وواضح أن اختفاء ما هو جيد - في هذا القول - إنما هو اختفاء تقديرا له وإعزازا به وصونا له من أن ينزل في دوامة الأسواق، فإذا نحن انتقلنا بالصورة إلى رجالنا من العلماء والعاملين، وقلنا عنهم إن من هم على جهالة وبطالة يظهرون في الحياة العامة، طاردين أولئك العلماء والعاملين من السوق، فليس ذلك الطرد من أجل أن يعززوا ويكرموا ويصانوا، بل هم يزاحون من مسرح الحياة ليدفنوا أحياء، حتى لا يبقى أمام الناس إلا العاجزون.
قال الشيخ لمن كان يتحدث إليهم من أبنائه: إنني يا أبنائي - كما لا بد أن تكونوا قد علمتم - من أشد الناس حرصا على حقوق الإنسان، وعلى رأسها حقوق الحياة، والحرية، والمساواة بين الناس، لكن الأمر في حقوق الإنسان ليس هو أن نردد بالألسنة والأقلام أسماءها، بل هو أن نكون على وعي بأبعاد المعاني، التي جاءت تلك الأسماء لتشير إليها، حتى إذا ما تبينت لنا حدودها، حولناها إلى سلوك نسلكه، وإلى عادات نعتادها، بحيث تجيء الأفعال مجسدة لما هو مقصود بحق الحياة وحق الحرية وحق المساواة، وغيرها من حقوق الإنسان، حتى ولو لم ننطق بأسمائها مرة واحدة.
فماذا نعني بأن يكون للإنسان حق «الحياة»؟ هل يقف المعنى عند حدود التنفس ودوران الدم في العروق؟ أنكتفي من معنى «الحياة» بألا يقتل أحد أحدا بغير حق؟ أم تجاوز هذا الحد، الذي هو مسلم به سلفا ولا يحتاج إلى خلاف وجدل؟ وأولى الخطوات التي نخطوها في سبيلنا إلى المعنى الموسع، هي أن نجعل فردية الفرد من الناس، أساسا أوليا للتعامل معه في حياة المجتمع، التي يتفاعل فيها «أفراد» من الناس، وإنها لضرب من اللجاجة الفارغة، أن نحتج على «فردية» الفرد، باستحالة وجود ذلك الفرد أساسا، ما لم يكن فردان من الناس قد تلاقيا في أسرة لينسلاه، هي لجاجة فارغة لا نجني منها إلا دورانا في دائرة مفرغة، أولها هو آخرها، وآخرها هو أولها، دون الوصول إلى شيء نطمئن إليه، فالفرد من الناس، ليس كالنملة المفردة في جماعة النمل ، بل يضاف في حالة الإنسان جانب، هو بمنزلة الحد الفاصل الذي يقطع لنا باليقين، ألا وهو أن الإنسان كائن «خلقي» وهو «مسئول» عما يفعل، ومسئول كذلك عما ليس يفعله مما كان مكلفا من ربه بفعله، و«المسئولية» الخلقية تستحيل على الفهم إذا لم يكن الفرد فردا كائنا بذاته، له حق في أن يقول «نعم» وفي أن يقول «لا»، وبهذه الحقوق المتفرعة عن كونه «فردا» مسئولا يفهم معنى حق «الحياة».
فإذا انتقلنا بهذه التوسعة لمعنى حق «الحياة» إلى مجال التربية والتعليم، وضح لنا وضوحا لا تشوبه شائبة من غموض، أنه إلى جانب ما يشترك فيه الناشئة جميعا، خلال عمليات التربية والتعليم حيثما وقعت: في البيت أو في المدرسة أو في غيرهما مما عسى أن يندمج فيه الناشئ متأثرا بما ينصب عليه انصبابا من عوامل مؤثرة، أقول: إنه إلى جانب ما يشترك فيه الناشئة جميعا، مما هو مؤسس على الجوانب التي يشارك فيها كل إنسان، بحكم كونه إنسانا، فهناك الجوانب «الفردية» المتفردة التي يتميز بها كل فرد دون سائر الأفراد أجمعين، وإنه لضرب من القتل أن يجيء نظام تعليمي فيغتال في الفرد فرديته التي تميز بها، أي إنه حرمان للفرد من حق «الحياة»، أن تطمس فيه ما قد ألهمه الله إياه ليكون إنسانا مع سائر الناس، ومتفردا دون سائر الناس، في وقت واحد.
ومضى الشيخ في حديثه مع أبنائه، يذكر لهم لقطات من ذكرياته في مجال التعليم، قائلا: إنني قد دربت نفسي تدريبا متعمدا، على أن أبحث في طلابي عن مواضع الاختلاف التي يتميز بها كل منهم دون سائرهم، فبهذا الاختلاف كانت تتكامل عندي صورة أقرب إلى الدقة عن ملامحه وقسماته، وإن موضع الاختلاف في الفرد هو نفسه موضع «الموهبة» إذا كانت موهبة، بل هو كذلك موضع العجز والقصور إذا كان هناك عجز وقصور به، وكيف أنسى «فلانا» حين جاءني فيما بين المحاضرتين من فراغ، جاءني وقسمات وجهه ترتعش؛ فالشفتان قد اضطربتا فاضطربت كلماته، والعينان كأنهما تنطقان بأن وراءهما نفسا تلتهب بالثورة ، كل شيء فيه كان مزلزلا ينبئ عن براكين تفجرت أو هي وشيكة التفجر، فلما أن نطق لي بما قد نطق، كان موضوع التعليق وموضوع السؤال مما يقتضي من العقل هدوءا بلغ غايته لكي يتاح للعقل أن يتأمل الموضوع الذي أثاره، فهل يمكن أن تمر هذه الظاهرة على إنسان خبر الناس ومسالكهم، دون أن يلحظ التناقض الشديد بين الجسد المزلزل من الداخل، وبين موضوع عقلي صرف طرح للمناقشة والسؤال؟ إذن فهذا شاب يكتم ما ليس يبديه ويبدي ما ليس يكتم، وربما دهش ذلك الشاب حينما وجدني أقفز من موضوعه المطروح لأسأله: هل أنت مقيم في أسرتك مع والديك؟ فما هو إلا أن يكشف عن خبيء، استحق مني أن أربت بكفي على كتفه قائلا: كان الله في عونك لتجتاز العاصفة وتخرج سالما، إنه شاب يبدي من علامات الذكاء الحاد ما يبديه، ولولا عواصف حياته الشخصية لكان له شأن في حياة أمته، ولقد كان له بالفعل شأن، لكنه كان شأن من ضربته عجلات المجتمع بأنيابها، فلو أنه أخذ على فرديته، ولم يصب في قوالب أعدت لسواه ولم تكن صالحة له، لأمكن أن يكون ثروة عقلية لبلده.
ومضى الشيخ في حديثه قائلا: وكذلك لست أنسى «فلانا» حين تلمست فيه مواضع الاختلاف، فكان أن وجدتني مع شاب بدت فيه البوادر قوية، تشير إلى ميله نحو أن يخرج على مألوف الناس، لا بالغباء الذي يشد صاحبه إلى قاع البئر، بل بالذكاء الذي يجذب صاحبه إلى أعلى، وأذكر أنه اجترأ ذات يوم بما لا يجيزه العرف بين طالب وأستاذه، لكنني قابلته بابتسامة المتسامح، مسرا في نفسي أن مجتمعنا قد بلغ من ركود الفكر، ما أصبح به في حاجة ماسة إلى مثل هذه الجرأة التي تخترق أقراص الشمع التي تجمدت على فوهة الزجاجة فكتمت أنفاسها، ولن أذكر مزيدا من قول عن ذلك الشاب الذكي الجريء؛ لأني لو فعلت لعرفه الناس؛ إذ هو الآن في حياتنا الفكرية سراج .
وسراج آخر شهدته حين بدأ وهو طالب فلسفة ينحو بموهبته نحو شيء يوازيها وإن لم يكن منها، نعم شهدته وهو لم يزل ذبالة ضئيلة، تضيء شعلة خافتة، في مصباح صغير مداده زيت، ومنذ تلك الولادة الأولى لم يكن لتخفى فيه رغبته في ألا يكون محسوبا على أحد، حتى خيل إلي آنئذ أنه يكره أن يقال عنه إنه طالب تلقى علمه على يد فلان وفلان من أساتذته، ولكنني أذكر جيدا ما كنت أسره في نفسي كلما لمحت منه لمحات أراد أن يرسخ بها فرديته المستقلة، فقد كنت أحس فرحة من يرى إنسانا فردا يولد، راجيا، وداعيا له بأن يصمد بهذا التفرد أمام مجتمعنا بموجه العاتي، وهي فرحة لا تقل عنها فرحتي الآن كلما وجدت له مقالا يقرأ أو سمعت له حديثا يذاع.
ونعود معا يا أبنائي - هكذا قال شيخنا - إلى حديث التربية والتعليم في وقت يراد فيه أن ننهض بهما نهضة تتناولهما من الجذور، فإنني لو استطردت في ذكر أمثلة مما وقع لي في خبرة حياتي من أفراد دفعتهم مواهبهم أن يتفردوا فكرا وسلوكا، لا بعون يتلقونه من نظام التعليم والتربية كما هو قائم، بل بالرغم منه، أقول: إني لو استطردت في ذكر أمثلة من هؤلاء، لاستغرقت الأمثلة وقتنا الذي اجتمعنا فيه لطرق باب الإصلاح الجذري للتربية والتعليم، فلعله قد بات واضحا مما قلته، ماذا أريد قوله بعد ذلك، فقد أردت أن أبسط بين أيديكم عقيدتي الراسخة، بأن مفتاح التقدم مرهون بأصحاب المواهب، والموهبة لا تكون إلا في «فرد» يختلف بموهبته تلك عن سائر الأفراد، والموهبة لا تكون من المواهب في شيء، إذا جاء صاحبها وهدفه أن يحاكي ما هو قائم بالفعل، إن مجرد المحاكاة العمياء قدرة يشترك فيها القردة، فليست هي إذن بموهبة يعتز بها صاحبها وتعتز بها أمته كلها عن طريقه، وإنما خلقت المواهب في الموهوبين لتكون أدوات حية يغيرون بها الحياة، فإذا كان غمار الناس يريدون ليومهم أن يجيء صورة مكرورة من أمسهم، فأصحاب المواهب - كل في ميدان موهبته - لا تستريح جنوبهم على مضاجعها ما لم تتغير على أيديهم أوضاع الحياة، إذا كانت تلك الأوضاع قد استنفدت زمانها.
وفي هذا القول ما يهدينا إلى موضع الجذر العميق الذي إذا تغير تغيرت معه الشجرة كلها جذعا وفرعا وزهرة فثمرة، وذلك الجذر العميق، هو البحث خلال عمليات التربية والتعليم عن المواهب وأصحابها، إننا إذ نضع جميع المواطنين في غربال العمليات التعليمية بكل درجة من درجاتها، يجب أن نفتح أعيننا لنرى الموهوب لنضعه بين قوسين، فيبرز وجوده وسط الخضم المستور، وعندئذ ندبر للمواهب طرقها التي تشحذ مواهبهم فترهفها، وإذا نحن أمام مجموعة ضخمة من علماء، ورجال فن وأدب وفكر وحكم وتنفيذ، إن تقدم الأمة مرهون بالموهوبين من أبنائها، وربما كانت الوظيفة الضرورية الموكولة لغمار الناس، هي أن يقاوموا خوارق المواهب ومغامراتها، فيعتدل من الجذب والشد ميزان الحياة.
كل هذا الذي وضعته بين أيديكم يا أبنائي - هكذا مضى الشيخ في حديثه - إنما هو بعض التوضيح لما يتضمنه حق «الحياة» الذي هو على رأس قائمة الحقوق المعترف بها للإنسان، وقد أردت أن أبين لكم كيف يتضمن هذا الحق - أن يتاح للفرد كل فرد - أن يظهر مكنون طبيعته، حتى لا يحيا بجانب من حياته دون جانب، فإذا انتقلنا بالحديث إلى حق آخر من حقوق الإنسان المقررة على كل لسان، وأعني حق «الحرية»، وجدنا أنفسنا في نهاية المطاف، قد وصلنا إلى النقطة عينها التي انتهى إليها حق «الحياة» كما أوضحناه، بل إن مجموعة الحقوق الإنسانية كلها، إذا تعقبناها إلى ما يتفرع عنها، وجدناها كالبنيان الواحد يشد بعضه بعضا.
Bog aan la aqoon