وسار الجيش إلى وجهته كما أراد، فخلت المدينة من الجند إلا بضع مئات من رجال المهاجرين والأنصار، ودرى أقرب المرتدين إليها بحالها من العزلة وقلة الحامية، فزحفوا عليها، وظنوا أنهم إذا هددوها وهي عزلاء وتوسلوا بالمفاوضة والوساطة في الوقت نفسه - رجع الخليفة عن عناده وقبل منهم ما ساوموه عليه؛ وهو إقامة الفرائض كلها والإعفاء من الزكاة ... أو من الجزية كما سموها!
زحفت مئات من عبس وذبيان وفزارة على المدينة، وتركوا شطرا من جموعهم في الربذة حيث تلتقي طرق كثيرة على مسافة سبعين أو ثمانين ميلا من المدينة، وساروا بالشطر الآخر إلى ذي حسا وذي القصة وهي أقرب محلة إليها، ثم أوفدوا سفراءهم ينزلون بالناس في بيوتهم ويتوسلون بهم إلى الخليفة أن يقبل منهم ما عرضوا عليه، فأبى إباءه الذي لا ينثني وقال: «لو منعوني عناقا لجاهدتهم عليه.»
فقفلت الوفود إلى جماعاتها، وعلم الخليفة بقفولها، وأخذ في التأهب للأمر بحزم العمل وحزم التدبير والحيلة بعد حزم الإيمان. فلم يدع شيئا قط يستعد به للخطر المنتظر إلا أعده في أوانه وعلى الوجه الأمثل في تلك الأحوال ...
فأقام كبار الصحابة على الأبواب، وجمع في المسجد من استطاع جمعه من المجاهدين، وأرسل العيون على الطرقات من كل سبيل، فما هو إلا أن جاءوه بنبأ القوم ومواضع جماعاتهم المختلفة حتى خرج مع الليل، ليضربهم من حيث لا يتوقعون قدومه، ودهم من كان منهم بذي القصة فذعروا لهذه البغتة التي لم تكن لهم على بال، ولاذوا بالفرار حتى لحقوا بأصحابهم في ذي حسا فثبتوا هناك للمقاومة، وقيل إنهم تحيلوا على إبل المسلمين التي لم تروض للقتال فضربوها بالأنحاء المنفوخة في وجوهها؛ فنفرت وولت مجفلة من حيث أتت، فأطمعهم ذلك في الهجوم على المدينة، وظنوا أن أهلها لن يفارقوها يومهم على الأقل بعد هذه الهزيمة ...
إلا أن الخليفة لم ينتظرهم معتصما بالمدينة كما انتظروا، بل خرج بمن معه في هزيع من الليل على تعبئة كاملة، وهبط عليهم عند طلوع الصبح وهم على غير أهبة فلم يلبثوا قليلا حتى تفرقوا وارتدوا، ولم تقم بعدها قائمة في هذه المحاولة الخاسرة؛ لأن جيش أسامة عاد من وجهته قبل أن يسعفهم مدد نافع، فيئسوا أن يأخذوا المدينة عنوة أو غرة بعد ما أعياهم أخذها وهي قليلة الحامية مفتوحة الطريق.
تلك كانت هجمة المرتدين الأولى على معقل الإسلام ... ظفر فيها المسلمون؛ لأنهم اعتصموا بحزم الإيمان وحزم التدبير وحزم الوفاق، وانخذل فيها المرتدون؛ لأنهم كانوا على نصيب ضئيل من هذه العدد الثلاث، فخانتهم عزيمة الدين وعزيمة الرأي وعزيمة الكلمة الواحدة، ولعلهم لو شاءوا أن يتحدوا كلمة وفعلا لفاتهم طلاب ذلك؛ لقلة الكلأ والماء الذي يكفيهم مجتمعين. فكان تفرقهم مما أعان المسلمين عليهم، وعوضهم من قلة الجند رجحانا يقابلون به الكثرة وهي منحلة الوثاق.
ومن عجائب الخليفة الصديق، أنه كان يعتصم بالإيمان حتى يقال لم يدع مزيدا للحيلة والتدبير، ويعتصم بالحيلة والتدبير حتى يقال إنه لم يدع مزيدا للإيمان ...
ففي هذه الفترة التي شغل فيها أولئك المرتدين بالهجوم والدفاع كانت رسله إلى كل مكان تستنفر القبائل الموالية للنجدة، وتمشي بالوقيعة والتفرقة بين القبائل المعادية أو المتربصة للعداء، وتأتيه بالأخبار من كل صوب فيعمل وهو بصير، ويعملون وهم متخبطون مضللون ...
فلم تنقض هجمة فزارة وعبس وذبيان حتى استتم له جيش كبير من أبناء القبائل الموالية في جوار المدينة ومكة، ومعهم جيش أسامة وعدته بضعة آلاف من المدربين على القتال.
ومضى رسوله «عدي بن حاتم الطائي» إلى قومه بني طيئ وهم يترددون: فريق يعصي الخليفة ويلحق بالمتنبئ الأسدي طليحة بن خويلد ومعهم فلول المرتدين عن المدينة، وفريق يحجم عن العصيان ويؤثر البقاء والانتظار، فأرهبهم من مغبة العصيان وساعده على إرهابهم مصير عبس وذبيان، وأنذرهم ليهبطن عليهم جيش لا قبل لهم بدفعه من تلك الأمداد التي تتدفق على المدينة أو يثوبوا إلى الإسلام وإيتاء الزكاة. فأصغوا إليه، وسألوه المهلة حتى يستخرجوا من لحق بطليحة من إخوانهم لئلا يقتلهم وهم بين يديه، ووعدوه أن يدخلوا بهم جميعا في زمرة جيش المسلمين. •••
Bog aan la aqoon