فأمرت أحد الغلمان أن يدعو سالما، فخرج وعاد به، فدخل سالم، وهو يمشي مشية الشجاع مع احترام، فأعجب الناصر بما في وجهه من دلائل البسالة والجمال، فأشارت إليه الزهراء أن يقبل يد الناصر ففعل ووقف، فقال له الناصر: «أنت صاحب النقمة؟ قد بلغنا خبر خروجك علينا في جملة الخارجين، فما الذي رأيتموه من الناصر حتى خرجتم عليه؟»
فخافت الزهراء أن يقول أخوها كلمة تغضب الناصر فيعود إلى الانتقام.
فقالت الزهراء: «ألم يعف أمير المؤمنين عنه؟»
قال الناصر: «عفوت، ولكنني لست أفهم ما يحمل هؤلاء على الخروج، وكان الإسلام على وشك السقوط فأنهضته، وكانت الدولة مبعثرة فجمعت شتاتها وقهرت أعداءها. ألم أرفع شأن الإسلام بعد أن كادت هيبته تذهب بما أتاه أصحاب بغداد من أسباب الضعف، فأتاني ملوك النصارى يتزلفون ويتقربون، وهادنني أكبر ملوك النصرانية وخطبوا مودتي. أليس في ذلك عز للإسلام والمسلمين؟ من استطاع ذلك من الخلفاء قبلي؟ وأنتم مع ذلك تتآمرون وتتواطئون!» وكان يقول ذلك وصوته يرتجف من الغضب حتى خافت الزهراء من غضبه، ونظرت إلى أخيها مخافة أن تبدو منه كلمة تبعث على هياج الناصر فسمعت من الخارج صوتا يقول: «لا ذنب لأحد من المتآمرين. إنما الذنب لواحد منهم.»
الفصل السابع والسبعون
موقف هائل
فعرف الخليفة صوت سعيد، فأمر بإدخاله وهو موثق اليدين، وليس على وجهه شيء من مظاهر الخوف، وإنما كانت عيناه حمراوين يكاد الشرر يتطاير منهما، فلما وقع نظر الخليفة عليه هاب منظره وأمر أن يحل وثاقه، فتقدم بعض الحراس إلى حله، ووقف بضعة منهم إلى جانبيه بالسيوف المسلولة، وأشار بدخول سائر القادمين، فدخلت عابدة، فوقفت بجانب الزهراء، ودخل ساهر ووقف متأدبا بجانب سالم، فأمر الخليفة سعيدا أن يتقدم حتى وقف في وسط القاعة، فتقدم بقدم ثابتة وجأش رابط، فقال له الناصر: «أنت سعيد الوراق صديقنا وموضع ثقتنا؟» فلم يجب.
فقال الناصر: «أهذا جزاؤنا لأننا قربناك وأكرمناك وجعلناك مستشارنا؟! تحرضنا على قتل ولدنا لأنه خرج علينا وأنت السبب في خروجه، ثم تتجاسر على الفرار بجاريتنا الزهراء من قصرنا؟ هل بعد ذلك من مسوغ للرفق بك؟ يسوءني والله أن أخسر مشيرا عاقلا حكيما مثلك، ولكن يا للعجب! كيف ارتكبت هذه الفظائع؟ كيف جعلت لهذه الدنايا سبيلا إليك فاقترفت أمورا يتنزه عنها الجهلاء وأهل الطيش، وأمورا يستحي أهل الفجور من إتيان مثلها؟ أين كانت حكمتك؟ أين كان عقلك وسداد رأيك؟ بل أين كان تدبيرك، وأنت تعلم أن فرارك بالزهراء لم يكن ليتم لك وعبد الرحمن حي؛ فإنه يملأ الأرض عليك خيلا ورجالا ويأتي بك صاغرا ذليلا، وإذا لم يكن لك شرف يعصمك عن ارتكاب الرذائل ويردعك عن خيانة من أكرمك وقدمك، ألم يكن لك عقل يدلك على الخطر الذي يهددك من هذه الجرأة؟» •••
وكان سعيد واقفا يسمع كلام الناصر، وقد وقف مستريحا ينظر إلى بيت من الشعر مطرز على ستارة من ستائر تلك القاعة، وسائر الحضور ينظرون إليه، ينتظرون ما يعتذر به عن نفسه، وكلهم يعرفون قوة حجته ورجاحة عقله، ورغم ما أساء به إليهم كانت لا تزال منزلته رفيعة في أعينهم.
أما سعيد فلما سمع سؤال الناصر عن سبب جسارته، وكيف يفر بجاريته ولا يخشى بأسه، نظر إليه وقال: «أما سوء التدبير فلا أقبل أن أوصف به، فإن تدبيري لو عرفه المولى لما وجد به عيبا. ولكن القضاء قضى بفساد ذلك التدبير لأقف هذا الموقف.»
Bog aan la aqoon