Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Noocyada
قدمنا في الكلام على النظام السياسي أن الكواكبي يعتبر التفاوت في الثروة دعامة من أقوى دعائم الاستبداد؛ لأنه يسمح لأصحاب النفوذ الديني أو الدنيوي - وهم لا يزيدون على الخمسة في المائة من جملة السكان - بأن يستأثروا لأنفسهم بنحو نصف الثروة العامة.
وهو ينكر مثل هذا الإنكار أن يحصل مثل هذا التفاوت بأية ذريعة من الذرائع ولو كانت ذريعة العمل والصناعة، فليس من الجائز أن يعيش إنسان واحد بمثل ما يعيش به المئات أو الألوف؛ لأنه يتفوق على غيره بعمل بارع أو صناعة نفيسة، ولا لأنه يحسن الوساطة والمداورة في سوق البيع والشراء أو في سوق الفكر والضمير، «فهناك أصناف من الناس لا يعلمون إلا قليلا، إنما يعيشون بالحيلة كالسماسرة والمشعوذين باسم الأدب والدين ...»
والمال على العموم «لا يجتمع في أيدي الأغنياء إلا بأنواع من الغلبة والخداع» ... وليس من شأن التفاوت في القدرة والهمة أن تمنح إنسانا واحدا ما يقوم بنفقات الألوف من الناس، وليس هذا التفاوت مما يحتاج إليه العامل المقتدر لإتقان عمله أو يحتاج إليه المجتهد الطموح لاستنهاض همته وإشباع طموحه؛ بل ربما كان فيه مدرجة للغواية والبطالة ومدعاة إلى الإسراف والإسفاف.
وليس المطلوب أن يبطل التفاوت بين الناس في المعرفة والذكاء، ولا أن يبطل التفاوت بينهم في المساعي والجهود، فلا يقتضي الأمر - كما قال - «أن يتساوى العالم الذي صرف زهوة حياته في تحصيل العلم النافع أو الصنعة المفيدة بذلك الجاهل النائم في ظل الحائط، ولا ذلك التاجر المجتهد المخاطر بالكسول الخامل، ولكن العدالة تقتضي غير ذلك التفاوت؛ بل تقتضي الإنسانية أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقربه من منزلته ويقاربه في معيشته ويعينه على الاستقلال في حياته».
وأيا كان جهد المجتهد وعلم العالم فلا يجوز أن يزيد الرزق على الحاجة تلك الزيادة المفرطة التي تسمح لطائفة من الأمة بتسخير جميع طوائفها؛ «لأن إفراط الثروة مهلكة للأخلاق الحميدة في الإنسان، وهذا معنى الآية:
إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى ... فضرر الثروات الإفرادية في جمهور الأمم أكبر من نفعها؛ لأنها تمكن الاستبداد الداخلي فتجعل الناس نصفين: عبيدا وأسيادا، وتقوي الاستبداد الخارجي فتسهل للأمم التي تغنى بغناء أفرادها التعدي على حرية واستقلال الأمم الضعيفة ...» •••
وتظهر لنا سعة اطلاع الكواكبي في مسائل الإصلاح من إحاطته بأوائل الأعمال والآراء التي كانت تحسب في أواخر القرن الماضي طليعة سابقة؛ بل طليعة متهجمة، في مجال الإصلاح الاقتصادي والمذاهب الاشتراكية، فذكر تحديد الملكية الزراعية وذكر تأميم المرافق العامة، ومضت بعده خمسون سنة قبل أن يتيسر تنفيذ هذه الآراء في بلادنا الشرقية.
قال: «هذه إيرلندة مثلا قد حماها ألف مستبد مالي من الإنكليز ليتمتعوا بثلثي أو ثلاثة أرباع ثمرات أتعاب عشرة ملايين من البشر الذين خلقوا من تربة إيرلندة، وهذه مصر وغيرها تقرب من ذلك حالا وستفوقها مالا، وكم من البشر في أوروبة المتمدنة - وخصوصا في لندن وباريس - لا يجد أحدهم أرضا ينام عليها متمددا؛ بل ينامون في الطبقة السفلى من البيوت حيث لا ينام البقر، وهم قاعدون صفوفا يعتمدون بصدورهم على حبال من مسد منصوبة أفقية، يتلوون عليها يمنة ويسرة.»
قال: «وحكومة الصين المختلة النظام في نظر المتمدنين تحرم قوانينها أكثر من مقدار معين من الأرض لا يتجاوز العشرين كيلومترا مربعا؛ أي نحو خمسة أفدنة مصرية أو ثلاثة عشر دونما عثمانيا. وروسيا المستبدة القاسية في عرف أكثر الأوروبيين وضعت أخيرا لولاياتها البولونية والغربية قانونا أشبه بقانون الصين، وزادت عليه أنها منعت سماع دعوى دين غير مسجل على فلاح، ولا تأذن لفلاح أن يستدين أكثر من نحو خمسمائة فرنك، وحكومات الشرق إذا لم تستدرك الأمر فتضع قانونا من قبيل قانون روسيا تصبح الأراضي الزراعية بعد خمسين عاما، أو قرن على الأكثر، كإيرلندة الإنجليزية المسكينة ...»
وقال بعد أن قرر أن الشرط الأول لإحراز المال أن يأتي من بذل الطبيعة أو بالمقايضة أو في مقابل عمل أو مقابل ضمان: والشرط الثاني ألا يكون للتمول تضييق على حاجيات الغير؛ كاحتكار الضروريات أو مزاحمة الصناع والعمال والضعفاء، والتغلب على المباحات؛ مثل امتلاك الأراضي التي جعلها خالقها ممرحا لكافة مخلوقاته ...
Bog aan la aqoon