاح.
إذ الحقيقة أن غلبة العرب في يوم ذي قار إنما كانت غلبة لليقظة على الغفلة، وللكفاية على العجز، وللخفة على الفخامة، وللفن الحربي الصحيح على النظم التقليدية التي لا تصرف فيها، وللعزة المشكورة على الكبرياء المذمومة، وكان العرب خلقاء أن ينتصروا بكل وسيلة من وسائل النصر في الحروب القديمة والحروب الحديثة، إلا تفوق الفرس في بعض العدد التي لم ينفعهم تفوقهم فيها عند التحام الصفوف.
وليس في وسع عالم من علماء الحرب في زماننا هذا أن يأخذ عليهم خللا في خطتهم لم يلتفتوا إليه، أو يحصي عليهم وجها من وجوه التدبير قصروا فيه؛ لأن وجوه التدبير كلها فضول بعد أن تستقيم للمقاتل: (1) أهبة الاستطلاع. (2) رسم الخطة. (3) تنظيم الجيش في مواقفه. (4) تنظيم الجيش في حركاته. (5) إذكاء العزيمة في نفوسه. (6) إضعاف العزيمة في نفوس خصومه ... وهذه كلها هي صفوة لباب الحرب في العصر الحاضر وفي العصور الغابرة، وفي جميع العصور إلى آخر الزمان.
ويبدو لنا أن مزية الفرس والروم في أنواع الأسلحة والعدد كانت مزية مبالغا فيها على الأقل في ميادين الاشتباك والالتحام، إذا صح أن لها الرجحان في مواقف الحصار ومواقف الحرب من بعيد؛ لأننا عرفنا من أخبار الحروب الماضية أن بعض الفرسان البواسل كانوا يترجلون ليحكموا الضرب والحركة، وكانوا يخلعون عنهم شكتهم تبرما بها وتخففا من ثقلها ولا سيما في أيام القيظ أو في المواضع الوعرة التي تصعب فيها حركة المدرعين في الشكة السابغة، وكان بعض الضباط من النبلاء يستصحبون خدما لهم؛ ليحملوا لهم شكتهم إلى حين الحاجة إليها، وجاء في كتاب فيجتيوس
Végétius
إنجيل الحرب عند الرومان الأقدمين أن الجنود كانوا يضيقون ذرعا بالدروع المعدنية ويستثقلونها ويودون لو يطرحونها ويتاح لهم العمل بغيرها، ولم تكن لهم حاجة بها إلا حين يرادون على الاقتراب من مواقع السهام والنبال والحراب الطويلة، لأداء عمل من الأعمال.
Bog aan la aqoon