ويرى الأقارب الأباعد الذين لم يبدوا استعدادا لمد يد العون أن يظهروا توجعهم، وترانا مدينين لكتاب ابنة عم موزعة للنصائح بجواب بسمارك المهم الصريح الذي حلل فيه نفسه بأشد مما فعل في حياته، وبسمارك كان عاشقا لها قبل سنة أو سنتين، وبهذا نرى سر تسويغه لهذه المرأة ما صنع، وبسمارك أدرك ما لهذا الجواب من خطر فاحتفظ بمسودته، ثم أرسل هذه المسودة إلى خطيبته بعد عشر سنين لتكون وثيقة لترجمة حاله، قال بسمارك:
إن ما كان منذ البداءة من عدم ملاءمة الإدارة والأعمال الرسمية لي، وما كان من عدم عدي الوظيفة، وإحدى الوزارات أيضا؛ عامل سعادة لي، وما كان من اعتقادي أن زراعة البر
10
مصدر احترام ككتابة المراسيم الإدارية إن لم تزد عليها، وما كان من حفز طموحي إياي إلى القيادة أكثر مما إلى الطاعة لأمور لا سبب لها غير ذوقي، وما الموظف البروسي إلا كالموسيقي في جوقة، فسواء عليه أعزف على الكمان أم على المثلث من غير أن يرى المجموعة ويؤثر فيه، لا ينبغي له سوى إنجاز فصله كما هو مكتوب له، بيد أنني أود أن أعزف كما أجده صالحا أو لا أعزف أبدا ...
والحق أن حب الوطن هو الذي يدفع أقطاب السياسة القليلين المشهورين في البلدان ذات النظام الملكي المطلق على الخصوص، إلى سلوك سبيل الخدم العامة، وفي الغالب يتجلى الباعث في الحرص وحب القيادة والطمع في إعجاب الناس والرغبة في الشهرة، ولا أرى غير الاعتراف بأنني لست مبرأ من هذا الهوى، فأجد كثيرا من المميزات، كالتي يتصف بها الجندي في ميدان الوغى والقطب السياسي في البلد الحر مثل بيل وأوكونيل وميرابو ... إلخ، والرجل الذي يمثل دورا في الانقلابات السياسية، مما يستهويني ويجتذبني اجتذاب النور للبعوض.
وأراني أقل انجذابا إلى كل نجاح يأتيني من الطرق المعبدة بالامتحانات والدسائس والوثائق والقدم وعطف الرؤساء، وأجد - مع ذلك - أويقات لا أفكر فيها من غير أسف على المسرات الزاهية التي تنتظرني في الخدمة العامة والانشراح الذي يتفق له من الاعتراف الرسمي بقابلياتي حينما أرتقي بسرعة، والانبساط الذي يلائم عزتي وقتما أعد رجلا ماهرا نافعا، والمجد الباطني الذي يحف بي وبآلي في نهاية الأمر، ويبهرني جميع ذلك كثيرا إذا ما شربت زجاجة خمر جيدة، وأحتاج إلى تأمل دقيق رزين لأبصر ذلك من الوهم والعجب الذي يحكى انتفاخ المغناج بفعل لباسه أو غرور الغني بفعل ماله، ومن الغفلة واللغو أن يبحث المرء عن السعادة في رأي الآخرين، ومن الواجب أن يعيش الرجل الرشيد من أجل نفسه ومن أجل ما يراه صدقا وحقا، لا من أجل تأثيره في الآخرين، ولا من أجل ما يقال عنه في الحياة وبعد الممات.
والخلاصة هي أنني لست خاليا من الطموح، وإن كنت أعده سيئا كبقية الأهواء أو أكثر منها حماقة؛ وذلك لأنني إذا ما سلمت أمري إليه أوجب علي أن أضحي بجميع نشاطي واستقلالي من غير أن يضمن قناعة دائمة، حتى في أسعد الأحوال، ومهما بلغت من النجاح لم يكن لدي من الدخل ما يكفي لاحتياجاتي ولفتح بيت لي ما لم أبلغ الأربعين وأصبح رئيسا، فهنالك أكون قد هزلت بغبار الأضابير
11
وأصبت بالسوداء وصرت مريض الصدر والبطن بسبب جلوسي المستمر، فأحتاج إلى زوج تمرضني.
ولست أغوى بما يساورني من تلك الفوائد الزهيدة ومن رغبة كبيرة في أن أدعى بالسيد الرئيس ومن وثوقي بأن أكون نافعا للبلد بنسبة ما أكلفه مع الزيادة، فقد عزمت على حفظ استقلالي ونشاطي وهمتي، وعلى عدم التضحية بقواي الحيوية، مع وجود ألوف من الأشخاص، ومنهم الأكفياء، من يعدون تلك الأمور ثمينة فيفرحون بشغل المنصب الذي أتركه لهم مختارا.
Bog aan la aqoon