المعنى الأول:
معنى تجاهل هذه الأوضاع الداخلية وإبداء اهتمام ضئيل بها، ما دام النجاح الخارجي يحجب سوء الأوضاع في الداخل ويمتص أي سخط يمكن أن يترتب عليه.
المعنى الثاني:
الأقرب إلى المعنى الحرفي ، هو الإنفاق المتزايد على العمليات الخارجية من أموال كان الشعب في الداخل أحوج ما يكون إليها.
وأنا لا أنكر أن الحدود الفاصلة بين «السياسة الخارجية» و«السياسة الداخلية» مرنة ومطاطة إلى أبعد حد بحيث لا يكون من الصواب إيجاد فاصل قاطع بينهما، ولكن هذه الحقيقة هي ذاتها التي تدفعني إلى توجيه هذا المأخذ: فالسياسة الخارجية الناجحة لا بد أن ترتكز على جبهة داخلية قوية، وعلى قاعدة شعبية مؤمنة بها، وقادرة على الاضطلاع بأعبائها؛ لأنها حققت - على الأقل - حدا أدنى من طمأنينة العيش، ولكن المؤسف أن عدم التناسب بين الاهتمام الخارجي والاهتمام الداخلي بلغ حدا جعل هذه السياسة الخارجية الناجحة مفروضة «من أعلى» وليست مخططة ومرسومة بوصفها الحصيلة النهائية لموقف المجتمع ككل من مشكلات العالم الخارجي، ولو كانت الجبهة الداخلية التي تستند إليها تلك السياسة الخارجية - التي كانت وجهتها العامة سليمة بالفعل - أقوى مما هي عليه، لتغلبت تلك السياسة بسهولة على كثير من العقبات التي تراكمت عليها، وخاصة في النصف الأخير من فترة التجربة الناصرية.
أما بناء الجيش القوي، الذي كان واحدا من أهم الأهداف الستة لثورة 1952م فكان أمرا لا مفر منه إزاء التحدي الصهيوني الذي أثبت بعد عام 1956م أنه لم يلتهم فلسطين فحسب، بل أصبح يهدد كل بلد عربي ذي نزعة استقلالية داخل أرضه. ومن المؤسف حقا أن الأموال التي أنفقت في سبيل هذا الهدف، والجهود التي بذلها عسكريون مخلصون يفخر بها تاريخنا القومي، قد ضاعت هباء بسبب التفكك الذي أصاب القيادات العسكرية في ذلك الحين، والذي جعلها تبدد عرق الشعب المصري وماله الذي كان يعتصره من قوته الضروري، وتتركها تحت رحمة العدو كل عشر سنوات.
والواقع أنه في وسع الكاتب أن يتحدث في هذا الموضوع بمزيد من الرؤية الواضحة بعد حرب أكتوبر، التي كانت أول امتحان حقيقي لجيشنا وهو امتحان أثار نجاحه فيه دهشة العالم أجمع. ففي ضوء إنجازات هذه الحرب الأخيرة نستطيع أن ندرك فداحة الخسارة التي لحقت بوطننا وبجيشنا، في الحربين السابقتين؛ نتيجة لتفسخ القيادات واهتمامها بكل شيء ما عدا مهمتها الأصلية. والشيء الذي يدعو إلى الأسى هو أن هذا التفسخ كان معروفا للأجهزة التي كانت تحصي على المواطنين العاديين حركاتهم وسكناتهم، ومع ذلك لم يحاول أحد تدارك الأمر ووضع الجيش في أيد أمينة، جادة، تعلم أن رسالتها الحقيقية هي الحرب والدفاع عن الوطن، لا الإغراق في الملذات والدخول في مناورات ومؤامرات شخصية.
ولم تكن النتائج المترتبة على انحلال القيادات العسكرية متعلقة بأوضاع الجيش ذاته فحسب، بل لقد انعكست هذه النتائج بوضوح على السياسة الخارجية والداخلية معا.
ففي مجال السياسة الخارجية، كان إخفاق السند العسكري الذي لا غناء لهذه السياسة عنه مؤديا إلى انتكاسات أضاعت كثيرا من المكاسب التي تراكمت على مر السنين، وأوضح دليل على ذلك هزيمة يونيو 1967م وما أدت إليه من فقدان للهيبة وللمكانة الدولية، ومن ارتداد بالأهداف القومية إلى مستويات أدنى بكثير مما كانت تسعى إليه طوال السنوات السابقة.
وفي مجال السياسة الداخلية كانت كل هزيمة عسكرية تعني تبخر عصارة شقاء الإنسان المصري طوال سنوات عدة، وإلحاق هزيمة مماثلة بآمال هذا الإنسان في حياة أفضل، وقد كانت أحوال القيادات العسكرية خلال الفترة الناصرية ذات تأثير كبير في نجاح التجربة الاشتراكية أو إخفاقها، وكان من واجب اليساريين أن يتأملوا بإمعان ما في هذه الأحوال والأوضاع من سلبيات واضحة، انعكست آثارها على التجربة الاشتراكية إلى الحد الذي أدى إلى تشويهها ومسخ معالمها.
Bog aan la aqoon