فودعه ورجع وهو يتوهم أنه أغرى الفضل واستخدمه في مصلحته، والفضل يعتقد أنه استخدم ابن الهادي لغرضه؛ لأنه إذا سقط البرامكة عادت الوزارة إليه، ولم يخف عليه ما في نفس ابن الهادي على الرشيد، وأنه إنما يسعى في مصلحة نفسه لإرجاع الخلافة إليه؛ ولذلك كان يوهمه أنه يسعى في مساعدته على نيل الخلافة، على حين أنه كان يعمل على إرجاع الوزارة له، ولا يهمه أكانت وزارته للرشيد أو لسواه، فكانت النيات مختلفة، والدسائس متنوعة، والمساعي متضاربة، ولكن الغرض متفق فيها كلها؛ وهو إسقاط البرامكة بأية وسيلة كانت. وإذا أراد الله أمرا هيأ له أسبابه.
الفصل الثاني والأربعون
المناجاة
فلندع الفضل في مساعيه، ولنعد إلى الرشيد، فقد تركناه في الإيوان وحده، فلما خلا بنفسه ساءه خروج إسماعيل على تلك الصورة مع رفعة مقامه، وجلال قدره، فأخذ يفكر فيما دار بينهما، ويردد ما قاله له، فلم يجد في إمكانه أن يفعل غير ما فعله، فجعل يخطر في الإيوان جيئة وذهابا، وقد ذهب عنه الغضب وتراكمت عليه الهواجس، فتذكر حاله مع وزيره، وما بلغ إليه من نفوذ الكلمة عنده، حتى أصبح أكثر وجاهة ونفوذا من أبناء عمه، ثم عاد إلى صوابه، فرأى أنه مضطر لذلك ببواعث كثيرة؛ لأن الوزير قابض على مصالح الدولة يدير شئونها، ويتصرف في أعمالها بحكمة ودراية، وقد أراحه من مشاغلها، وخفف عنه أثقالها، فضلا عما بينهما من روابط الولاء والمحبة، وما لأبيه يحيى من الفضل عليه، وهو الذي أقامه على منصة الخلافة بحسن تدبيره. ثم اعترض حسن ظنه به ما يعلمه من ميله إلى الشيعة العلوية، وما يراه من كثرة الطاعنين عليه، ولكنه كان يحمل طعنهم عليه محمل الحسد منه.
وبينما هو يمشي في الغرفة ويفكر على هذه الصورة إذ لاحت منه التفاتة إلى السرير، فرأى القضيب الذي كان قد وضعه هناك، فتقدم ليتناوله ويتشاغل به في أثناء هواجسه ، فوقع نظره على بطاقة وراء الوسادة فالتقطها وفضها وقرأها، فإذا فيها الأبيات التي قرأتها أم جعفر زوجته على ابنها محمد، وقد تقدم ذكرها. فلما بلغ إلى قوله:
ونحن نخشى أنه وارث
ملكك إن غيبك اللحد
ولن يباهي العبد أربابه
إلا إذا ما بطر العبد
توارد الدم إلى رأسه وحمي غضبه، فأعاد النظر إلى البطاقة فقرأها ثانية وهو يعمل الفكرة، وقد نسي البحث عن سبب وضعها هناك لعظم ما كان من تأثيرها على ذهنه، فعاد إلى التفكير في جعفر، وما بلغ إليه من الثروة والاستبداد حتى يزوج بنات الخليفة، ويولي الأمصار لمن يشاء، ويهب الأموال بلا مشورة؛ لا يخشى بأسا، ولا يخاف اعتراضا، فقال في نفسه: «لقد آن لك يا هارون أن تستيقظ من نومك، وتنظر في أمر هذا المولى وما بلغ من تطاوله، فإنه لا يلبث أن يمد يده إلى أعظم من ذلك، والعياذ بالله!» ثم وثب من موقفه والقضيب مشهر بيده كأنه يهاجم عدوا وهو يقول:
Bog aan la aqoon