وقد عاشره أناس من الدهاة فخبروه وحذروه، وقال المغيرة بن شعبة لعمرو بن العاص: «أأنت كنت تفعل أو توهم عمر شيئا فيلقنه عنك؟! والله ما رأيت عمر مستخليا بأحد إلا رحمته كائنا من كان ذلك الرجل. كان عمر والله أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع.»
إنما كان عمر كما وصف نفسه «ليس بالخب ولكن الخب
26
لا يخدعه»، وهذا هو الحد الفاصل أحسن الفصل بين الدهاء المحمود، والدهاء المذموم، أو بين الفهم الصحيح والخبث القبيح. فهناك فطنة تسيء الظن؛ لأنها تعرف الشرور التي في طبائع الناس، وفطنة تسيء الظن؛ لأنها تشعر شعور السوء، والفرق بينهما عظيم، كالفرق بين الخير والشر والمحمدة والمذمة. فالفطنة الأولى معرفة حسنة، والفطنة الثانية خلق رديء، وإنما كان عمر بالفطنة الأولى معصوما من أن يخدع غيره، أو ينخدع لغيره، وهذا هو الحد القوام الذي لا نقص فيه من جانبيه.
وكانت له في استيحاء الخفايا قدرة تقرب من مكاشفة الغيب، لولا أنها تستند إلى التقدير الصحيح، والظن المدعوم بالخبرة، وحكاية واحدة من هذا القبيل تغني عن حكايات، وهي حكايته مع المغيرة الذي استكثر على عمرو بن العاص أن يوحي إلى عمر بمراده ويتداهى عليه.
فقد هم عمر - رضي الله عنه - بأن يعزل المغيرة عن العراق، ويولي جبير بن مطعم مكانه، وأوصى جبيرا أن يكتم ذلك ويتجهز للسفر، فأحس المغيرة، وسأل جليسا له أن يدس امرأته، وهي مشهورة بلقط الأخبار حتى سميت «لقاطة الحصى»، لتستطلع النبأ من بيت جبير، وذهبت إلى بيته، فإذا امرأته تصلح أمره فسألتها: إلى أين يخرج زوجك؟ قالت: إلى العمرة! قالت لقاطة الحصى: بل كتمك، ولو كانت لك عنده منزلة لأطلعك على أمره! فجلست امرأة جبير متغضبة ودخل عليها وهي كذلك، فلم تزل حتى أخبرها وأخبرت لقاطة الحصى. وذهب المغيرة إلى عمر ففاتحه بما علم، وهو يقول له: بارك الله لأمير المؤمنين في رأيه وتوليته جبيرا! فلم يعجب عمر من وقوفه على السر، بل قال: كأني بك يا مغيرة قد فعلت كيت وكيت، كأنما سمع رأي ... وأنشدك الله هل كان كذلك؟ قال المغيرة: اللهم نعم. ثم صعد عمر إلى المنبر ونادى في الناس: أيها الناس، من يدلني على المخلط المزيل
27
النسيج وحده؟ فقام المغيرة فقال: ما يعرف ذلك في أمتك أحد غيرك؟ فأبقاه على ولايته ولم يزل واليه على العراق حتى مات.
وإنما كانت مجاراته للداهية من هذا القبيل إعجابا بحصافته لا انخداعا بمكره، وقد يتغابى ويعمل ما يريده المتداهي عليه؛ لأنه أدرك مرمى كلامه، وفهم ما فيه من صواب، كما صنع مع عمرو بن العاص في خطبة أم كلثوم بنت علي - رضي الله عنهما - وسيأتي الكلام عنها في فصل تال.
على أن القدرة الذهنية التي امتاز بها عمر في غنى عن الاستدلال عليها بما قال وما قيل فيه، وما دار بينه وبين بعض القوم من المساجلات والمحاورات، إنه عمل لم يعمله إلا القليل من أقدر الحكام في تاريخ بني الإنسان ، وكفى بذلك دليلا على قدرته الذهنية لا حاجة بعده إلى دليل. ساس شعوبا بينها من الاختلاف مثل ما بين العرب والفرس، وبين الفرس والقبط والسوريين، ونصب ولاة، وانتدب قوادا، وسير بعوثا، وأشرف على ميادين قتال، وأقام نظما في الحكومة، وراقب رعاة ورعية فيما يعلنون وما يبطنون، ونجح في كل ما عمل نجاحا منقطع النظير، غير مردود إلى المصادفة ولا إلى ارتجال المغامرين، وليس هذا كله مما يضطلع به رجل محدود الفكر، ضيق الأفق، قليل الخبرة بالجماعات والأفراد. فإذا استوفى هذا الحظ الوافي من القدرة الذهنية، فذلك حسبه منها وحسب كل من تصدى لمثل عمله، ونهض بمثل وقره،
Bog aan la aqoon