قال سعيد: «أحسنت. هيا بنا» ونهض سعيد، ونهضت عابدة معه، وقد التفت بردائها، فأمسك سعيد بيدها وخرج من باب آخر في المنزل، وسارا في الظلام وعابدة لا ترى شيئا، ولو سار بها سعيد إلى الجحيم وهو قابض على يدها لسارت ولم تبال؛ لأنها أسيرة إرادته، مثلها في ذلك كمن يخضع للتنويم المغناطيسي.
سارا مدة بين صعود وهبوط، وقد بعدا عن الأبنية حتى وقف بها سعيد في مكان سمعت فيه أنين ساقية وخرير ماء فقال لها: «وصلنا يا عابدة.»
الفصل السابع
الاجتماع
فنظرت عابدة إلى ما حولها، فرأت بين يديها ماء يجري في نهر. عرفت ذلك من لمعان سطحه في الظلام، فقالت: «نحن على ضفة الوادي الكبير، نهر قرطبة!»
قال سعيد: «اصبري»، وأخذ بيدها وأدخلها دهليزا شديد الظلام بجانب الساقية، فتلمسا الحائط حتى أطلا على باب، فأخرج سعيد من جيبه مفتاحا فتحه به ودخل، وأغلقه خلفه، وعابدة تحدق بعينيها من شدة الظلام، فإذا هي ترى شعاعا ضعيفا ما زال يشتد حتى ظهر، فرأت نفسها عند باب مغلق، فتقدم سعيد وقرعه قرعا خاصا ففتح له، ونظر إلى عابدة على شعاع النور، فرأى سحنتها قد تغيرت لشدة القلق في أثناء الطريق، فأشار إليها أن ترخي النقاب ففعلت، ودخل أمامها، ثم أمرها أن تدخل، ومشى بها إلى مجلس في صدر القاعة فأجلسها على وسادة إلى جانبه، وتفرست في الوجوه فرأت شيوخا وشبانا عرفت بعضهم، ورأت أناسا بينهم من رجال الدولة المروانية أنفسهم، فتهيبت برهة، ثم سمعت سعيدا يتكلم فقال: «يا قوم، نحن الآن في جلسة مقدسة، وقد أتيت بهذه الأديبة من أهل دعوتنا؛ لتعلموا أن النساء يشاركننا في النقمة على الحالة الحاضرة، فإلى متى نحن صابرون؟»
فنهض رجل من الحاضرين وهو في عنفوان الشباب، وقال: «نحن صابرون لصبرك. قم بنا فإننا قائمون.»
قال سعيد: «صدقت، ولكنني لا أرى العجلة تنفع. إن الأمر الذي نحن ساعون فيه يحتاج إلى إعمال الفكر؛ نحن ساعون إلى المطالبة بحق ضائع. إن هذا الرجل الذي سمى نفسه خليفة، وتلقب بأمير المؤمنين، وقد استبد بالأحكام وأخرج من المناصب أهلها، وسلمها إلى جماعة من الخصيان والعبيد حملوا إليه حمل الأغنام من أقصى الشمال، فاشتراهم كما يشتري الماشية، ثم اختصهم بقربه وأغفل أهله وأبناء عشيرته، ولم يبق إلا أن يولي القضاء فتى من فتيانه الصقالبة أو الإفرنج. إنه ينفق الأموال في بناء القصور وإقامة التماثيل، ويصنع حجارة البناء من ذهب، وقد نهى الله عن ذلك. إن الذين فعلوا هذا من قبله أضاعوا الدولة والمملكة، فتبصروا في أمركم.»
فنهضت عابدة والنقاب لا يزال على وجهها وقالت: «إني فتاة لا أعلم علمكم، ولكنني أعلم أن طول الصبر عجز، وأن المبادرة حزم. إن عبد الرحمن صاحب هذا البلد قد أفرط في الإسراف، وحط من قدر العرب وغيرهم من المسلمين الذين هم أصل هذا الدين وعماده؛ فعهد بأكثر مناصب الدولة إلى الخصيان والعبيد، واستكثر من هؤلاء حتى غصت بهم قصوره، وشيد قصر الزهراء على اسم جاريته، وملأه بالخصيان والجواري والعبيد. إن في هذا القصر وحده ثلاثة عشر ألف وسبعمائة وخمسين فتى من الخصيان، وفيه من الصبيان الصقالبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون صبيا، وعدد النساء الصغار والكبار فيه ستة آلاف وثلاثمائة وأربع عشرة امرأة. ما فائدة الدولة من هؤلاء وهو ينفق عليهم ألوف ألوف الدنانير من مالها؟! أتعلمون كم مقدار ما ينفقه؟ إن إحصاءها فوق طاقتي، ولكنني أذكر لكم مقدار ما ينفق لإطعام أسماك إحدى بحيرات الزهراء. علمت أن مقدار ذلك في اليوم اثنا عشر ألف خبزة، وستة أقفزة من الحمص. تلك هي نفقة طعام أسماك إحدى البحيرات، فكم يكون مقدار ما ينفق على سائر حيوانات تلك القصور من الخيل، والأسود، والكلاب! بل كم تبلغ نفقات أولئك الألوف من الخصيان والعبيد! والبلية الكبرى من كثرة النساء؛ لأن كثرتهن تكثر الخصيان. هل فيكم من يستطيع أن يعرف كم يتكلفن؟ كلا، ولكنكم تعرفون جميعا أنها تكاليف باهظة.»
كانت عابدة تقول ذلك بصوتها الرخيم، فلما وصلت إلى هنا بلعت ريقها، وسكتت برهة، ثم عادت إلى الكلام، فقالت: «وهؤلاء الخصيان المجلوبون بالشراء أصبحوا الآن كبار رجال الدولة؛ كصاحب الخيل، وصاحب الطراز، وقد اتخذ منهم جنده وحاشيته ، وجالسهم وقربهم وأصبح إذا أراد أن يكرم وافدا، بعث منهم خصيا يستقبله، كما فعل اليوم بإنفاذه ياسرا وتماما لاستقبال رسل ملك القسطنطينية. وقد اتخذ من العبيد أيضا جندا وحاشية، وأهمل العرب والبربر الذين فتحوا هذا البلد وجاهدوا في سبيل الإسلام. إن أعماله هذه دليل على قرب سقوط هذه الدولة، ولا يغرنكم ما تسمعون به من الذهب، ولا ما تشاهدونه من أسباب الرخاء والترف، فقد كان مثل ذلك أو أكثر منه في الدولة العباسية على عهد الرشيد والمأمون، ولكنهم أهملوا أهل عصبتهم، واعتمدوا على الأتراك يحاربون بهم، فأصبح النفوذ للأتراك، وهو مصير الخصيان هنا إن لم تبادروا بمنعه. ويكفي لفتاة مثلي أن تقول ذلك، وإذا رأيتم أني أستطيع عملا فكلفوني به، والسلام.»
Bog aan la aqoon