(قال الفقيه) رحمه الله: روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب أي سعة، ومعاريض الكلام أن يتكلم الرجل بكلمة يظهر من نفسه شيئا ومراده شيء آخر. وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في قوله تعالى في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام قال: {لا تؤاخذني بما نسيت} قال: لم ينس موسى وإنما هو من معاريض كلامه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه كان إذا أراد سفرا ورى بغيره: يعني يظهر من نفسه أنه يريد الخروج إلى ناحية أخرى، وكان يقول: كيف الطريق إلى موضع كذا ثم كان يخرج إلى موضع آخر)) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((استعينوا على قضاء حوائجكم بكتمان السر فإن كل ذي نعمة محسود)) وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا أمر قومه بشيء فخالفوه في ذلك كان يرفع رأسه إلى السماء ويقول: اللهم ما كذبت ولا كذبت، فظنوا أنه سمع في ذلك شيئا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رخص في الكذب في ثلاثة أشياء: في الصلح بين الاثنين، وفي الحرب، وأن يرضي الرجل زوجته.
الباب الثالث والمائة: في الرسالة
(قال الفقيه) رحمه الله: إذا كتب الرجل الرسالة ينبغي له أن يختمها لأنه أبعد من الريبة، وعلى هذا جرى الرسم وبه جاء الأثر، وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: كرامة الكتاب ختمه. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال: أيما كتاب لم يكن مختما فهو أغلف. وعنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: أيما صحيفة ليست بمختومة فهي مغلوفة. وكان رسم المتقدمين أن الكاتب يبدأ بنفسه من فلان إلى فلان وبذلك جاءت الآثار. روي عن عمر أنه كان إذا كتب إلى خليفة بدأ بنفسه، وكان يكتب إلى عماله أن ابدءوا بأنفسكم. وروى وكيع عن ابن أبي داود عن عبد الله بن محمد بن سيرين أنه أراد سفرا فقال له أبوه محمد بن سيرين، إذا كتبت إلي كتابا فابدأ بنفسك فإنك إن بدأت بي لم أقرأ لك كتابا. وعن الربيع بن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صلى الله عليه وسلم وكان أصحابه إذا كتبوا إليه بدءوا بأنفسهم. وقال ابن سيرين إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أهل فارس إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم وكبرائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه ولو بدأ بالمكتوب إليه جاز لأن الأمة قد اجتمعت عليه برمتها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا تجتمع أمتي على الضلالة)) فلما اجتمعت الأمة على هذا ثبت أنهم قد فعلوا ذلك لمصلحة رأوا في ذلك فنسخ ما كان من قبل فقد وجدنا أن الآية تنسخ بإجماع الأمة على تركها كما في قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} فلما كانت الآية من كتاب الله تعالى تنسخ بإجماع الأمة فخبر الواحد أولى أن يترك بالإجماع. وروي عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يبدأ بالمكتوب إليه.
(قال الفقيه) رحمه الله : والأحسن في زماننا أن يبدأ بالمكتوب إليه ثم بنفسه لأن البداءة بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده أو غلام من غلمانه فيبدأ بنفسه، وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب لأن الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر، فكما أن رد السلام واجب فكذلك رد الجواب واجب. وروي عن ابن عباس أنه كان يرى رد جواب الكتاب واجبا كما يرى رد السلام وقال صلى الله عليه وسلم : ((تواصلوا بالكتاب ولو شطت الديار)).
Bogga 380