5
ويطلع الملحد بسمارك على كتاب من صديقة بعيدة مصدورة عاشقة له وعاجزة عن الوفاة حتى يهتدي، ويعقب ذلك كتب مبجلة من بلانكنبرغ مملوءة وعودا مؤكدة وتموت تلك الفتاة الغريبة المصدورة، ولكن مع «يقينها بأنك لن تخسر نفسك. آه، لو كنت تعلم مقدار دعائها من أجلك!» ولم تنته أجوبة بسمارك إلينا، فقد أتلفها بلانكنبرغ بعد ذلك عن حقد سياسي، ولكننا نقرأ في رد عليه: «لم سكبت سخين العبرات؟ ولم ملئت عيناي دموعا عندما قرأت كتابك؟ أجل، يا أوتو، أوتو، إن كل كلمة تكتبها صادقة.» وقد اعترف بسمارك مؤخرا بأن هذه الحوادث كانت ذات أثر كبير في نفسه، ويقطع بسمارك تبادل الرسائل ذلك فورا؛ وذلك لما يسفر عنه كبرياؤه من تعذر احتماله للعطف، وهو لم يلبث أن شعر بأنه مصنف مصفوف أيضا، فعاد لا يطيق سماع كلمة في الموضوع.
ولم تلبث تلك الأرض الحجرية أن امتصت ماء السماء، ولا عجب إذا ما بكى عند سماعه نبأ وفاة فتاة كانت تحبه سرا، وهذا الرجل الطويل النجاد،
6
وإن كان كثير المجون، شديد الإحساس فيبكي بسهولة، كما يدل عليه أمره غير مرة في الأزمات السياسية الكبيرة القادمة، وهو ليس بالذي يعتريه ذلك من غير أن يبدي وجدا، وهو ذو طبيعة غريبة، فتمر طريق الإيمان منها بعد أن تجاوز منطقة الخرافة التي ظل مرتبطا فيها مدى حياته، وهو إذا ما أصابه خير غير منتظر حاول أن يبصر القدرة الصمدانية من خلاله، وهو قد كتب يقول مشيرا إلى خطبته الأخيرة: «لو كان لدي شك في العناية الربانية وفي رضاها الخاص عني لزال هذا الشك عند حل عقدة تلك الخطبة التي استمسكت بها عن وجد شارد.»
بيد أن ارتيابه المتنبه يبدو، فيكتب إلى أبيه بعد عاصفة بحرية قائلا: «لقد أغمي على بعض السيدات، وقد بكى بعض آخر منهن، ولم يقطع الصمت في حجرة الرجال غير دعاء تاجر من بريم بصوت عال بعد أن ظننت عنايته بصدرته أكثر مما بربه. وهكذا كان لنا خلاص بصلاة هذا السيد البريمي في هذه المرة أيضا.»
وأسفر عرس ماري فون تادن عن احتراق القرية كلها بالأسهم النارية، فلما أشار بعض الأتقياء على الناس بالدعاء أكثر مما بالإطفاء استشهد بسمارك بقول كرومويل: «اتكلوا على الرب يا أبنائي، ودعوا البارود يكون جافا!» وركب حصانا وقضى ليلته في مكافحة النار، وفي الغد جادل بعضهم في إباحة التأمين على أنه يجعل الرب افتراضا، فقال بسمارك: «حقا إن ذلك تجديف صرف؛ فالرب يستطيع أن يصيبنا!»
ومنذ قليل شاع في بوميرانية أن بسمارك عاشق للسيدة بلانكنبرغ، والحق أن ذلك لم يكن في غير محله؛ فكلاهما كان يعيش معا، وكلاهما كان يسبح في بحر من الأحلام معا، وكان متعصبا لبايرون، وكانت متعصبة لجان بول الذي لم يعجب به أوتو قط. وهي لم تعتم أن صارت أما، فتقول له «دعني أبلغك أن من يغشون حلقتنا قليلون، وقد قصدتها الآنسة (س) التي هي مليحة، وأن جميع الغواني والعواجز يلدن، وأنني سأكون بعد يومين في كاردومن (من أملاك بلانكنبرغ)، حيث أتناول شايا فنيا، وحيث أطالع وأدعو، وحيث آكل أناناسا.» وبهذا اليسر تراه يقوم بما يفرض عليه من عبء في تلك البيئة ما وجد فيها عافية وما وجد فيها ما يبحث عنه من ذكاء وجمال شكل «وحياة منزلية أكون عضوا فيها، ومن مقام تقريبا.»
ومن الواقع أن ظلت أعصابه نزقة حتى في ذلك المقام، ويغدو في إحدى النزه سوداوي المزاج من فوره، ويمكن ألين القول أن يقوده إلى الضنى، وتروي ماري «أنه يسهل قياده إذا شعر بأنه قبضة صديق.» ولما أرادت ماري أن تغيظه فأحزنته بصرير كأسين ضرع إليها أن تكف قائلا: «إن هذا يثير الأشجان، إن هذا يذكرني بقصة الكونت هوفمان حول النفس السجينة في كمان.»
وذات يوم يلاقي حنة فون بوتكامر في منزل بلانكنبرغ، وليس لها سحر ماري، فهي قصيرة، وهي سمراء، وهي خفيفة، وهي إيطالية المنظر، غير أنها ذات بصر حديد، وتلمع حرارة فؤادها من عينيها الشهباوين، وتسطع من شخصيتها ذات الحماسة، والذي يميزها من ماري هو ظرفها وعدم تصنعها وعنف مشاعرها، ولا تقدر على التفكير مرتين، ويسهل أخذها بالعاطفة التي تنعش بدنها النحيف النحيل، وحنة من الفتيات اللاتي يتمسكن بأي قرار بعد اتخاذه، وحنة تخصص نفسها، بلا تحفظ، للرجل الذي تهب له حبها، فلا تسأله شيئا لذاتها وتسر بما يحدث من تضحيتها، وكل ما تحتاج إليه هو وجود رجل يكون دليلا لها، وكل ما تقدمه هو ميناء أمين من هبوب الريح.
Bog aan la aqoon