Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Noocyada
وتنجلي طبيعة المصلح العامل في هذه الفلسفة الإلهية التي اطمأن إليها من بين آراء الفلاسفة وعقائد المعتزلة وعلماء الكلام، فلم يكن يعنيه منها أنها فلسفة تحل جميع المشكلات وتفسر جميع الغوامض وتفصل في جميع القضايا المعلقة بين المفكرين الإلهيين، وإنما كان يعنيه منها أنها تبطل الحيرة من الناحية العملية، فلا تشغل العقل بما لا داعية للحيرة فيه؛ لأنه على أي الآراء من ناحية الواقع سواء، وما لم يكن البت فيه جوهريا للعلم يحق العالم المخلوق، فالقيل والقال فيه لجاجة لا تجمل بالعقل وليس لها ضرورة في عقائد الضمير.
فالوجود المطلق لا يحده الزمان؛ لأنه يخلق الزمان، ولا موجب إذن للحيرة في قدم العالم أو حدوثه؛ لأن الله قادر على أن يخلقه مع الزمان، ولا داعية لحيرة العقل في أمر حدوثه وقدمه على هذا الاعتبار.
والذين يقولون إن البعث بالأرواح حتم، يوجبون استحالة العبث بالأجسام في غير استحالة معقول؛ لأن قدرة الله لا يمتنع عليها تبديل الجسد في إبان الحياة، ولا داعية للحيرة في مقادير المادة التي تتألف منها الأجساد الحيوانية جميعا؛ لأن الإله الذي خلق المادة ابتداء يخلقها كرة أخرى بما يشاء لها من المقادير.
ومسألة القدر - على أي معنى من معانيه - لا تلغي إرادة الإنسان كما ينبغي أن تكون إرادة المخلوق المحدود، ولا تبطل الجزاء كما ينبغي لتلك الإرادة، والعلم السابق بالتكليف والعقاب لا يقتضي بطلان الإرادة النفسية؛ لأن الإنسان قد يريد عامدا ما يعلم أنه معاقب عليه، وإذ كان علم الله بعمل الإنسان حقيقة، فحقيقة مثلها أنه جعل له إرادة على قدر وسعه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها على أية حال.
وإذا بقي من هذه الخلافيات شيء لا تبطل فيه الحيرة، فهو الشيء الذي يقضي العقل بالتفويض فيه إلى الله؛ لأن فهمه والتسليم فيه للغيب سواء.
ويخيل إلى قارئ الفلسفة حين يراجع أقواله في العقائد العضدية ورسالة التوحيد أنه فرغ من هذه الأقوال جميعا وهو يقول لنفسه: إن المفيد هو أن نعمل ما لا بد من عمله، فدعونا من إضاعة الوقت والعقل في تحصيل الحاصل، دعونا من الخلاف فيما يتساوى فيه طرفا الخلاف، فإن ترك الحيرة أولى من الحيرة التي لا تنتهي إلى طائل.
وإن مسلكه هذا مع الفلاسفة والمفكرين لقريب جدا من مسلكه مع الساسة والأمراء: الإصلاح بدونهم خير من انتظار الإصلاح معهم على غير جدوى. •••
والواضح من تعليقات الأستاذ الإمام على العقائد العضدية أنه تتبع مذاهب الفرق في أمهات مراجعها، وأحاط باللباب الجوهري من أقوال الفلاسفة الإسلاميين، ولم يفته منها غير المصادر التي ظلت مطوية في مكتبات الغرب وتخصص فيها البحث بآراء الفيلسوف الأندلسي ابن رشد، التي كان فيها على خلاف مع سائر الفلاسفة المشرقيين، وقد كان هذا سبب النزاع على الفلسفة الرشدية بين الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون صاحب مجلة الجامعة، فإن كلا الباحثين كانت تعوزه مراجع الآخر. «ولعل هذه المساجلة - كما قلنا في رسالتنا عن ابن رشد - تهدينا إلى أسباب اتساع الخلف وانفراج مسافته بين المتناقشين في هذه المسائل وأشباهها، فإن اتساع الخلف بينهم إنما يأتي على الأغلب الأعم من اختلاف المراجع التي يعتمدون عليها، وهذا الذي حدث في مناقشة الأستاذ الإمام والأستاذ فرح أنطون، فلم يكن أحدهما يعتمد على مراجع الآخر في مسألة من مسائل الفلسفة الرشدية أو الفلسفة الإسلامية على التعميم ... قال الأستاذ الإمام: وأما العقل فليس كما تقول الجامعة، فإن العقل الأول جوهر مجرد عن المادة، وهو قول صادر عن الواجب، وقد صدر عنه الفلك التاسع المسمى عندهم بالفلك الأطلسي، ونفس ذلك الفلك تدبر حركاته الجزئية. وعقل آخر هو العقل الثاني، وعن هذا العقل الثاني صدر الفلك الثامن المسمى عندهم بالعقل الفعال أو العقل الفياض، وعن هذا العقل صدرت المادة العنصرية، وإليه يرجع ما يحدث في عالمها.»
وهذا كله صحيح بالنسبة إلى فلاسفة الإسلام في المشرق على الجملة، ولكن ابن رشد كان يعتمد على شرح أرسطو مباشرة ويفسره برأيه لا بآراء الفلاسفة المشرقيين، ويقول من كتاب «تهافت التهافت» في مسألة تعدد العقول: «ولسنا نجد لأرسطو ولا لمن شهر من قدماء المشائين هذا القول الذي نسب إليهم، إلا لفرفريوس الصوري صاحب مدخل علم المنطق، والرجل لم يكن من حذاقهم.»
أما الأستاذ فرح أنطون، فكان جل اعتماده على تخريجات رينان، ولم يتوسع في الاطلاع على كتاب التهافت وغيره توسع استقصاء، وقد صرح بذلك حيث قال: «لا مناص للكاتب العربي اليوم من أخذ تلك الفلسفة عن الإفرنج أنفسهم، فأخذنا كتابا للمستر مولر عنوانه: فلسفة ابن رشد ومبادئه، وكتابا آخر عنوانه: ابن رشد وفلسفته، وهو للفيلسوف رينان المشهور.»
Bog aan la aqoon