Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Noocyada
ونشأ مع هذه «التصنيفات المدرسية» صنف من العلوم قد تعم الحاجة إليه في توسيع نطاق الثقافة وتنويع أبواب المعرفة، وهو العلوم الفكرية الكمالية من فلسفة وبلاغة وتحليل لأصول التشريع والتاريخ وما إليها، ولكنها مما يحتمل الإرجاء إلى ما بعد الوثبة الأولى من وثبات الإصلاح في رأي بعض القادة الذين يرتبون أدوار الثقافة بترتيب الضرورات الفردية، ولا يحسبون حسابا كبيرا للفارق بين ضرورات الأمم وضرورات الأفراد. •••
في مثل هذا العهد من عهود التنازع على اختيار العلوم المقدمة يلتجئ الإمام المصلح إلى المشاركة في عمل الخبير المدرسي المتفرغ لتصنيف علوم الدراسة وإعداد مناهج التربية في مراحلها المتتابعة.
وقد اضطر الكواكبي إلى المشاركة في هذا العمل، ونظر إليه - كعادته - من زاويته التي هي أولى عنده بالتقديم من كل زاوية، وهي ناحية النظر إلى الاستبداد وما يخشاه المستبد من العلوم وما لا يخشاه، وما هو أحق - من ثم - بالابتدار به والتعويل عليه في كل نهضة تنبعث لطلب الحرية ومكافحة الاستبداد.
قال في طبائع الاستبداد: «المستبد لا يخشى علوم اللغة؛ تلك العلوم التي بعضها يقوم اللسان وأكثرها هزل وهذيان يضيع به الزمان ... نعم لا يخاف علم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية أو سحر بيان يحل عقد الجيوش؛ لأنه يعرف أن الزمان ضنين بأن تلد الأمهات كثيرا من أمثال الكميت وحسان، أو أمثال منتسكيو وشيلار، وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، المختصة بما بين الإنسان وربه؛ لاعتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم حتى إذا ضاع فيه عمرهم، وامتلأت بها أدمغتهم، وأخذ منهم الغرور ما أخذ فصاروا لا يرون علما غير علمهم، فحينئذ يأمن المستبد منهم كما يؤمن شر السكران إذا خمر، على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا مزية بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه، في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم ويسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد.» •••
ويقول الكواكبي بلسان الرياضي الكردي في أم القرى: «إن السبب العام هو أن علماءنا كانوا اقتصروا على العلوم الدينية وبعض الرياضيات وأهملوا باقي العلوم الرياضية والطبيعية، التي كانت إذ ذاك ليست بذات بال ولا تفيد سوى الجمال والكمال، ففقد أهلها من بين المسلمين واندرست كتبها وانقطعت علاقتها فصارت منفورا منها ... والمرء عدو ما جهل؛ بل صار المتطلع إليها منهم يفسق ويرمى بالزيغ والزندقة، على حين أخذت هذه العلوم تنمو في الغرب، وعلى كر القرون ترقت وظهرت لها ثمرات عظيمة في كافة الشئون المادية والأدبية ...»
فعلوم الرياضة والطبيعة التي كانت قبل بضعة قرون مجموعة من المعادلات النظرية والخواطر الفكرية هي التي تطورت بها نهضة الثقافة في الغرب، فأصبحت في طليعة علوم القوة والعمل، وقام عليها تقسيم المتخصصين للكشف والاختراع واستطلاع حقائق المادة واستنباط القوانين التي تحكمها وتفسرها.
ولازمتها علوم نظرية ولكنها لازمة لتوسيع الثقافة العامة؛ ولا سيما ثقافة القادة المتطلعين إلى كفالة النهضة في أوائلها؛ ولهذا يوصى الشاب الذي يتطلع إلى هذه القيادة أن «يوسع معارفه مطلقا»؛ ولا سيما في العلوم الاجتماعية كالحقوق والسياسة والاقتصاد والفلسفة العقلية والتاريخ والجغرافية والإدارة الداخلية والإدارة الحربية ... وسائر ما نسميه في هذا العصر بالمعلومات العامة.
وإذا أراد هذا الشاب أن يكسب في قومه «موقعا محترما»، فلا غنى له مع سعة معلوماته العامة من الاختصاص بأحد العلوم التي يشعر الناس بقدرها؛ كعلم الدين أو الطب أو الإنشاء أو الحقوق. •••
على أن التربية المدرسية - تربية أبناء الأمة - تبدأ قبل المدرسة ولا تنتهي بانتهائها - كما قال في طبائع الاستبداد: «إن التربية تربية الجسم وحده إلى سنتين وهي وظيفة الأم وحدها، وتربية النفس إلى السابعة وهي وظيفة الأبوين والعائلة معا، ثم تضاف إليها تربية العقل إلى البلوغ وهي وظيفة المعلمين والمدارس، ثم تأتي تربية القدوة بالأقربين والخلطاء إلى الزواج وهي وظيفة الصداقة، ثم تأتي تربية المقارنة وهي وظيفة الزوجين إلى الموت أو الفراق.» •••
فالتربية الفردية، على هذا قصة محبوكة الطرفين بين حجر الأموية في الطفولة الباكرة وبين كنف الزوجية بعد استواء السن وتقدمها ... لا جرم يكثر الحض في كلام الكواكبي على تصحيح وظيفة المرأة في الحياة والتحذير من جهلها وسوء تربيتها والانحراف بها عن سوائها، فإن النساء - كما جاء في طبائع الاستبداد - اقتسمن مع الرجال أعمال الحياة قسمة ضيزى ... «وجعلن الشجاعة والكرم سيئتين فيهن محمدتين في الرجال، وجعلن نوعهن يهين ولا يهان ويظلم أو يظلم فيعان، وعلى هذا القانون يربين البنات والبنين ويتلاعبن بعقول الرجال كما يشأن ... ومن المشاهد أن ضرر النساء بالرجال يترقى مع الحضارة والمدنية على نسبة الترقي المضاعف، فالبدوية تشارك الرجل مناصفة في الأعمال والثمرات فتعيش كما يعيش، والحضرية تسلب الرجل لأجل معيشتها وزينتها اثنين من ثلاثة، وتعينه في أعمال البيت، والمدنية تسلب ثلاثة من أربعة وتود ألا تخرج من الفراش، وهكذا تترقى بنات العواصم في أسر الرجال، وما أصدق بالمدنية الحاضرة في أوروبة أن تسمى المدنية النسائية؛ لأن الرجال فيها صاروا أنعاما للنساء.»
Bog aan la aqoon