إلا أننا ونحن غرقى في مثل هذا الضباب الذي تنطمس به معالم الطريق، لأشبه بمن أحاطت به الجدران فحالت بينه وبين الواقع ليتعامل معه، فهلا اخترقنا تلك الجدران بضروب من القول الذي يهدي وينفع؟
من ذا يزيح هذا الضباب؟
إنك لتسعى وراء المحال، لو سعيت وراء معنى واحد محدد، لا لبس فيه ولا غموض لكلمة «ثقافة»، فهي أقرب إلى متاهة تشابكت فيها المسالك وتشابهت، أو هي كالغابة تكاثرت أشجارها وضاقت طرقاتها؛ ففي كلتا الحالتين، وأعني المتاهة والغابة، يصعب على المرشد أن يصف الطريق لسالك - يريد أن يستطلع أجزاءها وأطرافها وحدودها - ثم يضمن لنفسه الخروج دون أن يضل الطريق. ولماذا كان اسم «الثقافة» بهذا التعقيد كله وبهذا الغموض كله؟ يبدو أن السر في ذلك هو أن هذا الاسم لم يطلق على مسمى محدد معلوم، وإنما هو كطائفة كبيرة جدا من الأسماء في أية لغة شئت، قد أطلق على «محصلة» لعدد ضخم من العوامل المتجاورة أو المتفاعلة، بحيث يجوز لك أن تجتزئ ما شئت من تلك العوامل، لتطلق عليه الاسم ذاته الذي تطلقه على العوامل كلها مجتمعة ومتفاعلة، وإلا فأين هو المسمى لكلمة «تعليم»؟ إن ثمة جهازا طويلا عريضا متعدد الأقسام والأجزاء، من مدارس وإدارات تموج بالأفراد أشكالا وألوانا، وذلك الجهاز الضخم بكل ما فيه ومن فيه، هو ما تشير إليه كلمة «تعليم»، لكنك أيضا تستطيع، بغير خلل في استخدام الكلمة، أن تشير بها إلى مدرسة واحدة، أو مجموعة من مدارس، وحتى الأسماء التي أدخلت في لغة الناس لتشير إلى فرد واحد، إذا أنت أمعنت فيها النظر، وجدتها قد تطلق على الكل أو على أي جزء منه، وخذ اسم «القاهرة» - مثلا - تجد مسماه شاملا للمدينة كلها، مقصورا على بعض أجزائها أحيانا؛ إذ في وسعك أن تشير إلى حي من أحيائها، لمن يسألك: أين القاهرة؟ فتجيبه: هي هذا الذي أنت الآن فيه. وشيء من هذا يقال عن «الثقافة»، فهي كالمدينة الواسعة المتعددة الوجوه المتباينة النشاط، ولك أن تطلق الاسم على أي جانب منها أو مجموعة جوانب، دون أن يكون في مستطاعك أن تحصر جميع أجزائها حصرا شاملا، إنها كالحياة ذاتها، تعرفها من نبضة واحدة في كائن حي واحد، كما تعرفها من مجموعات الأحياء التي تراها في حشد من الناس، أو في جماعة من الطير وغير الطير من أحياء.
ولكم سأل سائل: ما هي «الثقافة»، ومن هم «المثقفون»؟ ولكم أجاب المجيبون بإجابات مختلفة كلها صحيحة، وإنني لأروي عن نفسي في أربع لحظات متباعدة، كنت في كل لحظة منها أطالع تعريفا للثقافة جديدا بالنسبة إلى علمي في تلك اللحظة، فأحس فرحة من وقع على نفيسة من النفائس، صائحا لنفسي: نعم! هذا هو التعريف الذي يفضل ما عداه! وكانت أولى تلك اللحظات الأربع، عندما كنت أقرأ ذات يوم بعيد مجلة إنكليزية في اللغة، ولكنها تصدر في الهند، وكان الموضوع الذي أطالعه تحت هذا العنوان «من هو المثقف؟» وإذا بالإجابة عند كاتب المقال، هي أن المثقف يميزه أن يكون «طلعة» (بضم الطاء وفتح اللام)، أي أن يكون ميالا لاستطلاع المجهول، وأخذ الكاتب يحلل ويسهب في التحليل، مما خرجت به مقتنعا بأن ذلك حقا هو التعريف الصحيح، وكان مما زادني اقتناعا، هو ما كنت أعلمه قبل ذاك، من أن أحد التعريفات التي حدد بها اليونان القدماء «الفلسفة» هو أنها «حب استطلاع المجهول». وأما اللحظة الثانية فكانت أيضا عندما كنت أقرأ مجلة أمريكية، لا أظنها معروفة لكثيرين، لكنها على درجة من العمق قل أن «تنافسها» مجلة أخرى، وترجمة عنوانها هي كلمة «العلامة» الأمريكي (بتشديد اللام)، أو ربما كانت الترجمة الأصح هي «البحاثة» الأمريكي (بتشديد الحاء)، ولاختيار هذا العنوان لتلك المجلة قصة يحسن الإشارة إليها: وهي أن ذلك كان هو نفسه العنوان الذي اختاره «إمرسن» لمحاضرة ألقاها في إحدى الجامعات الكبرى بالولايات المتحدة (لعلها جامعة هارفورد) وكان ذلك في منتصف القرن الماضي، فاشتهرت تلك المحاضرة شهرة واسعة؛ لأنها كانت صيحة، يمكن أن يقال عنها إنها الحد الفاصل في تاريخ الثقافة الأمريكية بين عهدين: فما قبلها كانت الثقافة الأمريكية مجرد أصداء تردد ما يدور في أوروبا، وأما ما جاء بعدها، استجابة لصيحة «إمرسن» فمحاولات جادة نحو أن يبدع المبدعون الأمريكيون «ثقافة أمريكية لحما ودما»، فكان ذلك هو ما أرادته المجلة المذكورة شعارا لها. ونعود إلى ما كنا فيه من حديث، عما قرأته في تلك المجلة تحت عنوان «المتنورون» أو قل «الصفوة»، وهنا كان تحديد «المثقف» مرهونا بقدرته على تحليل الأفكار، تحليلا يبين الفواصل الحادة بين فكرة وفكرة، حتى لو كانتا شبيهتين، ثم تحديد الفواصل الفارقة بين المكونات الجزئية التي تدخل في تركيب الفكرة الواحدة؛ وذلك لأن الأفكار لو تركت في عموميتها لصارت في متناول العامة، ثم صارت في الوقت نفسه مصدرا للخلط والتخليط، بحيث يسهل على كل من شاء أن يسيطر على عامة الجمهور، أن يقودهم إلى حيث يريد لهم أن يقادوا، مستخدما في ذلك فكرة أو أفكارا من تلك الغوامض، التي سهل على عامة الناس أن يرددوها، بمقدار ما صعب عليهم أن يفهموها.
وكانت اللحظة الثالثة من تلك اللحظات الأربع هي تلك التي أدركت فيها لأول مرة، إدراكا قويا وواضحا، أن الفكر الفلسفي قوامه «منهج» في تحليل المعاني ، دون أن يكون له بالضرورة «موضوع» معين خاص به، يحتكره لنفسه، حتى ليمكن تعريف الفلسفة من هذه الزاوية، بأنها «علم المعاني»؛ لأن المادة التي تصب عليها فاعليتها، هي تلك المعاني الأساسية المحورية، التي تدور حولها رحى الحياة الفعلية كلها: ونحن إذا قلنا إن تلك هي العلامة المميزة للفكر الفلسفي، فكأننا قلنا في الوقت نفسه، إنها هي العلامة المميزة للمثقف، بحيث تصبح الدرجات التي يتفاوت بها المثقفون، هي نفسها الدرجات التي تتفاوت بها قدراتهم على تحليل المعاني، بمقدار ما يستطيع إنسان معرفة العناصر المكونة لفكرة ما، يكون نصيبه من فهم تلك الفكرة.
وأما اللحظة الرابعة، التي زودتني بإضافة بعيدة المدى لمعنى «الثقافة»، من هم «المثقفون»، فهي تلك اللحظة التي بدأت عندها أتبين كم من الأسماء، في أية لغة من لغات البشر، لا يتحدد معناها بأن نجد شيئا محددا نشير إليه بحيث نقول: هذا هو المسمى المقصود بذلك الاسم، بل إن معناه هو عدد لا يحصى من جزئيات مؤتلفة أو متفاعلة، ويصح إطلاق الاسم على المجموع كله، كما يصح إطلاقه على أي جزء منه؛ ومن هذا القبيل كلمة «ثقافة»، ولنضرب مثلا واحدا نوضح به ما نريد، ثم ننتقل بعده إلى ما نعتزم الانتقال إليه؛ فافرض أننا في فصل الربيع، وسألك سائل: أين هو الربيع؟ فإلى أي شيء تشير؟ إن الربيع «محصلة» عناصر كثيرة، فالأشجار تورق، والعصافير تزقزق، والهواء يطيب، والأزهار تتألق، إلخ إلخ، فإذا استطعت فاجعل الإشارة إلى كل هذه العناصر، لتبين لصاحبك حقيقة الربيع، وإذا شئت فاجعل إشارتك إلى ظاهرة واحدة كتغريد العصافير؛ لأنها تكفي.
عد إلى تلك اللحظات الأربع التي أضفت لنفسي عند كل لحظة منها بعدا جديدا في معنى «الثقافة»، كانت الأولى حب الإنسان لاستطلاع المجهول، وكانت الثانية إقامة الفواصل الحادة والفارقة بين فكرة وفكرة، لا سيما إذا كانتا متشابهتين، وكانت الثالثة أن ينظر الباحث إلى الأفكار السائدة بمنهج يردها إلى أصولها لتزداد وضوحا، وكانت الرابعة أن ننبه إلى أن كثيرا جدا من الأسماء ، لا يشير الاسم الواحد منها إلى شيء واحد، بل يشير إلى محصلة مجموعة هائلة من العناصر المتجاورة، والمتزامنة، والمتفاعلة، بعضها مع بعض؛ فإذا ألقيت نظرة مقارنة بين تلك النقاط الأربع، لحظت أمرين: أولهما، أنها جميعا تتعلق بالمعرفة التي هي أقرب إلى المعرفة «العلمية» عن الأشياء، وثانيهما هو أنها جميعا تتصل بالرغبة في «وضوح» الأفكار، وتخليصها من اللبس والتداخل، والغموض، وليست الحياة الثقافية لفرد، أو لشعب، مقصورة على تلك الوقفة العلمية وحدها، وهي الوقفة التي ترتكز على «أفكار»، ثم على أن تكون تلك الأفكار «واضحة»، بل إن هنالك في الحياة الثقافية جوانب أخرى أوضح من أن يغض عنها بصر، وأعني مجموعة القيم الإنسانية المبثوثة في الدين، وفي الفن، وفي الأدب، وفي كثير من التقاليد والأعراف، لكننا نريد أن نحصر حديثنا هنا على الوقفة العقلية وحدها، وهي الوقفة التي تنتمي إليها النقاط الأربع التي ذكرناها، على أن يكون مفهوما في وضوح أن الحياة الثقافية وهي معاشة وممارسة في الوجود الفعلي، لا تتجزأ بين فروعها، بل إنها لتتوحد مع حاملها وعائشها وممارسها، في «رؤية» واحدة، أو «وجهة نظر» واحدة، أو «حساسية» واحدة.
وبعد هذا التحوط الذي كان لا بد من التحوط به حرصا على الدقة، نسأل أنفسنا: كم يا ترى من تلك الجوانب المكونة للجانب العقلي من الحياة الثقافية، قد تحقق لشعبنا المصري، أو لأمتنا العربية بوجه عام؟ كم عند المواطن العادي من حب استطلاع المجهول، والمجهول المقصود هنا، ليس بالطبع أسرار الناس في حياتهم الخاصة، بل هو ما يتصل بحقائق العالم وطبائع الأشياء، كم يعرف المواطن العادي، وكم يريد أن يعرف عن تفصيلات بيئته وكائناتها، من نبات وحيوان وبحر ويابس؟ كم يعرف وكم يحس الرغبة في أن يعرف عن حقائق الشعوب الأخرى، وعقائدها، وفنونها وآدابها وعلومها؟ إنه قد لا يكون العيب الذي يعاب على الجاهل هو أنه يجهل، بقدر ما يكون العيب الذي يعاب به هو أن يجهل ثم لا يريد أن يعرف.
ذلك عن النقطة الأولى، وأما الثانية التي هي إيجاد الفواصل بين الأفكار، رغبة في الوضوح، فحسبك جملة واحدة تلقفها من أي مواطن عربي تتحدث إليه - وأعني متوسط المواطن ممن ندخلهم في زمرة «المثقفين» - لنقف معه عند تلك الجملة الواحدة، سواء أكانت في السياسة، أو في النقد، أو حتى في الحياة العامة، لترى كم تتضح له الأفكار التي يتحمس لها، أو التي يتحمس عليها، فافرض - مثلا - أن محدثك قد أورد في سياق حديثه جملة كهذه: إن حضارة هذا العصر حضارة مادية، أو أننا نسعى إلى إقامة عدالة اجتماعية، أو أن الوزن في الشعر الحديث موسيقاه داخلية، أو أن اللغة العربية لغة صحراوية (وكل هذه الجمل سمعتها من المتحدثين إلي منذ قريب)، وافرض كذلك أنك لم ترد لهذه الألفاظ أن تفلت من محاكمات العقل، فسألت محدثك: ماذا تعني بصفة «المادية» عندما تصف بها حضارة بأسرها، وماذا تعني ب «العدالة» أولا، وبها وهي «اجتماعية» ثانيا؟ وماذا تعني بالموسيقى «الداخلية» التي زعمتها للشعر الحديث؟ وأخيرا ماذا تعني ب «صحراوية» اللغة العربية؟ ولاحظ «أرجوك» أنني لا أريد مقدما أن أرفض هذه الدعاوى؛ فقد يكون بعضها أو جميعها صحيحا، لكن الذي أريد هو أن أتحقق من أن المثقف صاحب هذه العبارات قد أخذ نفسه أخذا بألا يلقي بكلماته جزافا، وبأن يكون قد حاسب نفسه ليستوثق بأنه يعرف على وجه الوضوح الناصع، معاني كلماته، فكم منا هو على هذه الدقة في ألفاظه ومعانيها؟
والنقطة الثالثة إنما هي النقطة الثانية بعد أن تتبلور في صور منهجية لتصبح «وقفة» عامة في حياة الإنسان، وليس مجرد حالات فرادى لا رابط لها يربطها معا في أسرة واحدة، فلا يكفي أن أطالب نفسي بدقة المعنى في هذه الحالة، وفي هذه، وفي تلك، بل يجب أن يتحول الأمر معي إلى طريقة حياة - وأعني بالطبع الحياة الفكرية - والذي أود أن أؤكده للقارئ في هذا الصدد، هو أن الأغلب المرجح في حياتنا الفكرية، أن يتعامل «المفكرون» و«النقاد» بل و«العلماء» أحيانا، برواسم لفظية (أعني «كليشيهات») يقولها القائل مفترضا فيها الوضوح، ويسمعها السامع مفترضا فيها الوضوح، ثم ينتهي بها الأمر عند هذا الافتراض الزائف، لماذا تتعجب أن ما ينشر وما يذاع من «أفكار» لا يغير الناس إلا بالقدر الذي لا تلحظه عين؟ كم ألف ألف مرة قيلت فيها كلمات «الحرية» و«الديمقراطية» و«المساواة» و«الانتماء الوطني» و«التعاون» و«التعاطف» ومراعاة المال العام وكأنه مال خاص، إلخ إلخ، ومع ذلك إلى أي حد تشربت النفوس هذه المعاني، تشربا يتحول معها إلى سلوك؟ أقول: لماذا نتعجب من أن تعليمنا وإعلامنا، لا يؤديان إلى سلوك جديد، أليس السبب في ذلك واضحا، وهو أنها «كليشيهات» تجري على الألسنة والأقلام، وأما معانيها الحقيقية فالله وحده أعلم كم منها وضح أمام العقول.
Bog aan la aqoon