Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Noocyada
وقد نشأ المترجم في هذا الجيل من أجيال الأسرة وهي على عهدها بمنازل الشرف والعلم: أبوه أهل للقضاء في الخصومات بفضله وسمته، وأهل للتدريس في أكبر المعاهد بعلمه وصلاحه، وأحوه الأصغر «مسعود أفندي» يشترك في معاهد العلم عضوا بالمجمع العلمي في دمشق، ويشترك في معاهد الحكم عضوا بمحكمة التمييز، وفي مجالس السياسة عضوا بمجلس المبعوثين، ويقول عنه رئيس المجمع العلمي الأستاذ محمد كرد علي في الجزء الثاني من مذكراته بعد كلامه عن أخيه عبد الرحمن صاحب الترجمة: «وكان هذا يقول لي إن شقيقه مسعودا أعلم منه، وقد كتب لي الحظ الأوفى أن زاملته سنين في المجمع العلمي العربي، رأيته فيها ورصفائي مثال العلماء العاملين الذين ذكرت كتب الرجال تراجمهم العظيمة، وكانوا ممن اعتز بهم العلم وارتقى الفكر الإسلامي، حللت روح هذين الحبيبين الشقيقين والحبرين الكاملين فما سقطت فيهما على عيب من عيوب الآدميين جل الصانع! وسجلت أنهما تقدما جيلهما في كل معاني الفضل والنبل، وما أسفا إلى أن يعيشا كأكثر أبناء الفقهاء عيش التوكل والخنوع يأكلون ويشربون ويتناسلون ويجمعون من حطام الدنيا ما وصل إلى أيديهم، فالدم الطاهر ينم عن صاحبه كيفما تقلبت به الأحوال، ولا يحتاج إلى من يدل عليه ...»
ولسنا نحتاج إلى أكثر مما تقدم فيما رواه الرواة والمعاصرون عن أسرة الكواكبي للتعريف بأوائل نسبه ومنابت أخلاقه وشمائله، ففي صفحات الكتب وأقوال المحدثين أخبار متناثرة من قبيل ما أجملناه تعيده أحيانا في مختلف العبارات أو تزيد عليه ما ليس يزيد في مغزاه، ولكننا نجتزئ باليسير منها؛ لأنه أجزاء متناسقة يتمم بعضها بعضا، وينتظم منها تاريخ متصل الحلقات منذ عرف اسم الأسرة في موطنها إلى مولده وأيام حياته، وكلها - سواء منها الخبر المروي والخبر الذي تنبئنا عنه معالم المدينة وآثارها - ينتهي إلى نتيجة واحدة تكفي للتعريف بحاضره وماضيه الذي كان له الأثر الواضح في حياته وعمله، فمن هذه المعالم والأخبار نعلم أن «عبد الرحمن » قد وعى دنياه وهو يتلقى من ذكريات قومه قدوة النبل والمعرفة، وتمتد به الذكرى الغابرة إلى عهود الأسلاف الذين نهضوا بزعامة الدين وزعامة الدولة، وتحفزوا للعرش من صوامع العبادة ومساجد الدرس والهداية. وقد يتأنى المؤرخ حين يبحث عن الأسانيد القاطعة فيما يتحراه عامة المؤرخين ورواة الأخبار عن القديم، ولكنه لا حاجة به إلى الأناة فيما وعته ذاكرة الأحياء من أبناء الأسرة، وأثبتوا به إيمانهم بما كان لهم من سابقة، وما ينبغي لهم من حياة حاضرة، فلا خلاف على هذه الذكريات بين أبناء الأسرة وأبناء المدينة التي تأصل فيها الأبناء بعد الآباء والأجداد على مدى أجيالها المذكورة، ولا خلاف بين الرواة المعاصرين في عراقة الأسرة الكواكبية في مدينة حلب وإقليمها من حولها، وإنما يختلفون فيمن تسمى باسمها لأول مرة من أجداد عبد الرحمن لأبيه أو لأمه، ويقال إن أبا يحيى - أحد أجداده - كان يسمى «البيري» نسبة إلى «البيرة» على القرب من حلب، ويقول صديقه ومؤرخه الأستاذ كامل الغزي في مجلة الحديث الحلبية: «إنه عرف بالكواكبي لاتصال أحد أسلافه بآل الكواكبي من جهة النساء المعروفات بعراقة النسب.»
ولا يذكر - على أية حال - ذو نسب كواكبي بالمدينة غير آل عبد الرحمن في حياته وحياة أبيه وجده.
وقد حدث في حياة عبد الرحمن حادث ذو بال في تاريخ الأسرة وتاريخه؛ بل تاريخ دعوته وتفكيره، فانتقلت نقابة الأشراف من بيت الكواكبي إلى بيت «الصياد» شيخ الطريقة الرفاعية وشيخ مشايخ الطرق بعد ذلك في أنحاء الدولة التركية، ولكنها لم تنقل للشك في نسب الأسرة الكواكبية أو لثبوت نسب الأسرة الأخرى أسرة محمد بن حسن وادي المشهور بأبي الهدى الصيادي ... وإنما انتقلت لرضى الولاة عن زعيم هذه الأسرة ونفورهم من الأسرة الكواكبية، وهذا هو المثل القريب الذي لمس فيه عبد الرحمن عيوب الحكم في الدولة، وأدرك به مواطن الحاجة إلى الإصلاح، قبل أن يدركه بالبحث والاطلاع.
وأحسب أننا نحتاج قبل اختتام هذا الفصل إلى كلمة موجزة عن الأسرة الصفوية التي يجمعها عمود النسب بالأسرة الكواكبية، كما تجمعها الطريقة «الأردبيلية» منذ أيام مؤسسها صفي الدين المشهور، فإن الاتصال بين النسبين قد يفسر لنا الغابر بالحاضر، ويفسر لنا ميراث الشعور منذ القدم بين الأسرة والدولة العثمانية، أو دولة السلطان سليم على التخصيص.
فمن الثابت أن الشاه إسماعيل الصفوي قد نشأ - كما يقول مؤرخو الإفرنج - من «أسرة دراويش»، ينتسبون إلى بلدة أردبيل بأذربيجان ويرتفعون بعمود النسب إلى الإمام علي والسيدة الزهراء.
ومن الثابت أن الأسرة الصفوية من عهد مؤسسها كانت على دراية بتنظيم الجماعات السرية، وعلى أهبة لتجميع الجموع بالمحالفة والعصبية.
ومن الثابت أن النساك من زعماء الطريقة الأردبيلية كانوا يزورون دمشق وبيت المقدس، ويترددون على المدن في الطريق بين شمال فارس وبلاد الروم.
ويقول المؤرخ اللبناني المسيحي «شاهين مكاريوس» في كتابه الذي وضعه عن تاريخ إيران بإذن الشاه ناصر الدين: «إنها عائلة علماء أعلام وأئمة كرام وأصحاب تقوى يوقرهم الأنام.»
ثم يروي قصة قيام الدولة فيهم فيقول بعد الإشارة إلى الشيخ صفي الدين: «وكان لهذا الشيخ الفاضل أعوان يصدعون بأمره، وهو لا يأمر بغير الطيب والإحسان، وخلفه ابنه صدر الدين، وعقبه من الأولياء مشاهير مثل خواجه علي وجنيد وحيدر، ممن اشتهروا بالفضل والعلم والتقوى، وكان صدر الدين في أيام تيمور، وقد أخذ له مقرا في مدينة أردبيل من أعمال أذربيجان مثل أبيه، فزاره يوما هذا البطل العظيم، وسأله أن مر بما تريد أقضه في الحال. قال: أريد منك أن تطلق سبيل الأسرى الذين أتيت بهم من بلاد الأتراك. ففعل تيمور بإشارته، وحفظ الأتراك هذا الجميل لصدر الدين وعائلته، وكانوا بعدئذ هم السبب في توليتها الملك كما سيجيء. وليس في التاريخ ذكر أمر يدل على الإقرار بالجميل بعد مرور الأجيال مثل هذا الأمر، وأشهر ما يذكر عن خواجه على أنه حج إلى القدس الشريف ومات فيه وخلفه حفيده جنيد، فاجتمع لديه خلق كثير حتى خاف الأتراك شره، وحارب أحد رؤسائهم فاضطره إلى الفرار إلى ديار بكر حيث قابله حاكمها الأمير حسن بالإكرام وزوجه أخته، وقصد جنيد بعد ذلك بلاد شيروان فحاربه حاكمها وقتله، فخلفه السلطان حيدر، وكان أمير «أوزون» حسن حليفه فتقوى بنصرته على الأعداء، وصار بالتدريج حاكما على كل بلاد إيران في مدة السلطان أبي سعيد الذي مر ذكره، ومات فدفن في أردبيل، فخلفه ابنه السلطان علي، ولكن القلاقل كثرت في أيامه وظلت عائلة صفي الدين في خطر دائم، يوما تصعد إلى الأوج ويوما تنحط إلى الحضيض، حتى قام السلطان إسماعيل ابن السلطان علي، وملك البلاد، وهو في اعتبار المؤرخين أول ملوك الدولة الصفوية، ولا يعرف عن شاه إسماعيل في أيام صغره غير القليل، إلا أنه استلم قيادة الأعوان في الرابعة عشرة من عمره فحارب عدو عائلته حاكم شيروان وقتله، ثم هجم عليه الأتراك والتركمان من ناحية الأناضول ففرق شملهم وانتصر على كل أعدائه، فنودي به سلطانا على مملكة إيران وما يتبعها وهو في الخامسة عشرة من عمره.
Bog aan la aqoon