قال ابن عباس رواية عن خالد: إنه دخل مع رسول الله على خالته ميمونة بنت الحارث، فقدمت إلى رسول الله لحم ضب جاءها مع قريبة لها من نجد، وكان رسول الله لا يأكل شيئا حتى يعلم ما هو، فاتفق النسوة ألا يخبرنه حتى يرين كيف يتذوقه ويعرفه إن ذاقه. فلما سأل عنه وعلم به تركه وعافه. فسأله خالد: أحرام هو؟ قال: «لا، ولكنه طعام ليس في قومي فأجدني أعافه ...» قال خالد: «فاجتررته إلي فأكلته ورسول الله ينظر ...»
ومثل هذه التربية لقائد من قواد الحرب نموذج يحتذى في كل مدرسة من مدارس الفنون العسكرية الحديثة، وعلى سنتها كتب نابليون تقريره وهو طالب في المدرسة الحربية يعيب على النظام يومئذ أنه يسمح لأبناء الأعيان بمعيشة الترف واستصحاب الخدم بين جدران المدرسة، وهم أحرى بخدمة أنفسهم في مدرسة يتعلمون فيها الصبر على شدائد الحروب.
وكان لخالد - ولا ريب - علم بالبادية العربية من غير هذا الطريق، طريق الرياضة المقصودة إن صح ما رجحناه. فلعله سافر كثيرا في الجزيرة قبل الإسلام، ولعله عرف في تلك الأسفار دروبها العصية التي كان يطرقها من العراق إلى الحجاز، ومن الحجاز إلى اليمن، ومن نجد إلى الشام، وبعضها كان يعتسفه على عجل بغير أدلاء.
ولم تكن بخالد ولا بإخوته حاجة على التجارة لكسب العيش وتحصيل المال؛ إذ كان أبوه على تلك الثروة التي لا مزيد عليها في البلاد العربية، وكانت ثروته أشبه شيء في عصرنا هذا بثروة المصارف التي تعمل في صفقات القروض والربا ومضاربات الأسعار. أما الثمرات والخضر في مزارعه، فلم تكن مما يحمل إلى البلاد القصية للبيع والشراء. وإنما قصاراها أن تباع في الحواضر الحجازية وما قاربها من البوادي القادرة على شيء من الترف والمتعة، ولا سيما في أيام الأسواق والحجيج. ولهذا فسر بعضهم وصف بنيه ب «الشهود» فيما تقدم من الآيات بأنهم كانوا أبدا في صحبته وجواره مفاخرة بهم وتنزيها لهم عن الكدح والتصرف في شئون المعاش. فإن قضيت لأحدهم رحلة أو سياحة، ففي غير هذه الأغراض أو غير حاجة ملحة إلى الاتجار، وإنما هي الدربة والتمرس بالمصاعب والانتفاع بخبرة السياحة وآدابها، وقد ينفقون في ذلك خير ما يكسبون، كما كان يصنع عمه «زاد الراكب» وأعمامه الآخرون الذين اشتهروا بالأنفة من مجاراة أحد لهم في الضيافة وبذل العطايا والهبات.
وموضع الترجيح والاستنتاج هنا إنما هو في إرسال خالد إلى البادية قصدا لرياضة النفس والجسد على خشونة الأعراب وشدائد الميادين ... فهذا، وإن جرت به عادة بعض الأشراف في حواضر الحجاز، لم يقطع به قول من الأقوال في سيرة الوليد بن المغيرة وبنيه «الشهود» على احتمال الشهادة للمعنى الذي قدمناه.
ولكن الأمر الموثوق به كل الثقة، الذي لا موضع فيه لترجيح ولا استنتاج - أن خالدا قد نشأ في الحاضرة أو البادية مستعدا للخشونة مستطيعا لمعيشة الأعراب، مستجيب السليقة والبيئة لما يتكلفه المجاهد في أوعر القفار وأعنف الحروب، وكانت له ضلاعة العصبيين الأقوياء المعهودين بين رجال السيف، وهي ضلاعة يوشك أن تستمد من حماسة النفس وشهامة القلب أضعاف ما تستمده من العضلات والأوصال.
فلم تعفه العبقرية من ضريبتها التي لا مناص من أدائها، وآية ذلك أنه مات على فراشه في نحو الخامسة والخمسين، وليست هي بالسن الغالبة فيمن يموتون بداء الشيخوخة من غير علة أخرى.
وإذا تجاوزنا هذه المظنة، وهي كافية، ألفينا في تراجم الأسرة كلها ما ينبئ عن عوارض الأسر التي تهيئها الأقدار لإنجاب العباقرة في شتى المواهب والمزايا.
فهذه الأسرة الغريبة تكثر فيها عوارض الاختلاف عن جملة الناس في تركيب الأعصاب خاصة، ويشاهد فيها فرد أو أفراد تتجمع فيهم عللها وتمعن بهم مخالفاتها وعناصر شذوذها حتى تسلمهم إلى الاختلال والاضطراب كأنهم ضحايا الأسرة كلها في سبيل إنجاب العبقرية منها.
وكانت هذه العوارض مشاهدة في أسرة خالد وفي إخوته على التخصيص. فذكر كتاب الاستيعاب في أسماء الأصحاب: «إن الوليد بن الوليد كان يروع في منامه، مثل حديث مالك سواء في قصة خالد.»
Bog aan la aqoon