قال: «ألا تريدين أن تخبريني؟ إذن سأعرف كل شيء وحدي.» ونهض فخرج ...
ولم تستطع ميمي أن تكتم ما بنفسها، فحدثت أمه بما سألها عنه من خبر وردة، وتركتها تتصرف كما تشاء، على أن الأمر لم يحتج إلى تصرف من الأم أو سواها، فقد أراد طلبة أن يقف على جلية الخبر وأن يعرف من هذا الشاب الذي رآه خارجا معها من بيتها يوم عاد - أي طلبة - من الإسكندرية، وذهب إليها ليسلم عليها ويقدم لها الورود البيضاء التي تحبها وتؤثر جمالها على سواها من ضروب الزهر، وكان هو يهم بالنزول من الترام في محطته أمام بيتها، فلما رآها خارجة ومعها هذا الفتى الغريب الذي لم يره قط من قبل بقي على سلم الترام إلى المحطة التالية، ثم عاد إلى بيته، وما خير أن يذهب إليها وهي خارجة؟ ومع فتى؟
وكان طلبة ممن يؤمنون بأن الخط المستقيم أقرب المسافات بين نقطتين، فذهب إلى أبيها وسأله عن هذا الفتى من عسى أن يكون، وكان بين أسرة طلبة وأسرة وردة من الصلات الوثيقة القديمة ما يسمح له بمثل هذا الاستفسار الذي كان خليقا أن يعد - لولا ذلك - فضولا غير مقبول، وكانت وردة وحيدة أبيها، وقد ماتت أمها، فرق لبنته جدا ودللها تدليلا شديدا، فقال الأب: «هذا حسني ... خطيبها ... وعلى فكرة ... أظن أنه من الأوفق ... تعرف ما أعني ... ولا مؤاخذة.»
فهز طلبة رأسه وقال: «نعم أعرف ... يحسن بي أن أكف عن زيارتكم حتى لا أثير وساوس الخطيب ... ولكن يا عمي من عسى أن يكون هذا الخطيب؟ إنه طارئ ولا شك، فإني أعرف كل معارفكم، ولا أذكر أني رأيته أو سمعت به، وما غبت عنكم إلا خمسة عشر يوما، أفي خمسة عشر يوما يعرف وردة، ويخطبها وينتهي الأمر؟»
قال: «ولم لا؟ يوم واحد يكفي ما دمنا قد سألنا ووثقنا أنه شاب طيب حسن السيرة.»
قال: «وهل سألت يا عمي ووثقت؟»
فقال الرجل بلهجة المتأفف: «ما هذه الأسئلة؟»
فقال طلبة وهو ينهض: «أنا أعرف أنك لا تستطيع أن تكذب ... وأستطيع أن أعرف أنك لم تسأل ولم تستوثق، وإنما نابت عنك وردة في هذا كله ... مبارك على كل حال ... وأستودعكم الله.»
ومضت الأيام وطلبة يعزي نفسه بأن الخيرة في الواقع، وأن الزواج لا يكون مؤديا إلى السعادة إذا كانت الفتاة مدللة كوردة كل هذا التدليل، حتى لتخطب لنفسها من تشاء، ولا يسع أباها إلا الموافقة، وعاد - شيئا فشيئا أيضا - إلى ما كان يفكر فيه وهو عائد من الإسكندرية ويسأل نفسه عنه: «أي الفتاتين خير؟ واحدة نشأت على الطاعة والعفة أم أخرى مدللة تعرف حمامات البحر والخروج مع الرجال؟» وزاد السؤال تحديدا فجعله هكذا: «أيهما خير لمثلي: فتاة وديعة كميمي تحبني وتطيعني ولا تعرف سواي، أو تفكر في غير واجباتها لي وإن كانت تنقصها مظاهر الطراز الحديث؟ أو أخرى كوردة تخطب لنفسها من تشاء ولا يسع أباها إلا الموافقة؟»
وانتهى من هذا التفكير الجدي الرزين في ميمي إلى نهايته، ولم يخالجه شك في أن ميمي ستفرح حين تعلم أن رأيه استقر على الزواج منها، وقد خاطب أمه في الأمر ففرحت، وحدث أخته ففرحت، وكاد يحدث الخادمة، وفي يقينه أنها لا شك ستفرح؛ فقد ربيت - أي الخادمة - في بيته.
Bog aan la aqoon