وأما الصدق والكذب: فقد ذكرناهما فيما تقدم من كتابنا هذا، وكذلك الحق والباطل، وقد أمر الله - عز وجل - باستعمال الحق والصدق، ووصف نفسه بهما فقال: {ومن أصدق من الله قيلا} وحديثا {فذلكم الله ربكم الحق}. وقال: {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون} و {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} ولو لم يكن في شرف الحق والصدق إلا أن جميع الأمم على كثرتها واختلاف طبائعها وهمتها تمدحهما، وسائر الناس إنما يقصدون بقولهم وفعلهم إصابتهما، فلا ترى أحدا إلا وهو [يحرص] أن يصدق في قوله، وأن يصيب الحق اعتقاده وفعله، حتى إن الكاذب إنما يكذب ليصدق على كذبه، فطلب الصدق قصده، ونيله بغيته، والمبطل إنما يقصد الحق فيخطئ في الوصول إليه، وطلب الحق قصده، وإن كان من المموهين على الناس، فإنما يزخرف لهم باطله حتى يقيمه مقام الحق الذي يقبل ويعمل به، وكفى بهذا فضيلة للحق والصدق، ولمن عرف بهما، ونسب إليهما، فإن الصادق المحق عظيم # المنزلة عند الله - عز وجل - وعند خلقه، والكاذب المبطل ساقط المحل عند الله - عز وجل - وعند خلقه. فالعاقل حري بلزوم شرف المنزلتين، وطلب أعلى الدرجتين إن شاء الله. ولما علم سبحانه أن الباطل والكذب قرينان مع طبائع كثير من عباده، ملائمان لشهواتهم، مطابقان لمداراتهم، وكان طول استماع الكذب ومعاشرة أهله مخوفين على إطلاق الناس، خليقين بأن يصيرا إعادة لهم على طول الملابسة نهى الله - سبحانه - عن القعود مع المبطلين كما نهى عن الخوض في الباطل وذم مستمعي الكذب، كما ذم الكاذبين فقال - عز وجل -: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم}، وقال في ذم قوم: {سماعون للكذب أكالون للسحت}.
وكقول الشاعر:
(فسامع القول كمن قاله ... ومعظم المأكول كالآكل)
وإنما أمر الله - عز وجل - الحكماء بذلك لما قدمناه من الاحتياط على الناس لئلا يصير ذلك عادة لهم، ولأن استماع الكذب، والصبر على معاشرة المبطلين على باطلهم رضا بذلك، ومن رضي بالباطل فهو مبطل، ومن قنع بالكذب فهو كاذب، [فعليه أن يتجنبهم] ويهرب من استماع كذبهم وباطلهم ما أمكنه ذلك، فإن اضطرته نفسه إلى حضور ذلك أو استماعه صدف عنه، ولم يرعه سمعه وكان كالغائب عنه، فإن ذلك أولى به في إصلاح أخلاقه وتأديب نفسه.
Bogga 218