Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Noocyada
قال: «ولا ينبغي الاسترسال مع الوهم إلى أن الجمعيات معرضة في شرقنا لتيار السياسة فلا تعيش طويلا - ولا سيما إذا كانت فقيرة - ولم تكن كغالب الأكاديميات؛ أي المجامع العلمية، تحت حماية رسمية؛ بل الأليق بالحكمة والحزم الإقدام والثبات وتوقع الخير إلى أن يتم المطلوب.»
فهذه الوسيلة - وسيلة الكلمة الحية والدعوة المنتظمة - كافية صالحة لتحقيق غايتها، مفضلة على الوسائل الأخرى التي قد يستخدمها الدعاة لقلب الدول وإقامة النظم وقيادة الشعوب من حال إلى حال.
فإذا انتشرت الفكرة بين قادة الرأي في البلاد العربية فقد تحققت نتيجة لا شك فيها ولا حاجة إلى نتيجة أكبر منها، وهي تصعيب كل حكم للعرب يخالف الدعوة وإحراج الدولة الحاكمة في بلادهم سواء عولت في حكمها على التعاون معهم أو اعتمدت على السطوة وحدها لإخضاعهم وتطويعهم، وكلاهما مطلب عسير لا يطول عليه صبر الحاكم الأجنبي ولا تطول فيه المحكومين.
أكان الكواكبي يزهد في الثورة الدموية أو يحجم عنها خوفا من أخطارها؟ كلا ... فقد فكر طويلا في هذه الثورة وبحث كثيرا في أحوالها، كما يظهر من استقصائه لجميع هذه الأحوال في خاتمة كتاب طبائع الاستبداد، فوقر في خلده أن تدبير هذه الثورة قبل إعداد العدة لما بعدها خطل في الرأي ومضيعة للجهود ومجازفة بالنتيجة المرجوة، ووقر في خلده - مع هذا - أن العامة لا يثورون في الأغلب الأعم إلا لأسباب محصورة قلما تجتمع في وقت واحد. «فلا يثور غضبهم على المستبد إلا عقب مشهد دموي مؤلم يوقعه المستبد على مظلوم يريد الانتقام لناموسه، أو عقب حرب يخرج منها المستبد مغلوبا ... أو عقب تظاهر المستبد بإهانة الدين ... أو عقب تضييق شديد عام مقاضاة لمال كثير لا يتيسر إعطاؤه ... أو في حالة مجاعة أو مصيبة عامة لا يرى فيها الناس مواساة ظاهرة من المستبد ... أو عقب تعرض المستبد لناموس العرض أو حرمة الجنائز أو تحقير الشرف الموروث ... أو عقب تضييق يوجب تظاهر عدد كبير من النساء ... أو عقب الظهور بموالاة شديدة لمن تعتبره الأمة عدوا لشرفها ...»
والمستبد - كما قال - لا تخفى عليه هذه المزالق مهما كان غبيا لا يغفل عن إتقانها.
وقد كاد الكواكبي يستقصي كل سبب يثير العامة ويهيج سخطهم على الحاكم لساعتهم على غير هدى منهم لغايتهم أو لعمل ينفعهم، ويدل استقصاء الكواكبي لهذه الأسباب على طول تفكيره في تدبير الثورة العامة حيث ترجى الفائدة من نشوبها، وهي - في الواقع - لا ترجى لها فائدة قبل اتضاح الخطة التي تعقبها وتستقر عليها، وقبل تعميم الدعوة إلى تلك الخطة بين القادرين على تحقيقها؛ «فإن معرفة الغاية شرط طبيعي للإقدام على كل عمل، كما أن معرفة الغاية لا تفيد شيئا إذا جهل الطريق الموصل إليها، والمعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقا؛ بل لا بد من تعيين المطلب والخطة تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل أو لرأي الأكثرية ...»
ولم يكن هذا الثائر المتمكن من قواعد الثورة ليجهل فعل القوة العسكرية في تبديل النظم وتقويض الحكومات، فقد كان يقول لصحبه ومن يخاطبهم بدعوته: «لو ملكت جيشا لقلبت حكومة عبد الحميد في أربع وعشرين ساعة!» وكان قصاراه من البيان في هذا الصدد أن يفضي به إلى ثقاته حيث لا يتأتى إعلانه في الصحافة المنشورة ولا جدوى من إعلانه ونشره، وممن صرح لهم بهذا الرأي «إبراهيم سليم النجار» الذي قال عنه في مجلة الحديث إنه لو لم يكن شيخا دينيا لكان قائد جيش فاتح ...
نعم هكذا كان ينبغي أن يفكر في تدبير الوسيلة لقلب حكومة عبد الحميد في القسطنطينية؛ لأن دعوته إلى النهضة العربية لا تغني شيئا في محاربته السلطان القائم بالأمر في العاصمة التركية ما لم تسعفه قوة السلاح، ولكنه في دعوته التي تجرد لها لا يلفي بين يديه وسيلة أنفع من وسيلته، ولا يصل إلى نتيجة مرموقة أفضل من النتيجة التي يصل إليها بالكلمة الحية والجماعة المنتظمة، وحسبه أن يبلغ بها حد الإقناع في قومه ليسقط كل حكومة تسوسهم في عقر دارهم على غير اعتقادهم واختيارهم، وإنما المسألة هنا مسألة وقت مقدور لا شك بعد انقضائه في الغاية التي يئول إليها. •••
وأيا كان القول الفصل في كفاية الدعوة وحدها لاستقلال العرب بالحكم الذاتي أو بالانفصال من الدولة العثمانية، فالحقيقة التي لا خلاف عليها أن الدعوة ألزم وسيلة من وسائل العمل النافع حين يكون المقصود إقناع أصحاب الحق بحقهم وتعزيز الثقة بأنفسهم وبإمكان الظفر بأمنيتهم، قبل التغلب بوسيلة من الوسائل على غاصب الحق أو المعارض فيه، فإن زوال القوة الغاصبة قبل اتفاق أصحاب الحق عليه وعلى الغاية من إدراكه، قد يفتح أبواب الفتنة على مصاريعها ويمهد الطريق لغاصب طارئ بعد غاصب معزول.
ويقل الخلاف في مسألة الخلافة وكفاية الدعوة لإقامتها على الصورة التي تداولتها آراء الكواكبي بألسنة المتكلمين في أم القرى، وبخاصة حين يكون الخليفة إماما روحيا محدود السلطان في شئون الدولة، فليس للسلطان العثماني في هذه الحالة وجه من الوجوه لإبطال بيعة الخلافة بالقوة العسكرية لو استطاعها مع جميع الأمم الإسلامية، المستقلة وغير المستقلة، وهو لا يستطيعها ولو تهيأت له الذريعة الشرعية لاستخدام قوته العسكرية.
Bog aan la aqoon