بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله جاعل العلم حياة القلوب من الردى، ونور الأبصار من العمى، ورافع قدر العلماء بتفضيل مدادهم على دماء الشهداء (1) والشكر له على انتظامنا في عدادهم، أو مكثري سوادهم. وأفضل صلواته وأكمل تحياته على أهل علمه المخزون، وسره المكنون، حملة علم الكتاب: محمد وآله الأطهار الأطياب وبعد فيقول الراجي عفو ربه الغني محمد بن محمد تقي آل بحر العلوم الطباطبائي: إني - وإن كنت أول الأمر عند استقبال العمر لم أقصر في طلب العلوم حسب إمكاني، ولم يضع في غيره إلا القليل من زماني، فكم سهرت لتحصيلها طوال الليالي، واستخرجت بغوص الفكر في بحارها غوالي اللئالي، أجيل في مضاميرها سوابق أفكاري، وأصيب غوامضها بصوائب سهام أنظاري - لكني لم أحفظ بالتحرير ما استحصلته من
Bogga 9
الضياع، إذ كل علم ليس في القرطاس ضاع.
حتى إذا تألب (1) علي صروف الزمان، واختلف باختلاف أغراضي الجديدان (2) وولى من العمر أفضله، وأدبر مستقبله، وذهب بصري، فخفت أن يذهب - كذهاب عيني - أثري.
فهممت بتحرير بعض المسائل المهمة - لو ينفع بالشيخ الهم بذل الهمة - أخذا بقولهم - سلام الله عليهم -: (ما لا يدرك كله لا يترك كله) (3) والميسور لا يسقط بالمعسور (4).
قصرت أملي على من حضرني - على اختلاف معرفتهم واختلاف شؤونهم في تشتيت البال وكثرة المعوقات من الاشتغال -.
فحيثما عثرت على تعقيد في التعبير، أو سماجة (5) في التحرير فقد عرفت أمره وأسلفنا لك عذره.
وقد سميتها (بلغة الفقيه لما يرتجيه) رجاء أن يبلغنا الله تعالى بها مبالغ رضاه، ويجعلها من أحسن الوسائل يوم نلقاه.
فنقول:
Bogga 10
رسالة في الفرق بين الحق والحكم
Bogga 11
مسألة لما خفي الفرق على كثير بين الحق والحكم، والتبس الأمر بينهما، مع ابتناء كثير من الفروع الفقهية عليهما، والفرق في الحقوق بين ما يقبل النقل والاسقاط، وبين ما لا يقبلهما أو يقبل أحدهما دون الآخر.
أحببت أن أشير إلى الفرق بينهما بحسب المفهوم والحقيقة، وتحصيل ما هو الميزان الفارق بينهما والثمرات المترتبة عليهما، وميزان الفرق في الحقوق بين ما يسقط بالاسقاط وما لا يسقط به، وما تصح المعاملة عليه - مجانا - أو بعوض، وما لا تصح بهما أو بأحدهما، ومعرفة مصاديق الحكم أو الحق مما وقع الخلاف فيه، ومصاديق الحقوق القابلة للاسقاط والنقل وغير القابلة لهما أو لأحدهما، وحكم صورة الشك في كل من الأمرين بحسب ما تقتضيه الأصول والقواعد. فنقول - وبالله المستعان -:
أما الحكم: فهو جعل بالتكليف أو بالوضع، متعلق بفعل الانسان من حيث المنع عنه والرخصة فيه، أو ترتب الأثر عليه. فجعل الرخصة - مثلا - حكم، والشخص مورده ومحله، وفعله موضوعه. وهو لا يسقط بالاسقاط، ولا ينقل بالنواقل - بالبديهة - لأن أمر الحكم بيد الحاكم لا بيد المحكوم عليه. نعم، لو كان معلقا على موضوع، وكان داخلا فيه، كان له الخروج عنه، فيسقط به - حينئذ - لا بالاسقاط.
وأما الحق فهو يطلق - مرة - في مقابل الملك، وأخرى - ما يرادفه.
وهو - بمعنييه -: سلطنة مجعولة للانسان من حيث هو على غيره ولو بالاعتبار: من مال أو شخص أو هما معا، كالعين المستأجرة، فإن للمستأجر سلطنة على المؤجر في ماله الخاص.
Bogga 13
وهو أضعف من مرتبة الملك، أو أول مرتبة من مراتبه المختلفة في الشدة والضعف.
وله طرفان: أحدهما - طرف النسبة والإضافة، ويعبر عن المنسوب إليه بصاحب السلطنة، وذي السلطان، والآخر - طرف التعلق، ويعبر عن متعلقة بالمسلط عليه.
وهو: قد يكون مستقلا بنفسه كحق التحجير، وقد لا يكون مستقلا بنفسه، بل متقوم بغيره كحق المجني عليه على الجاني، وحق القصاص، فهو كالملك الذي قد يكون متعلقة مستقلا، وقد لا يكون كالكلي في الذمة وقد يتحدان في المورد، وإنما يختلفان بالاعتبار كسلطنة الانسان على نفسه ولذا قبل: (الانسان أملك بنفسه من غيره). ومنه قوله تعالى - حكاية عن كليمة -: (إني لا أملك إلا نفسي وأخي) (1) فما به التعلق عين ما إليه الإضافة، وإنما يختلف بالاعتبار.
ومن فروع هذه السلطنة: تملكه للمباح الأصلي والعرضي بالحيازة، الذي مرجعه إلى حصول الربط بها بين الحائز والمحوز، وارجاع أمر المال إلى نفسه، وجعل نفسه في وثاق المال وبعهدته، بحيث لو كان مما يجب عليه الانفاق وكسوته وحفظة لاحترامه، كان أولى به، فتعلق المال بالمالك معنى له طرفان: الغنم، والغرم، وأولويته به ليس في خصوص النفع وكل ذلك من فعل نفسه بنفسه، وليس إلا لسلطنته عليها، ومنه يظهر الوجه في توقف نفوذ التمليكات المجانية كالهبة والوصية على قبول المتهب والموصى له، لأن المالك لا سلطنة له على غيره حتى يدخل المال في ملكه قهرا عليه، وإلا لكان من الايقاعات لا من العقود. نعم، له التمليك
Bogga 14
لأنه من آثار سلطنته على ماله.
وأما التملك، فمن آثار سلطنة المتملك على نفسه. فالسلطنة المجعولة حق، وصاحبها مالك، وذو سلطان، وإن كان جعلها له حكما.
وكذا الآثار العارضة لها والمتعلقة بنفسها بحيث تكون نسبتها إليها نسبة العارض إلى المعروض، فيكون الحق موضوعا لذلك الحكم، دون ما كان منتزعا منها، بحيث تعد من شعبها وتطوراتها، فإنها من الحقوق أيضا.
وهنا كثيرا ما يقع الاشتباه بين القسمين من الآثار في المصداق وأنه من العوارض على السلطنة أو من شعبها..
ثم الاسقاط الذي مرجعه إلى العفو: عبارة عن قطع طرف التعلق عن متعلقه، ومورده الانسان، ويشبهه في الأعيان الأعراض، بناء على خروج المعرض عنه عن الملك وعوده إلى الإباحة الأصلية، وإلا - كما هو المقرر في محله من عدم الخروج به عنه كما هو المشهور - انحصر مورده بالحقوق المتعلقة بالانسان، ولو في ماله، بناء على ما هو الحق: من أن أولوية السبق في المساجد والمدارس والخانات والرباطات والقناطر والطرق النافذة، ونحو ذلك من الأحكام التي تنتفي بانتفاء موضوعها بالاعراض عن المحل، وهو التزاحم الذي هو موضوع المنع والحرمة، لا من الحقوق التي تسقط بالاعراض.
ولعلك تقف على توضيح ذلك في بيان المصاديق المشتبهة بينهما.
والنقل: هو تحويل طرف الإضافة منه إلى غيره: بعوض، أو مجانا فكل من النقل والاسقاط من عوارض السلطنة وأحكامها.
ثم الحق قد يضاف إليه تعالى، فيكون متعلقه ما سواه من الممكن، وسلطنته عليه من أتم مراتب السلطنة وأكملها، لأنه سلطنة عليه بالايجاد والربوبية، ضرورة افتقار الممكن في تحققه إلى الواجب، لعدم الاستقلالية
Bogga 15
له في الوجود.
ومن فروع هذه السلطنة وحقه على الممكن أن يعبد ويوحد.
ومن رشحاتها: ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) على المؤمنين (1) وهي - وإن لم تكن من سنخ سلطنة الله تعالى - إلا أنها سلطنة عنه تعالى بالاستخلاف.
وولاية خلفائه الطاهرين، ونوابهم المجتهدين.
فهي في طول سلطنة الله على خلقه. ولذا كان النبي - صلى الله عليه وآله - خليفته في أرضه والأئمة خلفاءه في أمته، والعلماء نوابهم في شيعتهم.
وهي أقوى وأشد وأولى وأكمل من سلطنة الانسان على نفسه مع كونها في غاية الشدة والكمال، لأن منشأ انتزاعها هو كون الشئ نفسه.
والى السلطنتين وأكملية الأولى من الثانية أشار (صلى الله عليه وآله) في قوله بغدير خم: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ثم جعلها بعد الاعتراف منهم توطئة لبيان ولاية علي عليه السلام، فقال: - بعده -: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه) (2) فولايته على الأمة التي هي بمعنى الأولوية بالتصرف: مشتقة من أولوية النبي (صلى الله عليه وآله) المشتقة من سلطنته تعالى على خلقه.
ثم إن الحق - بما هو حق - يختلف بحسب اختلافه في سقوطه بالاسقاط، وعدمه، ونقله إلى غيره مجانا أو بعوض، وعدمه، وانتقاله قهرا بالإرث، وعدمه - إلى أنحاء شتى:
Bogga 16
منها - ما لا يجوز عليه شئ من ذلك، فلا يسقط بالاسقاط، ولا ينقل بالنواقل، ولا ينتقل بالإرث ونحوه: كحق الأبوة، وولاية الحاكم وحق الاستمتاع بالزوجة للزوج، وحق الجار على جاره، والمؤمن على أخيه: فإنها حقوق لأربابها لا تسقط، ولا تنتقل إلى غيرهم بوجه من الوجوه.
ومنها - ما يجوز فيه كل ذلك، كحق الخيار، وحق القصاص، وحق الرهانة، وحق التحجير، وحق الشرط المطلق.
ومنها - ما يسقط بالاسقاط، ولا ينقل ولا ينتقل، كحق الغيبة، والايذاء بضرب أو شتم أو إهانة أو نحو ذلك - بناء على كونه حقا - ولذا يجب الاستحلال منه، ولا يكتفى بالتوبة في التخلص عنه (1).
ومنها - ما يسقط بالاسقاط، وينتقل بالإرث - على قول - ولا ينقل بالنواقل كحق الشفعة للشريك المسبب عن بيع شريكه.
ومنها - ما ينقل - مجانا لا بعوض - كحق القسم بين الزوجات بناء على عدم مقابلته بالأعواض.
ومنها - المصاديق المشتبهة بين كونها حكما أو حقا.
وإن وقع الخلاف في ذلك في بعض ما تقدم - أيضا - كحق الرجوع في المطلقة الرجعية وحق السبق في المسجد، والأوقاف العامة، والطرق النافذة ومنشأ هذا الاختلاف: هو إن الموجب للحق: إما أن يكون علة تامة، فيستحيل انفكاكه عنه بسقوط أو انتقال، لاستحالة تخلف المعلول عن علته التامة، كولاية الآباء والأقارب، والحاكم، ومنصوبه. والعزال
Bogga 17
المنصوب بالعزل اخراج له عن الموضوع، لا إسقاط للحق مع بقاء.
منشأ انتزاعه.
وإما أن يكون من قبيل المقتضى فيمكن فيه التخلف بحسب ما يوجبه من السقوط أو النقل أو الانتقال، إلا إذا كان المنع عنه من جهة قصور في كيفيته بحسب الجعل، كأن يكون الحق متقوما بشخص خاص أو عنوان خاص، كحق التولية في الوقف إلى المتولي الخاص أو الحاكم، فلا يجوز العدول إلى غير المجعول له بجعل الواقف من الشخص أو أفراد عنوان آخر وكذا حق الوصاية المجعول من الموصي لشخص خاص من حيث هو هو، أو كان مختصا له بالشرط، كحق الخيار المجعول لصاحبه بشرط مباشرته للفسخ بنفسه. فإن أمثال هذه الحقوق إنما هي متقومة بذوات مخصوصة أو عناوين خاصة، فلا تنتقل إلى غيرها لعدم التقوم إلا بها، وإن جاز إسقاطها لعدم كون الموجب لها من العلة التامة.
فتلخص مما ذكرنا: أن الحق: إن كان موجبه علة تامة له، امتنع انفكاكه عنه مطلقا من غير فرق بين السقوط بالاسقاط، والنقل بالنواقل والانتقال القهري بالإرث.
وإن كان من قبيل المقتضى له، وكان مختصا ومتقوما بشخص خاص، فهو، وإن جاز سقوطه بالاسقاط لكونه مالكا، وليس الموجب علة تامة حتى يلزم التخلف المستحيل، إلا أنه لا يجوز نقله لمنافاته الاختصاص المجعول بالأصل أو بالعارض بشرط ونحوه.
وإن لم يكن كذلك بأن لم يكن الموجب علة تامة، ولا الحق مختصا ومتقوما بشخص خاص، جاز إسقاطه ونقله وانتقاله، لوجود المقتضي، وهو كونه مالكا للحق، وعدم المانع من علية الموجب له أو الاختصاص بما يوجب الخصوصية، كحق الخيار المطلق الذي يجوز إسقاطه ونقله وانتقاله.
Bogga 18
هذا، واستفادة ما يتميز به الحكم من الحق وكيفية الحق من بين سائر الحقوق من الموازين المتقدمة، إنما هي من الأدلة بحسب ما يستفيده الفقيه منها، لا ما قيل في إثبات ذلك بالرجوع إلى ثبوت الآثار وعدمه من النقل والسقوط، لأن ذلك - مع كونه مستلزما للدور - غير مطرد، ضرورة أن الحكم مما لا يسقط ولا ينقل، لا كل ما لا يسقط ولا ينقل كان حكما، فإن الحقوق بعضها كالأحكام لا يسقط بالاسقاط ولا ينقل بالنواقل - كما عرفت -.
نعم، لو دل الدليل على السقوط أو الانتقال أفاد كونه حقا، لأن الأحكام بأسرها لا تقبل شيئا من ذلك. وحيثما شك في شئ من ذلك كان المرجع فيه إلى ما تقتضيه الأصول والقواعد. فلو شك في شئ بين كونه حكما أو حقا نفي كل أثر وجودي مترتب على كل منهما بالأصل، فلا يبنى على السقوط بالاسقاط، ولا على الانتقال بالنواقل، لابتناء ذلك على إحراز كونه حقا، ويكفي الشك فيه، فضلا عن كون مقتضى الأصل عدمه، وإن لم يثبت بذلك كونه حكما، لأنه من الأصل المثبت. وكذا لو شك في قابلية إسقاط الحق ونقله بعد إحراز كونه حقا، للشك في علية الموجب وعدمها، أو في اعتبار ما يوجب الاختصاص وعدمه، وإن أحرز كون الموجب مقتضيا، فإنه لا يترتب عليه شئ مما يتوقف ترتبه على إحراز القابلية - أولا - نعم، يجوز التمسك بالعمومات بعد إحراز الصدق العرفي والقابلية العرفية عند الشك في القابلية الشرعية المنبعث عن الشك في تخطئة الشارع لما هو عند العرف، أو تصرف منه فيه باعتبار شئ فيه، أو مانعية شئ عنه. فيدفع بالعمومات المتوجهة نحوهم الدالة على إمضاء ما هو المتعارف عندهم. إلا أن ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لمعلومية اختلاف الحقوق شرعا في جواز الاسقاط وعدمه، وجواز النقل وعدمه. وإنما الشك في اندراج المشكوك في أي قسم منهما مصداقا، وبالعموم لا يتميز المصداق - قطعا -.
Bogga 19
إذا عرفت ذلك، فلنذكر المصاديق المشتبهة بين كونها حقا أو حكما والحق من بين سائر الحقوق:
فمنها - جواز الرجوع في المطلقة الرجعية.
فقد ذهب المحقق القمي - قدس سره - وتبعه بعض من تأخر عنه - إلى كونه حقا يجوز الصلح عليه، مستدلا بعمومات أدلة الصلح التي منها:
(الصلح جائز بين المسلمين) (1) أي: نافذ، من: جاز السهم:
إذا نفذ.
وأنت خبير بما فيه، لأن الشك فيه: إن كان للشك في كونه حكما أو حقا، فهو من الشبهات المصداقية التي لا يجوز فيها التمسك بالعمومات - قطعا - وإن كان للشك في كونه من الحقوق التي تنقل بالصلح أولا تنقل بعد البناء على كونه حقا - فمرجع الشك فيه إلى الشك في القابلية التي لا يتمسك لاثباتها بالعمومات - أيضا - اللهم إلا أن يجاب عن تمسكه بها - بعد البناء منه على كونه حقا كما هو صريح عبارته في كتابه (أجوبة
Bogga 20
المسائل) (1) بإرادة جواز وقوع الصلح عليه، بمعنى سقوط حق الرجوع الثابت للزوج بالصلح عليه، لا نقله به منه إلى غيره، حتى يقال فيه:
من المحتمل أنه من الحقوق المتقومة بالزوج ومختص به، فلا ينتقل إلى غيره، بل هو من الصلح الواقع في مورد الاسقاط والابراء، مع منع كون الموجب له علة تامة، حتى يمنع عن ذلك أيضا، فيكون الشك في نفوذ الصلح المتضمن للسقوط وعدمه من الشك في التخصيص الذي يرجع فيه إلى العموم، دون الشك في التخصص.
نعم، تبقى المناقشة معه في كونه حقا، بل الظاهر أنه من الأحكام لا من الحقوق توضيح ذلك: أن المطلقة إن كانت زوجة - بعد - كما يعطيه صدق (وبعولتهن) الظاهر في الاتصاف الفعلي، وترتب أحكام الزوجية الظاهر في كونها زوجة حقيقة، فمرجعه إلى ضعف سبب الفرقة وهو الطلاق وأنه لم يؤثر قطع علقة الزوجية بالكلية، فالقدرة على الرجوع من آثار بقاء علقة الزوجية التي مرجعها إلى إبقاء تلك العلقة وإرجاعها كما كانت، وكما أن قطع العلقة بمعنى فكها عن الزوجية بيده، كالعتق في فك الملك بيد المالك فكذلك إبقاؤها على الزوجية. فكل من الامساك والتسريح بيد الزوج ومن أحكام سلطنته على الزوجة، لأنها من عوارضها المتعلقة بها، فيكون الرجوع في العدة للزوج من قبيل جواز الرجوع في العقود الجائزة الذي هو من الأحكام، لكونه من آثار علقة الملكية السابقة، بناء على ضعف سببية العقد الجائز في قطع علاقة الملكية.
وإن قلنا بخروجها عن الزوجية بالطلاق، وإن ترتب عليها حكم
Bogga 21
الزوجة - تعبدا - كما يشعر به قوله تعالى: (.. أحق بردهن) (1) لظهور الرد في الرجوع بعد الخروج. غير أنه تحدث للزوج سلطنة جديدة على إرجاعها وابطال سببية الطلاق للفرقة. كما تحدث لذي الخيار سلطنة على فسخ العقد اللازم، وأن زمان العدة - نظير ثلاثة أيام لخيار الحيوان - كان حقا، لا حكما، كحق الخيار في العقود اللازمة. وحيث أن المستفاد من الأخبار، وكلمات علمائنا الأخيار: أنها زوجة - حقيقة - لا حكما تعبديا، وإن علقة الزوجية باقية، لا جرم اتجه كونه حكما، لاحقا، فلا يسقط بالاسقاط، ولا ينقل بالنواقل.
هذا، وقد حكى المحقق المتقدم عن بعض معاصريه: أن أثر الصلح مع الزوج على حق الرجوع ليس إلا الحرمة التكليفية، وإلا فلو رجع بعده نفذ رجوعه في إبطال الطلاق. وتعجب من ذلك غاية العجب.
قلت: وتعجبه في محله إن أراد تأثير الرجوع بعد سقوط حقه بالصلح عليه، إذ لا حق بالفرض حتى يرجع به. ولكن من المحتمل - قويا - أن يريد بوقوع الصلح كون المصالح عليه ترك الرجوع ونفس عدم الفعل الذي مرجعه إلى مجرد الالتزام بعدم استيفاء حقه، لا سقوط الحقية من أصله.
وعليه، فله وجه وجيه يتمسك على صحته بعموم أدلة الصلح بناء على الأقوى من كونه عقدا مستقلا إن كان المصالح عليه نفس الترك ومجرد عدم الرجوع، لا نفس جوازه الذي هو حكم الحق وأثر من آثاره، لما عرفت من أن الحكم لا يسقط ولا ينقل لأن أمره بيد الحاكم، بل ويجوز
Bogga 22
الصلح على هذه الكيفية، حتى لو قلنا بأن حق الرجوع في العدة من الأحكام لا من الحقوق، لأن المصالح عليه بالفرض نفس الترك وعدم الرجوع، لا الحكم بجوازه.
فلا فرق في الصلح على هذا التقرير بين كونه مصداقا للحق أو للحكم، غير أنه على التقديرين ينفذ رجوعه لو رجع بها، وإن أثم به، إلا أن الغالب وقوع الصلح في أمثال المقام لئلا يتمكن من الرجوع بحيث لا ينفذ رجوعه لو رجع، وهو لا يتم إلا بالصلح على الحق، لا مجرد عدم الرجوع مع بقاء الحق، فافهم.
ومنها - الخيارات، فإنها من الحقوق - قطعا - لكونها سلطنة مجعولة بأحد أسبابها للمتعاقدين أو الأجنبي على إبطال العقد اللازم وحله، وموردها العقود اللازمة، وإلا فالعقد الجائز لا خيار فيه ما دام جائزا، إلا إذا عرض عليه اللزوم بسبب، فيؤثر - حينئذ - سبب الخيار فيه خيارا.
وكيف كان، فالظاهر جواز المعاوضة عليه بما يوجب نقله، فضلا عن سقوطه لعمومات أدلة المعاوضة، مضافا إلى عموم (أوفوا بالعقود) (1) بعد إحراز القابلية بما دل على سقوطه بالاسقاط وانتقاله بالإرث الكاشفين عن عدم كون الموجب له علة تامة، وعدم كون الحق متقوما بذاته من حيث هو ذاته، وإلا لم يكن لينتقل عنه بالإرث.
ومنها - الأولوية بالسبق في المساجد والمدارس والقناطر والرباطات والطرق النافذة، ونحو ذلك من الحقوق الراجعة إلى عموم الناس أو المتلبس بعنوان منهم. فالذي يظهر من كثير منهم أنه من الحقوق، ولعله نظرا إلى إطلاق الحق عليه في حديث: (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد كان
Bogga 23
أحق به) وفي آخر: (كان له) بدل قوله (أحق به) (1) بناء على ظهور اللام فيه.
ويحتمل - قويا، بل لعله الأقوى - كونها من الأحكام، بمعنى تحريم مزاحمة السابق فيما سبق إليه مما له فيه حق بجعل الواقف الذي هو وغيره فيه شرع - سواء بذلك الجعل، ضرورة أن الواقف لم يجعله وقفا على السابق منهم حتى يختص به هو دون غيره، ولا أحدث السابق حقا جديدا له وراء ما جعل له الواقف حتى يكون له حقان: استحق أحدهما بالوقف كغيره، والآخر استحقه بالسبق دون غيره، فيسقط هو بالاعراض عنه دون المجعول بالوقف، بل السبق سبب لحرمة مزاحمته فيه ومدافعته عنه مطلقا. ولو كان المزاحم من مصاديق عنوان الموقوف عليه، فتقديم السابق في تزاحم الحقوق كتقديم الأهم في تزاحم الواجبات في كونه من الأحكام. فبالاعراض عن المحل يرتفع التزاحم الذي هو موضوع الحكم بالتحريم، بل لعله يشعر به التعبير بالأحق في الحديث، والزيادة لاختصاص الاستيفاء، واللام لمطلق الاختصاص.
وإن أبيت إلا عن كونه حقا، كما لعله المشهور أو الأشهر بتقريب أن السبق يوجب تعيين العنوان الكلي في المصداق الخاص ما دام سابقا وشاغلا للمحل أو غير معرض عنه كتعيين مصداق المالك بالقبض في الخمس والزكاة من السادة والفقراء، فليس - هناك - للسابق إلا الحق المجعول بالوقف للعنوان أو الجهة المتعين له بالسبق، فيكون - حينئذ - من الحقوق، لا من الأحكام، فتظهر الثمرة.
مع أنه على القولين - يسقط بالاعراض، ولا ينقل ولا يورث فيما
Bogga 24
لو زوحم ودفع عن المحل كان المزاحم غاصبا، وصحة الصلاة فيه مبنية على مسألة اجتماع الأمر والنهي (1) بناء على كونه حقا، وأما على كونه حكما، فيصح تصرفه فيه، لأنه من التصرف في حقه بجعل الواقف، وإن فعل محرما بدفع السابق عنه، بل لعله ينعكس الأمر بعده، فيحرم على المدفوع مزاحمة الدافع. ولو تنزلنا وقلنا ببقاء الحرمة ما لم يعرض المدفوع عنه، فصحة الصلاة فيه - حينئذ - مبنية على مسألة الضد (2) لا مسألة اجتماع الأمر والنهي. فافهم.
ومنها - جواز الصلح على حق الدعوى ونفوذه. قال في (القواعد):
(لو صالح الأجنبي المدعي لنفسه ليكون المطالبة له، صح - دينا كانت الدعوى أو عينا). (3)
Bogga 25
قلت: الصلح مع المدعي: إما أن يكون من الأجنبي لنفسه.
أو من المدعى عليه. وعلى التقديرين، فإما أن يكون الصلح على المدعى به، أو على مجرد حق الدعوى لأنه من الحقوق لا من الأحكام، فإن كان على المدعى به - وكان من الأجنبي - انتقل إليه حق الدعوى، تبعا لما انتقل إليه بالصلح من المدعى به - عينا كان أو دينا - وإن كان من المدعى عليه، سقط الحق عنه، لأنه لا يملك على نفسه، وينتقل إليه المدعى به إن كان عينا ولم يكن له في الواقع مع فرض صحة الصلح منه. وإن كان على حق الدعوى مجردا عن المدعى به، فالظاهر بطلان الصلح وعدم نفوذه لعدم استقلالية هذا الحق لنفسه حتى يصح الصلح عليه، ضرورة كونه منتزعا من الحق المدعى به ومسببا عنه، دائرا مداره وجودا وعدما، فلا استقلالية له في الوجود: بل وجوده وجود عرضي يتحقق بوجود معروضة. كيف، وما كان كذلك يستحيل تفكيكه عنه ونقله بالصلح، لأنه من تخلف المعلول عن علته التامة، وهو الوجه في عدم جواز الصلح عليه مجردا، إلا ما قيل: من أنه لو صالح عليه وأثبت المدعى به ليس له أخذه، لأنه لم يصالح عليه حتى يجاب عنه - كما في جامع الكركي - بأنه بالصلح يقوم مقام المدعي في أخذ المدعى به بعد اثباته (1).
Bogga 26
هذا، ولكن الأظهر بطلان الصلح على المدعى به قبل اثباته لأنه محكوم ظاهرا بملكيته للمدعى عليه، وهو مستلزم لبطلان الصلح عليه ظاهرا لأنه من الصلح على مال الغير شرعا، وهو باطل. فمرجع الصلح - حينئذ - ليس إلا الصلح عن حق الدعوى الذي يكفي في ثبوته احتمال صحته، وانتقاله إليه بهذا المعنى مستلزم لانتقال متعلقه في الواقع إن كان له ليقوم الاحتمال في حقه أيضا، تصحيحا للمعاملة، وإن لم يكن له فالمصالح عليه هو نفس هذا الحق المنتزع من احتمال كون متعلقه له.
ولعله مراد (الكركي) في الجواب، بأنه بالصلح يقوم مقام المدعي في أخذ المدعى به بعد إثباته، وإلا فكيف يستحق المدعى به بعد الاثبات مع أنه لم يجر الصلح عليه؟.
وكيف كان، فالصلح يبطل إن وقع عن المدعى به - فقط - وكذا إن وقع عن حق الدعوى بشرط التجرد عنه، وإنما يصح لو جرى على حق الدعوى - لا بشرط - هذا، ولو جرى الصلح على نفس ترك الدعوى دون حقها لم يسقط حقه وكانت دعواه مسموعة، وإن وجب عليه الترك. ولكن، هل يجوز له أن ينقله إلى غيره، فيطالب الغير به؟ الأقرب ذلك، لعدم منافاته لما التزم به بالصلح من عدم المطالبة - بنفسه أو بوكيله. ولو مات انتقل الحق إلى وارثه فله المطالبة به لعدم التزامه بما التزم به مورثه، ولو مات من كان عليه الدعوى - في الفرض - فله المطالبة من وارثه لأنه غير من التزم له بتركها إن وقع الصلح على ترك مطالبته، وإن وقع على ترك الدعوى على العين استمر المنع إلى ما بعد الموت - أيضا - لأن الملتزم به ترك الدعوى على العين لا على من كانت بيده، بخلاف الأول، ومثله يجري التفصيل بين الاطلاق والتقييد فيما لو نقل العين إلى غيره، فافهم.
ومنها - حق اليمين، فإنه من الحقوق التي يصح الصلح عليها حيث
Bogga 27
ما يستحق الاحلاف فيكون مفاد الصلح عليه هو الاسقاط.
ومنها - حق الغيبة، وسائر أنواع الإهانة لأخيه المؤمن مما يوجب إدخال النقص عليه فإنها تسقط بالاستحلال لو أسقط، ولا ينقل ولا يورث. فالذي يترائى - في بادئ النظر أن هذه الأفعال من الغيبة والشتم والايذاء ونحو ذلك، أسباب توجب حدوث حق جديد للمغتاب ونحوه.
ولكن في الحقيقة ليس الأمر كذلك، بل هي متلفات للحق الثابت له بأصل الشرع، فهي من تضييع الحق وإتلافه، وليس عليه إلا ما ضيعه من الحق التالف.
توضيح ذلك: إن للمؤمن - أو المسلم - حقوقا على أخيه، منها واجبة ومنها مندوبة. ومن الأول احترام عرضه، فإنه حق له مستمر على أخيه المسلم واحترام ماله من احترام نفسه. ولذا من لا حرمة له في نفسه لا حرمة لماله، كالحربي الذي يملك ماله، ولذا كان مكلفا بالعبادات المالية كالخمس والزكاة، وإن لم يصح منه إلا بالاسلام، غير أنه يجوز لنا مزاحمته في ماله، لعدم احترامه. والمسلم، وإن كان ماله محترما، إلا أن زمام احترام ماله بيده، فله إسقاطه لعدم منافاته لاحترام نفسه، ولا كذلك احترام عرضه، فليس بيده زمامه حتى يسقط باسقاطه. ولذا لا تحل غيبة من جعل الناس في حل من غيبته، وحرمة عرضه مستلزمة لتحريم كل ما يلزم منه عدمها، لأنها موجب لاتلاف حقه وتضييعه وعليه بدل التالف لا حق جديد، ووجوب الاستحلال مع عدم المحذور - لو قلنا به - فإنما هو للتخلص عن ضمان البدل الأخروي من تحل ذنوبه أو تحويل حسناته إليه، كما ورد في بعض الأخبار، وهو أمر آخر، مع أنه يحتمل أن يكون ذلك كله أصلا وفرعا من الأحكام، وإن أطلق عليها لفظ الحق فتأمل:
ومنها - حق الشفعة الذي دل الاجماع - بقسميه - والسنة المستفيضة
Bogga 28
بل المتواترة معنى - على ثبوته للشريك ببيع شريكه حصته، فله سلطنة انتزاع المبيع - قهرا - من المشتري بنفسه، وهو يسقط بالاسقاط، اجماعا من المسلمين لكونه رخصة، لا عزيمة، شرع ارفاقا للشفيع بدفع ضرر الشركة عن نفسه، ولعدم كون الموجب له علة تامة، وينتقل بالإرث على الأشهر - بل المشهور - للاجماع المحكي نصا وظاهرا، المعتضد بالشهرة العظيمة، وللنبوي المنجبر: (ما ترك الميت من حق فلوارثه) (1) المؤيد بعمومات أدلة الإرث، كتابا وسنة.
وأما نقله بمعنى تحويله منه إلى غيره، فلم أعثر على من جوزه، بل الظاهر، اتفاقهم على عدمه، من غير فرق بين نقله مستقلا أو منضما إلى حصته.
وفي سقوطه ببيع حصته، فللمشتري الشفعة فيه أو بقاؤه للأصل مع كون الشركة علة الحدوث دون البقاء - وجهان: ولعل الأول هو الأقوى نعم يصح الصلح المتضمن للاسقاط عليه مطلقا، ولو من الأجنبي فيسقط بمجرده من دون حاجة إلى إنشاء الاسقاط، إلا إذا صالحه على نفس الاسقاط فيجب عليه فعله، ولا يسقط بدونه، ولكن، لو تركه وأخذ بحقه، ملكه، وإن أثم بالترك. ومثله ما لو وقع الصلح على مجرد ترك استيفاء الحق دون نفس الحق، فله استيفاؤه لبقاء الحق بالفرض، وإن أثم به.
اللهم إلا أن أن تدعى الملازمة بين السقوط والالتزام بعدم الاستيفاء ولكنه على عهدة مدعيها.
نعم يبقى هنا سؤال الفرق بين الانتقال القهري بالإرث والنقل الاختياري إلى الأجنبي بأحد النواقل منضما معه حصته - أيضا - كي ينتقل
Bogga 29