ولكن ليست كل النفوس بالنفس التي تصحح أوهام الواهمين في فضائل الأخلاق وفضائل الاجتماع، وفي القدوة المثلى التي يقتدي بها طلاب الرفعة والسيادة.
ونحن في عصر شاعت فيه فلسفات مسهبة، تنكر الرحمة والعدل على الأقوياء الغيورين ، وتحسبهما حيلة من حيل الطبع في خلائق الضعفاء لاستدامة البقاء، كأن رحمة الضعيف تنفعه إذا رحم، وكأن عدل الضعيف ينفعه إذا عدل، أو كأن القوي يخلق نفسه لنفسه، ولا يخلق قويا لتفيد قوته فائدتها في خدمة المحتاجين إليها.
فعمر ذو البأس والعدل، وعمر ذو الرحمة والغيرة، أصدق تفنيدا لذلك الوهم الأخرق البليد؛ إذ كانت رحمته وعدله لا يناقضان البأس والغيرة فيه، بل كان بأسه معوانا لرحمته، وكانت غيرته معوانا لعدله، وكان هو قويا لينتفع الناس بقوته، ولم يكن قويا ليطغى بقوته على الضعفاء.
ولم يكن لزاما أن يقسو ذو البأس ولا يرحم.
ألا يقسو الضعيف؟! فلم العجب إذن من رحمة القوي؟! كل ما هنالك أن رحمة الضعفاء غير رحمة الأقوياء. فأما العقل الذي يرى الرحمة غريبة في الأقوياء، ويرى القسوة غريبة في الضعفاء، فهو يرى غير الواقع من هؤلاء وهؤلاء؛ إذ الواقع في الدنيا أن القسوة لا تدل على القوة، وأن الرحمة لا تدل على الضعف، وأن ليس في الدنيا أقسى من الأطفال وهم أضعف من فيها من الضعفاء.
وبغير إمعان طويل في دقائق النفس الإنسانية، استطاعت امرأة محزونة أن تفرق بين الخصلتين، وتجمع بينهما معا في عمر بن الخطاب، ونعني بها عاتكة بنت زيد حين قالت في رثائه:
رءوف على الأدنى غليظ على العدى
أخي ثقة في النائبات منيب
وهي تفرقة سهلة، ولكنها صادقة جامعة، فغير عجيب أن يكون إنسان كذلك، وإنما هو أوفق شيء لطبائع الأشياء.
الفصل الرابع
Bog aan la aqoon