Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Noocyada
وهو يشير هنا إلى أحمد المنشاوي (باشا) عميد القرشية الذي سجن يومئذ في قضية لعبت فيها السياسة لعبها، وكان من مروءته أيام الثورة العرابية أنه آمن الأوربيين الخائفين في داره، وسبق في ترجمة الأستاذ الإمام كلام عن صلة أبيه بهذه الأسرة العريقة في القرشية، وسنرى فيما يلي أنه كان أحد المحسنين القلائل الذين كان الأستاذ الإمام يعتمد عليهم في إنجاز مشروعاته الاجتماعية، وقد جمع من أسرته ومن سائر الأسر الكريمة ألوف الجنيهات، وذهب بنفسه إلى ميت غمر ليشرف مع الهيئة المختارة على إنفاقها في تعمير القرية وتعويض أهلها.
ولقد كان أثر المحسن المعلم في المؤسسات الباقية أبرز وأثبت من أثره في هذه المساعدات التي تدعو إليها الحوادث الموقوتة، كحوادث الحرب، وحادث الحريق، وأشباه هذه الحوادث المرهونة بأوقاتها؛ فإن المؤسسات الخيرية التي نشأت برعايته وهدايته كانت أثبت الجمعيات المصرية وأنفعها وأقدرها على أداء مقاصدها من محاربة الجهل والفاقة؛ ولا تزال أكبر هذه الجمعيات في مصر جمعيتان تأسستا بمعاونته وهدايته، وعاشتا منذ تم تأسيسهما نحو ستين سنة تعملان وتتقدمان على هداه؛ إحداهما الجمعية الخيرية الإسلامية، والأخرى جمعية العروة الوثقى، وقد سميت باسم جمعيته التي اشترك في تأليفها وإدارتها على البعد في منفاه مع السيد جمال الدين، وقد أسهم في تأسيس الجمعية الخيرية الإسلامية ثم تولى رئاستها، فزادت مواردها وأعمالها ضعفين في سنوات رئاسته الخمس (من 1317 إلى 1322 هجرية)؛ إذ كانت مدارسها أربعا فأصحبت سبعا، وكان عدد تلاميذها (311) تلميذا فأصبح (766)، وكانت تملك مائتين وثمانين فدانا فأصبح لها من الأرض خمسمائة وثلاثة وثلاثون فدانا، غير الموارد الأخرى التي ارتفعت في جملتها من 4430 جنيها إلى 10395 جنيها، وازدادت - تبعا لذلك - قدرتها على التعليم بالمجان وترتيب المعونة للمعوزين.
ولم يتسع عمر الأستاذ لإتمام المشروعات التي كان يفكر فيها ويهيئ الأذهان لإعداد أسبابها وضمان إقامتها ودوامها، وكان يرجو أن يتسنى له إتمامها في مدى قريب بعد الفراغ لها من بعض شواغله الأزهرية، ولكنه فارق الحياة في السنة التي اعتزل فيها مجلس الإدارة الأزهري بعد شهور من اعتزاله، ويمكن أن يقال - على هذا - إنه ما من عمل من أعمال الخدمة الاجتماعية تم بعد وفاته إلا كان من مشروعاته التي هيأ لها الأذهان ومهد لها الطريق وبدأ فعلا بالاستعداد لتنفيذها، ومنها الجامعة المصرية التي كان يعنى بها أن «تقوم على تعليم العلوم وفقا للمناهج الحديثة، وتسهم في تجديد الحضارة العربية القديمة»، وقال عنها فيما نشره الأستاذ روجرفيل من وصيته بعد وفاته: «إذا نظرنا إلى التعليم الذي تنشره الحكومة من حيث قيمته، فلا بد أن نلاحظ أنه لا يكاد يقدر إلا على تعليم رجل محترف بحرفة يكتسب بها عيشه، ومن المستحيل أن يستطيع هذا التعليم تكوين عالم أو كاتب أو فيلسوف، فضلا عن تكوين نابغة، وكل ما لدينا من المدارس التي تمثل التعليم العالي في مصر إنما هي مدارس الحقوق والطب والهندسة، وأما بقية الفروع التي يتكون منها العلم الإنساني، فقد ينال منها المصري صورا سطحية في المدارس الإعدادية، ويكاد يكون من المستحيل أن يتقن منها شيئا وهو في الغالب مكره على أن يجهلها جهلا دائما، وذلك شأن الفلسفة القديمة والحديثة والآداب العربية والأوربية والفنون الجميلة أيضا؛ كل ذلك مجهول لا يدرس في مدرسة مصرية ... فلا ترى في الطبقة المتعلمة الرجل الباحث، ولا المفكر، ولا الفيلسوف، ولا العالم، ولا ترى الرجل ذا العقل الواسع والنفس العالية والشعور الكريم، ذلك الذي يرى حياته كلها في مثل أعلى يطمع فيه ويسمو إليه.»
وقد مرض الأستاذ الإمام مرض الوفاة، فلم يشغله المرض عن إعداد العدة لهذا المشروع الكبير، وزار صديقه أحمد المنشاوي باشا واستزاره غير مرة للبحث في وسائل بناء الجامعة وضمان الموارد التي ينفق منها عليها، وخاطب وزارة المالية في بيع عشرة آلاف فدان من ملك الحكومة يشتريها المحسن السري، ويسجل وقفها على بناء الجامعة ومصاريفها مع ما يربط عليها من الوقوف والأرصدة المالية، ولم يتوان ذلك المحسن الوفي في إنجاز هذا العمل بعد وفاة الأستاذ الإمام برا بذكراه وتحقيقا لأمله. «وفي يوم السبت عاشر شوال سنة 1322ه/1905م كتب المنشاوي باشا إلى مجلس النظار كتابا يطلب فيه أن تبيعه الحكومة عشرة آلاف فدان معينة، ليجعلها وقفا على مدرسة كلية يريد إنشاءها في ضواحي القاهرة، ويوقع عقد الوقفية في الوقت الذي وقعت فيه المالية عقد البيع ... حتى إذا ما انتهت الوسائل قضى الرجل نحبه في الأسبوع الذي عين فيه موعد العقد ...» •••
ويشاء الله أن يبرئ هذه النفس الزكية من كل ملامة يتجنى بها المتجني عليها، فيما اختاره لنفسه من إيثار خطة التعليم والإحسان في خدمة قومه على خطط خصومه المشغولين بسياسة الصحف والأحزاب، فما كانت لتعوزه - رحمه الله - زيادة لمستزيد في بغض المكائد السياسية والإيمان بفسادها وإفسادها لكل ما تمتد إليه من «اختصاصها» كما يقولون وغير اختصاصها، ولكنه كان يخطو في عمله خطوة بعد خطوة، وكأنه بحاجة إلى التذكير الجديد بلؤم تلك السياسة خوفا عليه من نسيانه ... وفي كل خطوة من تلك الخطوات كانت تبرز له الأدلة من هنا وهناك على استقامة خطاه واعوجاج الخطى من جانب خصومه؛ هنا نفع لا ريب فيه من خطة التعليم والإحسان، وهناك ضرر لا ريب فيه من سماسرة السياسة يلاحقه في أشرف أعماله وأكرم آماله، فما من مشروع من المشروعات التي ذكرناها فيما تقدم سلم من الوشاية الخفية أو المكابرة الصحفية. ولا نذكر المكائد التي رصدت له في مساعيه لطلب الكتب النادرة التي كان يعهد بطبعها إلى جماعة إحياء الكتب العربية، ولا المكائد التي رصدت له في جمع التبرعات لمنكوبي حرب السودان، ولكننا ندل على خسة هذه المكائد بالإشارة إلى أغربها وأبعدها عن التصديق، وهي وشاية الوشاة عند الوكالة البريطانية بالجمعية الخيرية الإسلامية لاتهامها بأنها تجمع الأموال لإعانة مهدي السودان وتزويده بالذخيرة والسلاح ، واجترائهم في ذلك على تلفيق الأختام المزورة والبصمات المزيفة التي أقنعت دار الوكالة وأثارت شبهاتها، فأمرت بتفتيش مكاتب الجمعية ومراقبة مراكزها، ولولا تصدي الأستاذ الإمام لاحتمال التبعة في كل ما يثبت على الجمعية من هذه الوشايات واجتهاده لكشف دخائل التزوير في تلك الوثائق المزيفة، لقضي على الجمعية في مهدها وقضي على حسناتها وصدقاتها.
الفصل الثالث عشر
المصلح الفيلسوف
من دأب الإيمان الديني في الطبائع القوية أن يقارب بين الروح المثالي والفكر العملي على غير المألوف في أكثر المفكرين العمليين من غير المتدينين، أو غير المؤمنين إيمان اليقين.
فإن القيم الأخلاقية العليا والأريحية المثالية خيال يحلم المصلحون المثاليون بتحقيقه في المستقبل، إن صح أنه قابل للتحقيق في وقت من الأوقات، ولكنه واقع مقرر في كل وقت عند المصلح المؤمن؛ لأنه مقترن بوجود الإله الكامل السرمدي في كل لمحة من لمحات الزمن، حاضر بحضوره في كل مكان، غير ميئوس من إدراكه بإرادة الله وإرادة خلقه، مع صدق النية واستقامة الطريق على هداه.
وبهذا الإيمان يتلاقى في طبيعة المؤمن القوية هذان الخلقان اللذان يفترقان بين مثالي يخطئ العمل، وواقعي يرتاب في إمكان المثل العليا وسداد الأريحية الأخلاقية، فهما خلقان متفقان تمام الاتفاق في ضمير المصلح المؤمن بوجود الكمال المطلق في كل وقت وكل جهة، وهو وجود الله.
Bog aan la aqoon