323

Bismarck

بسمارك: حياة مكافح

Noocyada

ويصل الكونت بولس شوالوف في اليوم التالي، ويأتي من سان بطرسبرغ مفوضا تفويضا تاما في تجديد المعاهدة الروسية لست سنوات بدلا من ثلاث سنوات، وهذا ما سعى إليه بسمارك منذ سنة، وسينتهي حكم المعاهدة في شهر يونيو، وتتوقف سلامة الإمبراطورية على راحة بالها من ناحية الشرق، وكان الإمبراطور الشاب قد وافق على ذلك التجديد، وكان القيصر على علم تام بضمن الأمر، فكتب على هامش إحدى وثائق الدولة يقول: «ومن أجل بسمارك ينطوي اتفاقنا الودي على ضمان بعدم وجود أي تفاهم مكتوب بيننا وبين فرنسة، وهذا ما يهم ألمانية إلى الغاية.» والآن يهز بسمارك كتفيه، ويقول للرسول الروسي المذعور إن ما أشيع من خبر قرب اعتزاله صحيح، وإنه يمكنه أن يسوي الأمر مع خلفه المجهول، وهنا نبصر أولى نتائج سقوط بسمارك وأخطرها، فقد تبودلت البرقيات مع سان بطرسبرغ وصارت روسية غير مطمئنة إلى سياسة ألمانية بعد أن أصبح تسريح ذلك القطب السياسي الممتاز قاب قوسين أو أدنى، ويرفض القيصر تجديد المعاهدة.

وفي ذلك الصباح، وفور معاهدة شوالوف للمستشارية، يعود الجنرال هنكه حاملا طلبا حاسما من الإمبراطور قائلا بوجوب إلغاء النظام الوزاري القديم، ويصعب على الجنرال أن يملك صوته وهو يقول: «وإلا فإن صاحب الجلالة ينتظر أن تقدموا إليه استقالتكم في الحال وأن تقابلوه شخصيا في القصر في الساعة الثانية بعد الظهر ليقبل الاستقالة.» «العالم ينهار!» هذا ما قاله الكردينال في الفاتيكان بعد معركة كونيغراتز، وما كانت هذه الكلمة لتدور في خلد بسمارك طرفة عين، وسيقول ما يفكر فيه حول المسألة بعد قليل، والآن يجيب عن ذلك هادئا: «لست من حسن الصحة ما أغادر معه المنزل، وسأكتب.» ويخيل إلى هنكه أن بسمارك ثوري بين سحابة حمراء وينصرف، ولما يمض قليل وقت حتى أخذ الأمير بسمارك من الإمبراطور مذكرة غير مختومة جاء فيها: «تدل تقارير قناصل ألمانية في روسية دلالة واضحة على أن الروس يقومون بحركات عسكرية استعدادا لمحاربتنا، فمن المؤسف جدا ألا تكون هذه التقارير قد بلغت إلي، وكان يجب عليكم أن توجهوا نظري إلى هذا الخطر الهائل الذي يهددنا! وقد أنى لنا أن نحذر النمسويين ونتخذ ما يجب من تدابير الدفاع ... ولهلم.»

والواقع أن هذه التهمة مختلفة، فليس في الأفق مثل ذلك الخطر، وإنما الحافز إلى تلك المذكرة هو الحرص على الانتقام الشخصي تجاه ذلك الخزي القاتل الذي أصاب بسمارك به ولهلم بذلك التقرير عما قاله قيصر روسية فروته سفارة لندن، ولا شيء يلائم بسمارك أكثر من كتاب القذف ذلك الذي أرسل إليه بلا غلاف ولا عنوان، وأول شيء يجب عليه أن يكتبه هو أن يرد عنه «تهمة الخيانة العظمى»، ويأبى الإمبراطور قبول الجواب، ويعيده بلا تعليق، وبسمارك الآن في وضع يعزو فيه سقوطه إلى أسباب سياسة عالمية لم يعارضه في ميدانها أي حزب حتى الآن.

وبسمارك بعد الظهر من ذلك النهار يشرح لمجلس الوزراء كيف نشأ الخصام، وبسمارك يختم كلامه العظيم بقوله: «وعلى ما كان من ثقتي بالتحالف الثلاثي لم يغب عن بالي إمكان حبوطه ذات يوم؛ وذلك لأن النظام الملكي في إيطالية غير ثابت الأساس، ولتهديد حزب الشمال الإيطالي ما بين إيطالية والنمسة من صلة؛ ولذا لم أدخر وسعا في عدم هدم الجسر بيننا وبين روسية ... وإني لما يمازجني من ثقة بمقاصد القيصر الودية لا أستطيع أن أعمل بما يود أن يوجهني به صاحب الجلالة في هذا المضمار، وأما قوانين حماية العمال فلا تستحق أن يجعل منها مشكلة وزارية، وإذا كنت لا أستطيع أن أدير دفة السياسة الخارجية كما أود انصرفت، وهذا يلائم رغائب الإمبراطور.» ويوكد بسمارك حسن صحته وقدرته على العمل، ويصرح بأن العامل الوحيد في اعتزاله هو إرادة عاهل يريد أن يتسلم زمام الحكومة بيده.

ويتوقف بسمارك مرة أخرى، وهل يدركون معنى فقد بسمارك وزيرا للخارجية؟ وهل يعربون بالإجماع عن عزمهم عن الاستقالة مؤثرين في الإمبراطور بذلك؟ وهم إذا فعلوا ذلك يكونون قد حذروا مولاهم الشاب من المستقبل، ويكونون قد أتوا عملا يستحق الذكر في التاريخ، ولكنك لم تسمع غير تمتمات، ومايباخ وحده هو الذي نطق بكلمته المهمة: «سيكون اعتزال المستشار كارثة قومية، وعلينا أن نحول دون اعتزاله، ولننصرف معه جميعا، وهذا الذي سأفعله مهما كان الأمر.» ويسير الجدال سيرا وديا ذات ساعة، ويفض الاجتماع مع الاحتجاج على اعتزال بسمارك، فلما حل المساء اجتمع زملاء بسمارك مرة أخرى، «وعدلوا عن فكرة الاستقالة الشاملة لمخالفتها تقاليد بروسية».

وبسمارك بعد تلك الجلسة يأمر بشد حصانه ويخرج من المنزل راكبا وإن لم يكن من عادته في مثل ذلك الحين من حياته وفي مثل ذلك الفصل من السنة؛ أن يأتي مثل ذلك العمل ، وهو قد صنع ذلك؛ لكي يري الإمبراطور مقدار الصحة في قوله له بواسطة هنكه: «لست حسن الصحة ...» ولكي يعجم عود أهل برلين - على ما يحتمل - ولكن لم يهتف له أحد، ولما عاد بسمارك إلى البيت وجد جوبيتر

2

قد أرسل إليه رسولا آخر في غيابه، وقد عاد إليه رئيس الديوان المدني لوكانوس في المساء، ويبدو هذا الرسول زاويا ما بين عينيه جزعا، وتقوم رسالته على سؤاله بأمر صاحب الجلالة عن سبب عدم تقديمه استقالته بعد، وهل يضرب بسمارك المائدة بجمع كفه الآن؟ كلا، وإنما يجيب عن ذلك بأدب: «يمكن الإمبراطور أن يعزلني متى أراد ... وإني مستعد أن أضع التوقيع الثاني من فوري على مرسوم عزلي، ولكنني أحمل الإمبراطور مسئولية تسريحي، وسأنشر الأسباب على الجمهور؛ ليدرك الحقيقة. ولا بد لي من وقت أسوغ به استقالتي أمام محكمة التاريخ بعد جهاد ثمان وعشرين سنة لم يخل من فائدة لبروسية وللريخ.» ثم عقب ذلك حديث كاد يفقد فيه رباطة جأشه، ويملي بعد ذلك صيغة استقالته ويصححها ويهذبها في الصباح التالي ويرسلها إلى القصر، وفي تلك الوثيقة يبين أوجه العراك الرئيسة ويختمها بكلمة المعلم الآتية:

إنني بعد النظر إلى إخلاصي في خدمة البيت المالك وخدمة جلالتكم وبعد النظر إلى الوجه الذي لاءمت به وضعا اعتقدت دوامه حتى الآن، وجدت من المؤلم جدا أن أترك علاقتي المعتادة بجلالتكم وبسياسة الريخ وبروسية العامة، ولكنني بعد أن رزت بدقة مقاصد جلالتكم التي لا بد لي من تنفيذها إذا بقيت في منصبي، رأيت أنه لا معدل لي عن الالتماس من جلالتكم خاشعا أن تتفضلوا علي بقبول استقالتي من منصب مستشار الريخ ومنصب وزير الخارجية مع منحي راتب التقاعد القانوني، وإني بعد النظر إلى ما كان من انطباعات في الأسابيع الأخيرة القليلة أجد مع الاحترام أن تقديم هذه الاستقالة يناسب رغائب جلالتكم وأرى أنها تقابل بالموافقة الكريمة، وكان يمكنني أن أقدم استعفائي منذ زمن طويل إلى جلالتكم لو لم أعتقد رغبتكم في الانتفاع بخبرة خادم آبائكم المخلص، والآن حين يساورني يقين بأنه لا حاجة لجلالتكم بذلك، يمكنني اعتزال الحياة السياسية غير خائف من حكم الرأي العام بأن ذلك وقع قبل الأوان.

فون بسمارك

Bog aan la aqoon