قضى الرشيد ساعة في التردد حتى كاد يتقد غيظا، فخطر له أن يشاور امرأته زبيدة في الأمر على غير المألوف من شأن المرأة في ذلك العهد، ولكن الرشيد كان يحب زبيدة ويحترمها ويتبرك بمشورتها، ويعلم ما بينها وبين جعفر من العداوة القديمة. فلما خطر له ذلك أحس بارتياح عظيم، وكان الوقت نحو الغروب، فدعا مسرورا وأمره أن يهيئ له برذونا ليركب عليه خفية إلى قصرها (دار القرار) ولا يسير معه أحد سواه.
فأعد له البرذون فركبه وقد تلثم ومشى مسرور في ركابه، فلما أقبل على الدار لم يعرفه الحرس، ولكنهم عرفوا مسرورا ففتحوا له فدخل الحديقة، ثم ترجل الرشيد وأمر مسرورا أن يسبقه إلى زبيدة فيخبرها بمجيئه. فلما أخبرها أدركت أنه إنما جاءها في تلك الساعة لأمر هام، فخرجت لاستقباله في القاعة التي استقبلت فيها ابنها محمدا منذ أيام، وقد أضيئت فيها الشموع فزادتها بهاء. ولبست هي أفخر ثيابها وتطيبت واستقبلته أحسن استقبال، وعليها العقود من الجوهر، وفي رأسها الدبابيس المرصعة، وفي صدرها الحلي المنمقة على أشكال بديعة، حتى خفافها كانت مرصعة، كما علمت، وأقبلت ترحب به وتلاطفه. أما هو فمع شدة غضبه لم يتمالك عند رؤيتها من الابتسام، وجلس على السرير وأمسك بيدها وأجلسها إلى جانبه وهو يتشاغل بالنظر إلى ما عليها من أنواع الحلي، وقد زادها ضوء الشموع لمعانا ورونقا. أما هي فلحظت ما وراء ذلك الابتسام من الغيظ، ولكنها تجاهلت وعادت إلى الترحاب فقالت: «مرحبا بأمير المؤمنين. لقد آنسني بلقياه، وشرفني بمجيئه، فهل يأمر بطعام أو شراب؟»
فلم يسعه إلا أن قال: «لم آتك للطعام يا ابنة العم.»
فقالت وقد أبرقت عيناها تفرسا واستطلاعا: «لخير جئت إن شاء الله.» «وخرجت زبيدةلاستقبال الرشيد في القاعة التي استقبلت فيها ابنها محمدا منذ أيام، وقد أضيئت فيها الشموع فزادتها بهاء ...»
فمد يده إلى جيبه وأخرج الكتاب الذي جاءه من جاسوسه ودفعه إليها ولم يتكلم، فتناولته وقرأته وهو يراقب ما يبدو منها، فلما فرغت من قراءته أعادته إليه وهي تضحك، فقال لها: «أراك تضحكين كأنك لم تقرئي الكتاب؟»
قالت: «بلى، قرأته.»
قال: «لا أظنك تدركين ما ينطوي عليه إلا إذا أخبرتك بما ارتكبه هذا الفارسي؟»
فلما سمعت قوله ظنته اطلع على خبر العباسة، فتجاهلت وقالت: «وماذا ارتكب؟»
قال: «إنه أطلق سراح الرجل العلوي الذي لم نقبض عليه إلا بشق النفس، ولم نكد نتحقق أننا حبسناه واتقينا شره حتى عاد فأطلق سراحه! وأنت تعلمين من هذا الكتاب أن هذا العبد قد شمخ بأنفه حتى أصبح يهددنا. فمن يضمن أنه إذا سار إلى خراسان لا تحدثه نفسه بالتمرد فيعصانا وتخرج خراسان من أيدينا؟ فأشيري علي؛ فإني أتبرك بمشورتك.»
فضحكت زبيدة ضحكة يمازجها التهكم والاستخفاف. ولم يكن أحد من أهل الخافقين يجرؤ
Bog aan la aqoon