ومشى الرشيد حتى دخل القاعة وقد أضيئت فيها الشموع على مصابيح من الذهب، وفاحت روائح البخور والطيب، فتربع على السرير. ولم تمض برهة حتى أقبل الحاجب يخبره بمجيء جعفر، فقال له: «فليدخل. ليس على الوزير حجاب.»
فدخل جعفر وعليه القلنسوة والجبة على جاري عادته في مجيئه لمقابلة الخليفة، وهي ملابس العباسيين الرسمية، وكان جعفر خائفا من ذلك الطلب في آخر النهار؛ لعلمه بما يتوقعه من وشاية حساده به في أمر العباسة، بعد أن اطلع أبو العتاهية على سره، ورأى ابنيه مع والدتهما رأي العين. فلما دعاه مسرور إلى الرشيد أوجس خيفة، وسأل عما يريد منه، فقال: «لا أدري.» ولم يتوسم في وجه الرجل سوءا، ومع ذلك ركب في موكبه الحافل، وفيه جماعة من الفرسان الأشداء ممن يتفانون في نصرته، ودخلوا معه إلى الباب الرابع على غير المعتاد فيمن يدخل قصر الخلد من القادمين، إلا بني هاشم والوزير وأمثالهم من المقربين، فترجل جعفر وأقبل على دار الخاصة، ومسرور يسير بين يديه لا يتكلم.
الفصل الثامن والأربعون
المداجاة
فدخل الوزير تلك القاعة وهو يتكلف الابتسام، ويظهر الاطمئنان وقلبه يرتجف خوفا. فلما أقبل على الرشيد رحب به وابتسم له وقال: «ليتك جئتني بمثل ملابسي؛ فإن مجلسنا مجلس أنس.» ودعاه للجلوس بجانبه على السرير، فحياه وجلس متأدبا وقد سري عنه واطمأن باله. وجعلا يتطارحان الأحاديث والرشيد يحتفي به ويلاطفه، ومما قاله: «لقد دعوتك رغبة في أنسك؛ لأني شعرت بملل في أثناء النهار على أثر مقابلة ذلك الوفد الهندي.» وأقبل يقص عليه ما جاء به الوفد من السيوف القلعية والكلاب السيورية، وما كان من قوتها وفتكها بالأسد.
فأجابه جعفر: «ما زال قصر الخلد مصدر الأبهة والسؤدد، ولا زال أمير المؤمنين مؤيدا بنصر الله يتزلف له الملوك والسلاطين.»
والقارئ يعلم ما في قلب جعفر من الرشيد، وما يكتمه من الخوف من بطشه إذا اطلع على حاله مع العباسة، وما يعتزمه من النجاة بها إذا اطلع الرشيد على سرهما، فكانا يتداجيان وفي قلب كل منهما غل على صاحبه، وما زالا في ذلك حتى آن وقت العشاء، فمد السماط وقد أعدت عليه ألوان اللحوم والطيور والتوابل، وأنواع الفاكهة والرياحين، وأصناف البقول، ووقف الغلمان بأباريق الماء وأقداح الشراب، فجلسا يأكلان والرشيد يبالغ في إكرام جعفر حتى كان يقدم له الطعام من الصحاف، فيلقمه بيده،
1
ويناوله السنبوسجة بعد السنبوسجة، والتفاحة بعد التفاحة، ويبش له ويحادثه ويضحك لحديثه حتى تطرق إلى حكاية العلوي فقال له: «وماذا حدث لذلك العلوي الذي عهدت به إليك؟»
فقال جعفر: «هو على حاله يا أمير المؤمنين، لا يزال في الحبس كما أمرت.»
Bog aan la aqoon