وما هدف إليه بسمارك فأكثر من طمأنة لا تمنع من زوال اتفاق الأباطرة الثلاثة من غير أن يقوم مقامه اتفاق آخر، فبسمارك أراد في هذه المرة وضع معاهدة مع النمسة، وإن شئت فقل أراد قيام محالفة حقيقية مع النمسة، يوافق عليها برلمانا البلدين وتدمج في دستوريهما. وليس الأمر غير عاطفي هنا؛ فقد ود بسمارك إعادة بناء ما هدمه الزمن، وقد خيل إليه إتمام الناقص فعن له إقامة دولة ألمانية أوسع نطاقا، وهل عاد الحاسب المتروي في السنوات 1860 وما بعدها غير موجود قبل انقضاء خمس عشرة سنة؟ وهل نسي إذن ما حفزه من سبب إلى إخراج ثمانية ملايين ألماني من الريخ تخلصا من شعوب أجنبية كثيرة ومن مزاحمة آل هابسبرغ؟ وقد انتهت تلك المزاحمة وسوي أمرها، ولكن تلك الشعوب الأجنبية لا تزال قائمة، ولكن الذي لا ريب فيه هو أن بسمارك الذي كان قد قوض شوكة النمسة جاء اليوم ينشد محالفة النمسة؛ لأنها ضعيفة!
وهكذا تبصر القدر يعيد العدو إلى ضحيته ويدفعه إلى الاتحاد بمن سبق أن كسر قواه وإلى الزواج بامرأة مسنة كان قد تركها حينما كانت فتاة، وهل وجد في شوق الفريق الآخر إلى المساومة ما يدعوه إلى التوقف؟ لقد أتى فرنسوا جوزيف الذي نزعت منه معركة كونيغراتز نصف سلطانه، ليزور بنفسه قاهره في منزله بفينة بعد تلك المعركة بثلاث عشرة سنة، غير أن الإمبراطور الزائر وأندراسي أصرا على رفض الحلف وفق الوجه الذي اقترحه بسمارك، وبسمارك كان قد قضى على الجامعة الألمانية، والآن لا يريد المغلوبون أن يثيروا ذكرى تلك الجامعة، ويريد بسمارك أن يخل بالتوازن الأوروبي في سبيل أوروبة الوسطى، وتفضل النمسة أن تولي وجهها شطر الشرق، وشطر الغرب عند الضرورة، ويرفض أندراسي الحرب بجانب ألمانية في سبيل الألزاس رفضا باتا، ويمكن الشيخ ولهلم أن يقول دهشا: «تلك إذن قسمة ضيزى!» وهذه هي أول مساومة في حياة بسمارك يعطي فيها أكثر مما ينال.
ويشتد شعور البغضاء في سان بطرسبرغ ضد ألمانية، ولما دفع حب الانتقام فرنسة إلى انتظار العون من روسية تطلعت فرنسة إلى المرضاخ
2
الغربي الشرقي الذي يسهل به كسر المحارة
3
إذا كان أحد فكيه مجوفا، وقد احتاج بسمارك إلى جهاد ثماني سنين لدرء هذا الخطر الذي أوجده، ولكن خلفاءه بعثوه مجددا.
وبسمارك - قبل أن يختار - أتى بعدة براهين مكتوبة جديدة عن روسية، ذاكرا ما لها وما عليها، قائلا إنها أقوى حليف من الناحية مشيرا إلى الولاء الملكي وغريزة المحافظة على النفس وفقدان الخلاف. ثم تكلم عن ضعف النمسة فبحث عما فيها من «تذبذب الرأي العام بين الشعوب الهنغارية والسلافية والكاثوليكية، وتأثير المرشدين في الأسرة الإمبراطورية واحتمال تأسيس صلات ودية بين النمسة وفرنسة على أساس روماني كاثوليكي»، ويذكر بسمارك المسألة البولونية، وقد عاد إليها في مذكراته، فيقول إن مسألة مستقبل بولونية ستكون على جانب كبير من التعقيد عند عقد حلف عسكري بين ألمانية والنمسة، وهو يلخص الأمر كما يأتي: «لا يمكن أن يدوم أي واحد من الحلفين: الحلف الأسري مع روسية والحلف القائم على العاطفة الشعبية بين الألمان والمجر، والذي يبقى هو كابوس الخوف من المحالفات الألمانية.»
وفي سنة 1880 يكتب قوله: «نرجو، ونريد، أن نظل في حال سلم مع روسية، فإذا تعذر ذلك لمهاجمة روسية إيانا أو مهاجمتها النمسة كانت محاربتنا لروسية وحدها أو محاربتنا لروسية وفرنسة وإيطالية معا ذات نتائج خطيرة، ولا نكون قد نلنا ما يعدل متاعبنا، ولو تم لنا النصر.»
وهكذا ينتصب شبح الحرب العظمى أمام بسمارك عند توقيع المعاهدة مع النمسة، ولن يقدر أحد على دفعه.
Bog aan la aqoon